فوجئت وأنا أراقب المجريات منذ السابع عشر من الشهر الماضي بأن الإعلام المعروف الإتجاه، وكذلك قادة الرأي، وحتى الأحزاب الأمريكية الهوى، التي كانت تشكل فريق 14 آذار، لم تستهدف في خطابها سلاح المقاومة ولم تتناول حزب الله، وبالتحديد الأحزاب كانت في حالة صمت إلا بعض الأصوات الهامشية المتفلتة، لقد كان هذا الإغفال المتعمد منسقاً بشكل جيد، حتى أن ماكينة إدارة «الوعي الثوري»، إن صح التعبير، من محاورين ومراسلين كانت قادرة على فرض هذا الإلتزام حيث ينبغي، كان المسموح هو أن يتم شمل جميع السياسيين بوسم الفساد والنهب، بما فيهم حزب الله، وإذا تم التعرض له فمن باب عجزه وعدم قدرته على مواجهة الفاسدين، وحمايته لهم من خلال السكوت عليهم إعلامياً.

كان من الواضح أن أحداً لا يريد استفزاز عنصر الدفاع عن الوجود لدى الشيعة، المقاومة لها مكانها الدفاعي، لكن في التنمية نحتاج لقيادة بديلة، نحتاج لحلول من خارج التمثيل السياسي الشيعي الحالي، هذه السردية التي كان يراد لها أن تكرَّس.
شاهدت على شاشة أم تي في بتاريخ الثامن من هذا الشهر، حواراً بين اثنين من المحرضين على «الثورة»، الملحن هادي شرارة والممثل جو معلوف، كان لافتاً الحوار الذي جرى، ففي حين قال شرارة : لماذا هناك سلاح خارج الجيش اللبناني؟ وهل نستطيع بناء دولة في ظل هذا السلاح؟، رد جو معلوف بوضوح :«أنت ترتكب الخطأ الذي يقع فيه الجميع، اليوم الإنتفاضة والثورة هي الناس تفتش على العدالة الإجتماعية، ناس من كل الطوائف والمذاهب، نحن بحاجة لكل الشباب من كل الطوائف لينزلوا إلى الشارع، حتى لا نحرّف الثورة ونسيسها، الوزير شربل نحاس أخطأ في التوقيت في تصريحه، وأنت تخطئ في التوقيت، هذا الموضوع ليس له نتيجة الآن، علينا أولاً أن نبني الدولة المدنية».

أحلام فيلتمان
في الشاشة كان من الواضح أن الإطار الإجتماعي المطلبي هو الأساس، حراك عابر للطوائف، وعندما حصلت جلسة الكونغرس في التاسع عشر من الجاري، والتي سبقها صمت طويل مطبق من مراكز الدراسات الأمريكية حول ما يجري في لبنان، صمت استمر شهراً كاملاً، إلا بضع قصاصات غير هامة، جاءت كلمات المتحدثين : فيلتمان، غدار، يعقوبيان، لتعكس الفرضية التي تشكلت لدي.
جلسة الكونغرس هذه أسست لرسالة 240 عضواً في المجلس، أرسلت إلى غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة، ولم تكن مجرد جلسة عابرة، بل تم التخطيط لها وبرمجتها قبل يوم من رسالة الأعضاء المؤلفة من 18 صفحة نالت إجماع الموقعين والمرسلين. كلام فيلتمان، الأب الروحي لـ 14 آذار، جاء ليعكس في تلك الجلسة التوجهات والممارسات الجارية في عملية لبنان، قال بالحرف «تفوق أهمية الاحتجاجات الحالية في لبنان ما جرى في 14 آذار 2005، بعد اغتيال رفيق الحريري، لأن الشيعة انضموا إليها هذه المرة. ويركز المحتجون اليوم على القضايا المحلية كالوظائف، والنفايات، وخدمات المرافق وما إلى ذلك، والتي يمكن أن توحد اللبنانيين بدلاً من تقسيمهم»، واعتبر أن ثمة إنجازاً تحقق حيث ادعى أن غالبية مؤيدي المقاومة ما زالوا منضوين في الحراك حيث «دعا نصر الله إلى إنهاء التظاهرات؛ وطلب من المتظاهرين الشيعة العودة إلى ديارهم. البعض استجاب له، لكن معظمهم لم يفعل»، ويشير في محل آخر إلى هدف جوهري هو مشاركة الشيعة في الحراك بكثافة «إن رد فعل حزب الله الخطابي والعملي على المظاهرات الحالية قد يوقظ المزيد من اللبنانيين - بما في ذلك الشيعة ، وهو أمر جوهري لتقويض شعبية حزب الله - على هذا الواقع القاتم». فيلتمان هو مدير مشروع عزل الشباب الشيعة عن حزب الله، وبذل لأجله مئات ملايين الدولارات من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين في تأسيس ودعم منظمات مجتمع مدني تتولى استقطاب شباب الشيعة بعيداً عن المقاومة، يعكس كلامه في الكونجرس شعوره بوجود احتمال أن يحقق أهداف مشروعه القديم، بعد أن أظهرت الحرب السورية أن تلك الأموال قد تبددت دون نتيجة تذكر، وهو مشروع بديل عن مواجهة الحزب عبر تكتل 14 آذار الذي فشل لسببين : منعة المقاومة في بيئتها الداخلية، وخروج التيار الوطني من التكتل المذكور. البديل هو تفريغ الإكواريوم من الماء، بدلاً من الإمساك بالسمكة، وهو تعبير يستخدم منذ الخمسينات من قبل المستعمر الغربي لتبسيط وتوضيح سياسة الاختراق الإجتماعي لبيئات قوى التحرر، كان قد أطلقه الجنرال الفرنسي روجر ترينكييه إبان حرب الجزائر.

يعقوبيان المهندسة
منى يعقوبيان أدلت كذلك بشهادة خبروية إلى جانب فيلتمان، وهي كبيرة المستشارين للشرق الاوسط وشمال افريقيا لدى معهد السلام الامريكي اللصيق بالجيش الأمريكي، ذهبت يعقوبيات إلى لغة أكثر منهجية ومواربة لتوضيح المقاربة الجارية لالتقاط الفرصة، فأعضاء الكونغرس لا بد وأن يفهموا وكذلك اللوبيات المتحركة هناك أن حزب الله مستهدف فعلاً وإن لم يظهر ذلك الآن بوضوح، قالت لهم «إن الاستراتيجية التي تسعى إلى استغلال الاحتجاجات وتوجيهها ضد حزب الله من المحتمل أن تأتي بنتائج عكسية»، واعتبرت أن هذه المقاربة غير المباشرة مجدية إذ أنها تزعج حزب الله، فبرأيها أنه «من الواضح أن نصر الله شعر بالقلق من المظاهرات التي وقعت في معاقل حزب الله، مما يشير إلى استياء جماهيره العميق من القضايا الاجتماعية والاقتصادية»، كما حاولت أن تبين مدى أهمية ما يجري لأعضاء الكونجرس والرأي العام كذلك بقولها «يلاحظ بعض المراقبين أن حركة الاحتجاج يمكن أن تقلل من تأثير حزب الله بطرق لم تتمكن السياسة الأمريكية من تحقيقها. لقد أظهر جدار الخوف حول انتقاد حزب الله بعض الشقوق، حتى بين الطائفة الشيعية، كما انتقد بعضهم الحزب علانية». وفي الحقيقة إن كلامها يعكس قناعة كل الجنرالات والمنظرين لما يعرف بـ «مكافحة التمرد» في القاموس الإستعماري الغربي، ومعناها الحقيقي «تفكيك حركات التحرر»، وهو اختصاص علمي معروف له مدارسه وجامعاته ومراجعه النظرية وجنرالاته المجربون كذلك.

مؤشرات التعثر
جرى قبل عشرة أيام من هذه الجلسة لقاء مصغر جمع عدة لبنانيين إلى طاولة اللوبي الصهيوني في معهد واشنطن، تحدثت فيه حنين غدار في الإتجاه نفسه «يبدو أن شريحة كبيرة من القاعدة الشيعية لـ «حزب الله» بدأت ترفضه من خلال انضمامها إلى المظاهرات والتأكيد على هويتها اللبنانية بدلاً من هويتها الطائفية»، فيما كان لقمان سليم أكثر تحفظاً، كان يدرك من خلال وجوده في لبنان أن الحراك بعد عشرين يوماً لم يحقق النتيجة المرجوة فـ «على الرغم من أوجه الشبه بين الاحتجاجات المستمرة في المناطق ذات الأغلبية الشيعية في لبنان والعراق، إلّا أنه ينبغي التريث لمعرفة ما إذا كانت هذه المظاهرات تشكّل جزءاً من انتفاضة إقليمية أوسع نطاقاً ضد الزعماء السياسيين الشيعة والتدخل الإيراني. ويتضح حالياً أمر واحد، هو: انشقاق بعض المؤيدين الشيعة لـ «حزب الله» عن الحزب، خاصة اليساريون منهم».
في بداية الحراك حصل إشكال في مدينة النبطية، حيث كان من المفترض أن تتحول إلى مدينة أساسية للحراك مثل بيروت وطرابلس، لكن البرنامج لم يصل إلى نتيجة، رغم أن الإعلام المحلي والعربي والأوروبي والأمريكي قد جعل من تلك الحادثة قضيته الوحيدة في اليوم التالي، لكن دون أثر، لقد سمعت بعد بضعة أيام ممن كان له صداقات في بعض دوائر الحراك المقربة من أجواء منظمات المجتمع المدني، أن أحدهم قال بأن النبطية كان يفترض أن تكون درعا الثورة، ربطاً بأحداث درعا في سوريا 2011.
لماذا تدعم أمريكا تحركاً اجتماعياً ضد الفساد وأغلب وأهم القوى التي تدعمها هم من الفاسدين؟ لا شك أن هناك هدفاً شديد الأهمية يستحق هذه المخاطرة


تراكم الفشل وقد بدأ بالفعل بعد خطاب الأمين العام لحزب الله بعد حوالي أسبوع واحد من بدء الإحتجاجات، وقد بذلت الماكينة الإعلامية، المسخرة للحراك ليلاً نهاراً، الجهد الكبير لتحريك البيئة الشيعية دون جدوى، ومن ضمن الجهود كان مواكبة إرسال حافلة من الشمال إلى جنوب البلاد لإثارة الجمهور والقيام بتجربة واختبار حوافزه وإمكانية نزول الشيعة إلى الشارع لاستقبالها بالتنسيق مع بعض عناصر منظمات المجتمع المدني الذين تدربوا وتربوا بالمال الأمريكي لسنين طويلة، لكنها لم تستطع تخطي عتبة بوابة الجنوب صيدا، رغم الجهد الإعلامي المحلي والعربي والدولي الهائل.
وتجدر الإشارة إلى أن الشيعة في الجنوب والضاحية الجنوبية والبقاع قد تعرضوا لتنكيل متواصل لمدة شهر كامل عبر قطع طرقاتهم الرئيسية التي يسلكونها يومياً نحو أعمالهم، وقد تم تعريضهم لضغوط نفسية ومعيشية، كان يفترض أن تفقدهم إمكانية السيطرة على أعصابهم وسلوكهم، غير أن شيئاً من هذا لم يحصل.

الفرصة الأمريكية
لماذا تدعم أمريكا تحركاً اجتماعياً ضد الفساد وأغلب وأهم القوى التي تدعمها هم من الفاسدين؟ لا شك أن هناك هدفاً شديد الأهمية يستحق هذه المخاطرة، ويستحق هذا التنسيق والإنضباط يجمع (مراسلين، محررين، محاورين، قادة رأي، أحزاب) بدقة عالية. الإستنتاج المنطقي هو أن الهدف كان، كما أشار لقمان سليم، إبعاد الشيعة عن قيادتهم، بالقدر الممكن، ليبحثوا عن بديل ما، ثم وضع التكنوقراط كيافطة خاوية لاجتذابهم، فطالما أن مطالبهم لم يتم تحقيقها من قبل المقاومة وحزبها، فلا بد من إيجاد أي بديل، حتى لو لم يكن مضموناً، إلا أن التغيير والتجربة والمخاطرة هي روح «الثورة»، وأفضل من السكوت على الأزمة. تلك الأزمة التي ساهمت فيها عقوبات أمريكية، إلا أن ذلك ظل خارج سردية «الثورة»، لم يذكر أحد أن أزمة لبنان سببها حزب الله وسلوكياته التي أدت إلى العقوبات على الشيعة، سيعيدنا ذلك إلى السلاح والدفاع عن الوجود، لذا ظلت خارج النص إلا ما ندر، الفساد هو الذي ظل تحت الضوء. كما ظل افتعال أمريكا للأزمات عبر وزارة خزينتها وأدواتها في الداخل اللبناني خراج التداول كذلك. واحدة بواحدة.

اسباب الفشل
خسرت أمريكا فرصة هامة وجوهرية وحاسمة لاستهداف المقاومة في عمق بيئتها الداخلية، فرصة كان فيلتمان قد بدأ العمل عليها بعد حرب تموز 2006، بعد ظهور استناد المقاومة إلى حاضنة اجتماعية صلبة ساهمت كعنصر أساسي في صناعة الصمود والانتصار في حرب سحق حزب الله، فلماذا خسرت أمريكا هذه الفرصة رغم أن مؤشرات كثيرة كانت ولا تزال تعد الأمريكي بإمكانية تحقيق اختراق حقيقي ومؤثر.
أسباب الفشل الأمريكي عديدة تبدأ من قراءة المزاج الشيعي منذ الإنتخابات وحتى الآن، لقد أعطت الإنتخابات النيابية الأخيرة انطباعين أساسيين، الأول التأييد الكاسح لبيئة حزب الله لممثليه ومرشحيه كأكبر حائز على الأصوات في لبنان، الثاني وجود مطالبة كثيفة في تلك البيئة بضرورة قيام الحزب بمواجهة حاسمة للفساد والفاسدين. تراكمت تلك المطالبة منذ ذلك الوقت ولم تتوقف، وكان ذلك ظاهراً في وسائل التواصل الإجتماعي، كما في التواصل الإجتماعي الواقعي. نتيجة لذلك ربما اعتبر الأمريكي ومعاونوه من شيعة السفارة والباحثين والصحافيين اللبنانيين وغير اللبنانيين الذين يساهمون في تشكيل تقدير الموقف أمام صانع القرار الأمريكي، أن المزاج الشيعي مؤهل لانقلاب ناعم على ممثليه، وقد ظهر ذلك في بعض الأعمال المنسقة الهادفة إلى كسر قدسية الرموز الشيعية وخصوصاً قيادة المقاومة، دون إدخال تلك الأعمال في مستوى السردية الكلية للحراك، كما ظهرت في الشواهد التي ذكرت أعلاه. لم تكن البيئة الشيعية جاهزة لهذا النوع من الإستفزاز الهائل، لكن العقل الميكانيكي الغربي الذي يُسقط واقعه النفسي والثقافي على الشعوب المستهدفة بالسيطرة والتلاعب بالمشاعر والقيم، وقع في هفوة قاتلة هنا. لقد شكلت استهداف رمزية قيادة المقاومة عقب أخيل في مشروع استثمار برنامج فيلتمان.
أخفق الأمريكي كلياً في فهم الشخصية الجماعية الشيعية في لبنان، ولم درك حساسيتها المفرطة تجاه رموزها المقدسة، لقد حسب أن كسر تلك الرمزية سيساهم في دفع الشيعة للبحث عن بديل يقدم لهم التنمية ومكافحة الفساد. لا يستطيع الأمريكي أن يستوعب مدى تجذر تلك العلاقة والوصلة العميقة بين المقاومة وبيئتها، وربما يكون بعض من هذا الخلل ناتج عن مدى طمعه وطموحه لتغيير الواقع اللبناني، الذي يعتبره نقطة ارتكاز لمحور المقاومة في المنطقة كلها. وقد عوَّل على نقطتين في تقديم البديل، الاول مقدمة والثاني نتيجة، الأول هو إشاعة خطاب انتهاء الهويات الطائفية، والثاني طرح بديل تكنوقراطي بعيد عن اللعبة السياسية التي اضطرت حزب الله إلى عدم اقتحام معاقل الفساد التقليدية. دفع هذا الفشل الأحزاب الأمريكية الهوى إلى التدخل في الشارع، وإن من دون خطاب رسمي واضح، لتعويض الخلل، لكن هذا البلد الصغير حيث يعرف الجميع من يتحرك وأين وبأية أوامر وبأية هويات حزبية ومناطقية، ليس متاحاً للقيام بهكذا مناورات، أفقدت المشروع ما تبقى من زخمه، وظهرت تلك الأحزاب عارية أمام الجميع، وهي المعروفة بتجذرها في عمليات النهب المنظم للمال العام. مع استقالة الحريري، والتعبيرات الذي ظهرت في شارع الحراك وقاطعي الطرق مؤيدة له ولعودته إلى السلطة، كان المشروع الأمريكي يتلقى الضربة القاضية.
لقد قرأت منى يعقوبيان بدقة هذا الخلل، وعبرت عنه خلال شهادتها في الكونجرس : «إذا سمح لها بالتحرك، فإن الديناميات التي تدفع حركة الاحتجاج يمكن أن تقلل من قبضة حزب الله على المجتمعات المحلية. من الأفضل ترك هذه القوى العضوية تلعب دورها، بدلاً من عرقلة الزخم المحتمل وإحباطه»، التسرع في التدخل من قبل أمريكا والقوى التابعة لها، لم يسعف المشروع، بل كان سبباً لإحباطه.
أخيراً فإن فيلتمان الذي بدا يائساً في بعض كلامه، حيث أبدى تخوفه من انقلاب الحراك نحو حركة تحررية شعبية معادية للولايات المتحدة، قد بدأ يشعر بأن جمهور المقاومة قد يكون أخفى له ورقة ستتحرك في اللحظة الأخيرة، خصوصاً مع التصريح الواضح لقائد المقاومة بأن حل المشكلة الإقتصادية غير ممكن بدون تحجيم النفوذ الأمريكي في لبنان. لننتظر ونراقب.
* باحث لبناني