لم يهتز نظام اتفاق الطائف (1989) في لبنان، ليلة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، بل الذي اهتز في ذلك اليوم هو «نظام الطائف»، كما أصبح بعد اتفاق الدوحة، الذي جاء نتيجة لخضّة 7 أيار/ مايو 2008. كان الرئيس رفيق الحريري بين عامي 1992 و2004 هو أقوى طرف لبناني في ظل الوجود العسكري السوري والتقاسم الوظيفي بين قريطم وعنجر. في مرحلة ما بعد الدوحة أصبح السيد حسن نصر الله هو أقوى طرف لبناني. ما جرى من اسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري في كانون الثاني/يناير 2011 أظهر ضعف «الحريرية السياسية»، في مرحلة ما بعد الدوحة. وقد كان قبول الحريري بالتسوية الرئاسية في خريف 2016 تأكيداً لهذا الضعف، وليس العكس، إذ برزت ثلاثية في الحكم اللبناني مع انتخاب الرئيس ميشال عون : حزب الله - التيار الوطني الحر - تيار المستقبل، كان واضحاً من خلالها في السنوات الثلاث الأخيرة، أن الحريري هو الأضعف في تلك التركيبة الحاكمة. الأزمة اللبنانية الراهنة تأتي من عدم قدرة حزب الله والتيار الوطني الحر على الاستمرار بوضع ما بعد 31 تشرين أول/ أكتوبر 2016، ومن عدم قدرة خصومهما في الشارع المتحرك، أو في القوى السياسية الأخرى، على ترجمة ما يجري على الأرض السياسية مؤسساتيّاً، لما مثلما جرى عام 2008. كما تأتي الأزمة من عدم قدرة الطرفين على انتاج تسوية جديدة بفعل الدينامية الذاتية.هنا، الانفجار اللبناني الذي بدأ في 17 أكتوبر، ليس ناتجاً عن عامل خارجي، بل عن حصيلة أداء اقتصادي ليبرالي متطرف في ليبراليته لا يراعي مصالح الفئات الوسطى والفقيرة، نجده عند التيار العوني مثلما نجده عند الحريرية السياسية منذ عام 1992. لكن ما منع حصول الانفجار بين 1992 و2016، هو استمرار لبنان في وظيفيته كمصرف للخليج ومصيف له. وهو أمر انتفى في السنوات الثلاث الأخيرة مع اعتراض الخليجيين على التسوية الرئاسية لعام 2016. ثم زادت الأمور اللبنانية تفاقماً مع العقوبات المالية التي فرضتها إدارة ترامب ضد حزب الله في السنتين الأخيرتين والتي وجهت أساساً ضد النظام المصرفي اللبناني. كان تدفق المال الخليجي على لبنان والسواح يتيح بحبوحة اقتصادية يستفيد منها اللبناني من الفئات الوسطى، كما تحويلات اللبنانيين في الخارج وخاصة الخليج… لكن انقطاع هذا المال الخليجي، وانخفاض التحويلات، مع عقوبات أميركية وتقييدات، طرحت النظام المصرفي اللبناني أرضاً، ولم يعد قادراً على احترام قواعد الاقتصاد الحر. هكذا انكشف الاقتصاد اللبناني كنظام يعتمد على الخدمات، لا الانتاج، وتحملت النتائج الفئات الوسطى إذ نزلت تحت خط الفقر في زمن قياسي.
الانفجار الحالي هو نتيجة حتمية لنظام ليبرالي متوحّش، تأجّل حصوله بفعل الدور الذي لعبه لبنان كمصرف ومصيف للخليج


وطبعاً لو كان الاقتصاد اللبناني منتجاً لما حصل هذا الانهيار السريع، ولما كانت الاجراءات الأميركية والخليجية لتؤدّي إلى هذه النتائج الاقتصادية، بهذه السرعة. بعبارة أخرى، لم تخلق الاجراءات الأميركية - الخليجية الانفجار اللبناني الذي أنتج الأزمة الراهنة بل سرًعته، فيما هناك حطب لبناني جاف كثير قابل للاشتعال في المجتمع، نتيجة السياسات الاقتصادية - الاجتماعية. وهناك في المستوى السياسي متضررون من التسوية الرئاسية، أو أطراف تريد الانفضاض عنها، مثل حزب «القوات اللبنانية»، ولاحقاً «تيار المستقبل».
الآن، يدفع حزب الله ضرائب تحالفاته مع العونيين. معسكره (أي حزب الله، التيار الوطني الحر، حركة أمل)، في أضعف حالاته منذ اتفاق الدوحة. والحريري الآن في وضع قوة لم يشهده خلال السنوات الماضية، سواء قام بترؤس الوزارة اللبنانية القادمة أم لا. لا يستطيع حزب الله أن يقلب الطاولة الآن كما فعل في 7 أيار/ مايو 2008 ضد مشهد ما بعد 14 آذار/ مارس 2005، بل هو مضطر إلى تسوية سياسية مؤلمة لم تتضج أبعادها بعد، وإلى الانزياح كثيراً، بعيداً عن مشهد تحالفه مع العونيين الذي بدأ في شباط/ فبراير 2006.
ولا يمكن في هذا الصدد عزل لبنان عن المشهد الاقليمي: هناك صراع أميركي - ايراني بدأ في 8 أيار/ مايو 2018، مع انسحاب ترامب من الاتفاق النووي مع طهران، ينعكس في كل ساحات الاقليم الملتهبة (سوريا، اليمن)، أوالقابلة للاشتعال (لبنان، العراق). لم يعد الاحتمال الغالب، كما تبدّى في الصيف الماضي، هو اتجاه أميركي نحو حرب عسكرية مع ايران. بل على ما يبدو هناك تفضيل أميركي لاستغلال اشتعال النار تحت أرجل حلفاء طهران في العراق (بدأت المظاهرات في العراق في أول تشرين الأوّل/ أكتوبر 2019) ولبنان، من أجل تعديل أو تغيير الوضع الذي جعل ايران هي «الدولة الاقليمية العظمى»، وفق تعبير الجنرال رحيم صفوي القائد السابق للحرس الثوري الايراني عام 2009.
الاقتصاد اللبناني بدأت اهتزازاته في صيف وخريف 2018، كما أن احتفاظ حلفاء طهران العراقيين بالقوة الأكبر كحصيلة الانتخابات البرلمانية في أيار/ مايو 2018، قد جعل واشنطن تميل أكثر إلى سياسة انخراطية في الشأن العراقي، لا انكفائية كما في عهد أوباما، من أجل اضعاف ايران أو جعل العراق المدخل الرئيسي إلى اضعافها. فيما كان الوضع في بغداد بعد 9 نيسان/ ابريل 2003، هو طريق ايران الرئيسي لفرض هذه اللقوة الاقليمية العظمى.
الأزمة اللبنانية، من خلال تعادل أطرافها الداخليين ومن تداخلها العضوي مع الصراع الأميركي - الايراني، مرشحة لأن تطول، خصوصاً في غياب عوامل خارجية تدفع الأطراف اللبنانية للتلاقي عبر تسوية، كماحصل في الطائف والدوحة… فيما كانت التسوية الرئاسية اللبنانية في 2016، حصيلة لبنانية لتلاقي أميركي - ايراني قبل أسبوع من انتخاب ترامب، وبعد خمسة عشر شهراً ونصف شهر على اتفاق 14 تموز/ يوليو 2015 حول الملف النووي الايراني.
* كاتب سوري