لم يكن كلام الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله عن حكومة «سيادية» مجرّد زلّة لسان عابرة. فالرجل كان قد تعمّد تكرار هذه العبارة في إطلالتين متتاليتين، في رسالة واضحة تشي بميله وفريقه إلى تبنّي اسراتيجية مختلفة للتعاطي مع سياسة الرضوخ والطاعة العمياء للولايات المتحدة، المعتمدة من قِبل رئيس الحكومة سعد الحريري وحلفائه، من أجل إنقاذ لبنان من دوامة التبعية التي فاقمت من أزمات لبنان وحرمته من إيجاد حلول لمشاكله المالية والاقتصادية باعتماد بدائل متاحة، لإبقائه رهينة للإملاءات الأميركية.منذ ترؤس الحريري أول حكومة في عام 2009، وعملاً بسنّة والده، تصدرت «حماية المنظومة المالية» أول اهتماماته، وعلى رأسها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي حظي، ولا يزال، بدعم محلي ودولي منقطع النظير، وخصوصاً من الولايات المتحدة الأميركية التي حرص على التقيّد بكل فرمانات خزانتها المالية المتعلقة بمحاربة الإرهاب، والموجّهة أساساً نحو شريحة محدّدة أي «المقاومة وبيئتها»، واضعاً ذلك في إطار حرصه على «مصالح لبنان»...
سخّر الحريري جميع السلطات في الدولة (الأمنية والسياسية) لهذا الغرض، بل إنه لم يترك فرصة إلا أمعن فيها بابتزاز شركائه في السلطة، للحفاظ على إرث والده المالي والاقتصادي، بحيث كان دائم الإشهار لسلاح الاستقالة عند كل مفصل، أو بالأحرى عندما يذهب خصومه بعيداً في معارضته.
فكرة «التفرّد» في الحكم لم تفارق رئيس الحكومة يوماً. مع اندلاع «الحراك الشعبي» في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، ظنّ أن الفرصة باتت مؤاتية وسانحة لتحقيق هدفه، فرمى بورقة الاستقالة بوجه شركائه، ليتبعها باللجوء إلى لعبة الابتزاز المفضّلة (كونه الأقوى في الشارع السني)، من خلال تمنّعه عن القبول بالتكليف، وممارسة نوع من «الغنج» أو «الدلع» السياسي، لفرض شروطه إطلاق يده، عبر حصوله على صلاحيات استثنائية تسمح له بترؤسه حكومة «تكنوقراط» على قياسه، خالية من الأحزاب ولا سيما حزب الله (والتي يصادف أنها نسخة عمّا تطلبه بعض الدول)، ولا تضم أياً من القوى السياسية التي أفرزتها الانتخابات النيابية الأخيرة، ووضعه فيتو على أي تمثيل لهم.
ما يرمي إليه الحريري، من كل هذا، هو الإمساك بكل مفاصل الحكومة واستباحة مقدراتها ومؤسساتها، كرمى لعيون الخارج، إضافة إلى جر لبنان إلى المحور المعادي للمقاومة، من دون الأخذ بالحسبان مواقف تداعيات هذه الخطوة، وما قد ينجم عنها من تداعيات خطيرة.
للوهلة الأولى، يبدو تشبّث الحريري بحكومة «التكنوقراط»، وبقضية تحرير قراره السياسي، استجابة لمطالب الحراك ونزولاً عند رغبة الجماهير الغاضبة في الشوراع، والإيحاء للرأي العام برضوخه لها، وإيمانه المطلق بحقهم في الاحتجاج والتعبير، ومشاطرته أوجاعهم، وتفهمه لصراخاتهم ونقمتهم العارمة، واستخدامه لمفردات ومصطلحات «شعبوية» كحديثه عن استقالته التي جاءت احتراماً للمحتجين.
لكن توصيات الورقة الاقتصادية التي قدمتها LIFE (منظمة عضوية عالمية تأسست عام 2009، بهدف توفير منصة لتوجيه تأثير المديرين التنفيذيين اللبنانيين العاملين في المجالات المتعلقة بالتمويل في جميع أنحاء العالم، وتضم الشركة حالياً أكثر من 1000 خبير مالي في 11 بلداً موزعين في كل من أوستراليا وكندا وفرنسا وهونغ كونغ وسنغافورة وسويسرا والإمارات العربية المتحدة والمملكة المتحدة والولايات المتحدة ولديها لجنة عليا في لبنان)، إلى «صانعي السياسة الرئيسيين» وفقاً لها، تكشف لنا فصلاً مهماً من فصول استقالة الحريري.
تقول الورقة، التي نشرتها المنظمة في 15 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، إن «الاقتصاد اللبناني خارج الحلول السهلة، وسوف يتطلب الخروج من الأزمة إجراءات اقتصادية مؤلمة على معظم أصحاب المصلحة، في حين أن هذا يبدو قاسياً، إلا أن البديل أصعب بكثير».
إلى هنا، لا يوجد ما يثير الريبة، لكن ما هو مذكور في إحدى فقرات الورقة، وخصوصاً الجملة الآتية: «على هذا النحو، ستكون هناك حاجة إلى تفويض سياسي جديد وواضح يقوم على الإجماع السياسي والقيادة الاقتصادية للخبراء، ويتوقع من جميع أصحاب المصلحة تحمل نصيب من عبء الاستقرار الاقتصادي في لبنان»، يجعلنا نمسك بخيوط اللعبة (الاستقالة) التي ينسبها الحريري زوراً إلى قوة «نبض الحراك».
لم يرَ رئيس الحكومة وفريقه السياسي حرَجاً في فتح أبواب لبنان أمام تدخلات المؤسسات المالية الدولية


فلندقق ملياً بمفردة «تفويض جديد». فمن المتعارف عليه أنه لا مكان للصدف في علم السياسة، وهذا الأمر يدفعنا إلى التساؤل عن سر هذا التقاطع الاستثنائي بين إصرار الحريري على «التكنوقراط»، وعبارة «قيادة الخبراء». الصورة تصبح أكثر وضوحاً إذا ما أضفنا إلى ذلك الكلام عن لقاءات عقدت بين ممثلين عن «الحراك» ومندوبين ينتمون إلى LIFE، وخطاب نصر الله الأول وحديثه عن امتلاكه معطيات عن جهات ومنظمات دولية تعمل على استغلال الحراك. هنا نفهم سريعاً ما حاذر نصر الله من البوح به.
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقضية «الخصخصة» التي تبنّاها الحريري، كمدخل وحيد للخروج من الأزمة المستفحلة والمتصاعدة، تُفرد لها المنظمة حيزاً واسعاً في الورقة التي تشدّد على «ضرورة» إطلاق برنامج الخصخصة الشامل على الفور، أي الأصول الحكومية، بما في ذلك مطار رفيق الحريري والميناء البحري، واليانصيب الوطني، وخطوط طيران الشرق الأوسط، وكازينو لبنان، ومشغّلو الاتصالات. وتضيف: «في نهاية المطاف، يجب النظر في الخصخصة».
ويتابع واضعو الورقة: «يجب أن تبدأ هذه العملية، حسب الاقتضاء والمطلوب، باتخاذ إجراءات مؤسسية وإنشاء وتفعيل الهيئات التنظيمية المستقلة، وكذلك فرق الإدارة الجديدة. إن تحسين الحوكمة والإدارة والكفاءة التشغيلية بما يتماشى مع القطاع الخاص سيؤدي إلى مكاسب كبيرة في التقييم وتحسين الخدمات. في النهاية، يجب استخدام قائمة الأسهم الجزئية المحتملة لأصول الدولة والسندات الصادرة لدعم أسواق رأس المال المحلية. ومن أجل تحسين التقييم، يجب إجراء تسلسل للخصخصة الكاملة بعد استعادة الثقة عن طريق تنفيذ الإصلاحات المطلوبة وتعزيز سيادة القانون، لتجنّب أي مخالفات في عمليات نقل الأصول كما رأينا في بلدان أخرى».
أكثر من ذلك، تعتبر المنظمة أن «تخفيض سعر الفائدة على ديون الحكومة بشكل مصطنع وبسيط سيؤدي إلى تشويه السوق، ولن يفعل الكثير لوضع المالية العامة في لبنان على مسار مستدام». والأنكى، أنها لا تتوانى عن إيجاد المبرّرات لهذه الخطوة بإشارتها إلى أن «إحجام البنوك عن المشاركة في هذه المناقشة يستند إلى رغبتها المشروعة في حماية مصالحها التجارية، فضلاً عن المبدأ القائل بعدم تخفيف وطأة الديون عندما تبقى الإدارة العامة سيئة للغاية وتستمر المالية العامة في التدهور».
غني عن التعريف أن الحريري، خلال جميع عهوده، كان يعمل على إعفاء المصارف من المساهمة في خفض عجز الدين العام من خلال تخفيض الفائدة (باستثناء موازنة عام 2019). أتت الورقة لتؤكد مرة أخرى التطابق بين سياسات الحريري، وما يقترحه المديرون الماليون في المنظمة، لجهة تحييد المصارف عن المشاركة في حل مشكلة الدين العام، في تبادل أدوار لافتة بين الطرفين.
وفي السياق ذاته، لم يرَ رئيس الحكومة وفريقه السياسي حرجاً في فتح أبواب لبنان على مصراعيها أمام تدخلات المؤسسات المالية الدولية، التي أضحت بمثابة الآمر والناهي في تقرير السياسات المالية والاقتصادية.
المثير أن «المنظمة» وفي ذورة الأزمة تشجع على هذا الأمر، بقولها: «عندما تتآكل الثقة، يحتاج صناع السياسة إلى التواصل بشكل أكثر تواتراً وبوضوح أكبر من أجل ضخ الثقة بين أصحاب المصلحة لاتخاذ الإجراءات العلاجية. تشمل الجهات المعنية الرئيسة حاملي السندات والبنوك المحلية والدولية ووكالات التصنيف الائتماني والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي والوكالات المتعددة الأطراف الأخرى ومعاهد البحوث». في هذه النقطة بالتحديد، قام حاكم مصرف لبنان بالواجب، وقد تفوّق على مستشاري LIFE، بربط لبنان وإغراقه في التبعية العميقة للمؤسسات المالية الأميركية، وما عبارة الحاكم رياض سلامة عن «الاقتصاد اللبناني المدولر»، إلا اعترافاً بذلك.
في 18 أيلول 2007، بثّت محطة الإذاعة والتلفزيون الأميركية PBS مقابلة مع آلان غرينسبان، الرئيس السابق لـ«مجلس الاحتياطي الاتحادي»، الذي أشار رداً على سؤال حول العلاقة الصحيحة بين رئيس الاحتياطي الفيدرالي والرئيس الأميركي، إلى أن «رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي لا يهتم بالعلاقة مع الرئيس على الإطلاق، لأن الاحتياطي الفيدرالي أعلى من الحكومة». وأضاف غرينسبان إن «الاحتياطي الفيدرالي هو هيئة مستقلة. هذا يعني، في الأساس، أنه لا توجد وكالة حكومية يمكنها إلغاء إجراءاتنا، ولا يبدو أن الحكومة أو الكونغرس، أو أي شخص آخر، يطالبنا بأن نفعل أشياء لا نراها في مصلحتنا. لذا، فإن العلاقة مع الحكومة، بصراحة، لا تهمّنا». تشير الوقائع إلى أن سلامة، تحوّل إلى غرينسبان لبنان، فهو يُعتبر الحاكم الفعلي للبلاد، لا يجرؤ أحد على مساءلته أو محاسبته، رغم مسؤوليته عن أزماتنا المالية، وآخرها ارتفاع سعر صرف الدولار في الأشهر القليلة الماضية، فضلاً عن هندساته المالية التي أدت إلى هذا الوضع القائم.
لا شك في أن سلامة ينطلق في تعامله مع الحالة اللبنانية من قاعدة أن من يسيطر على الدولار يسيطر على العالم، طالما أن الدولار هو العملة الرائدة في العالم. لكن لمن لا يعرف، فإن القائمين على المصارف المركزية مسؤولون عن كل أزمة كبيرة حدثت خلال المئة عام الماضية، إنهم يجلبون سبل عيش الناس إلى الانهيار، ثم يجري توريطهم مرة أخرى بقروض جديدة (عبودية جديدة بسعر الفائدة)، أي تقويض سبل عيش الناس. إنهم يحوّلونهم إلى عبيد يعملون لمصلحة كبار المصرفيين.
لا يتعلق نظام المصارف المركزية الخاص بإنتاج السلع والخدمات، بل بزيادة ثرواتهم وقوتهم. يوضح مثال «الخصخصة» كيف يدمرون سبل عيش الناس. لقد تمّ منحهم أولاً الشركات المملوكة للدولة كما هي، من أجل إرشادها «بكفاءة». لكنّهم لم يرغبوا أبداً في إبقائها (أي الشركات) على قيد الحياة وتأمين وظائف للناس. كان هدفهم هو إفلاس الشركات، وتدمير سبل عيش العاملين. لقد اقترضوا المليارات من الشركات ووضعوها في جيوبهم، ثم تركوا الشركات تنهار.
الانحراف هو أن الأشخاص الذين دمروا العالم يطالبون ويحصلون على تريليونات من الحكومات، لإعادة بناء الاقتصاد. في الواقع، يأخذون ضمانات الدول ويشترون لأنفسهم البنية التحتية للبلدان التي يحكمون فيها. إنهم يوصلون دائماً العالم إلى الانهيار، بسبب نقص الأموال. بمجرد أن يصل كل شيء إلى أدنى نقطة ــــ والتي يعرفونها جيداً ــــ فإنهم يسمحون للحكومات مرة أخرى بضخ جزء من الأموال في الاقتصاد لتبدأ بالبناء، ثم يتركونها تنهار لاحقاً. في هذه العملية، أضحت المصارف أكثر ثراءً وقوةً، وأصبحت الشعوب أكثر فقراً وعجزاً.
في المحصلة، يمكن القول إن البشرية تخضع للتخويف من قِبل الحكومة العالمية الجديدة، وهي بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي الذي عمد الى شراء جميع الأموال والذهب في العالم، والذي يسيطر على مدّخرات الشعوب. قد لا نجد أبلغ من مقولة رئيس المجلس الاحتياطي السابق بن برنانكي، للدلالة على سطوة البنوك المركزية، وإعلانه أن «الأجيال المقبلة ملعونة بالفعل بالنزف، فلا يزال لدينا ذهبهم» ولبنان لن يكون بمنأى عن هذه المعادلة.

* كاتب لبناني