تمثّل العلاقة بين خطاب انتفاضة السابع عشر من تشرين الأول وتطوّر الأحداث في يومياتها وامتداداتها، مَدعاة إلى التوقف عند جملة من الحقائق التي تساعد في الدخول إلى جَدليات الحَراك، للإضاءة على أبعاده ومحاولة تقييم مداه وفهم اتجاهه. تتوقف نتائج الانتفاضة التي أدّت إلى بلورة مساحة للتعبير عن الحاجة إلى تغيير حقيقي، وإلى صياغة خطاب مبني على رسالة واضحة تتعامل مع الإيجابيات، وتتجاوز كل المطبّات في طريق ديناميات الحراك وامتداداته، ضمن رؤية تقوم على الطموح بأن يتحوّل الحراك إلى ثورة، وما يتلازم معها من تكريس لواقع جديد وتوجيه كل الجهود والبطولات والتحوّلات في اتجاه مشروع متكامل للتغيير.إن مجموعة من المفاهيم ــ المفاتيح، تفرض نفسها للدخول إلى ساحة التغيير التي تظلّل شعارات الانتفاضة، التي تتقاطع مع بعضها البعض عبر مجموعة من القناعات. هذه القناعات طبعت الحراك بروح ثورية وزخم يتغذى بروحية التغيير واندفاع جيل، يغلب عليه عنصر الشباب، يعيش على هامش القرار السياسي ويعيش في حال افتراق، إن لم نقل مواجهة مع مشروع الدولة وسلطاتها. تعيش انتفاضة تشرين أسوة بكل ثورات العالم، التي قامت في مناطق مختلفة، تحدّياً أساسياً في خلق مدى أرحب للتغيير يتمثّل في خطاب الثورة.
مع هذه النقطة المفصلية، تتقاطع جملة من المعطيات والحقائق التي تبرز على خط التغيير المنشود في محطاته المجلية ومساقاتها الثلاثة، أي مرحلة التعامل مع السياسات الراهنة للمنظومة السلطوية، إلى التعمّق في التغيير على مستوى النظام بقواه وأنظمته وآليات الحكم، وصولاً إلى خلق بيئة للتغيير المستمر والتنمية المستدامة بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
إن شبكة من الخيارات تفرض نفسها، بالتالي، لتقاطع التحدّيات عند عقدة تتصل بكل مدارات التغيير، وتتماهى مع حقائق الوضع، كما تشكّل فاعلاً جوهرياً في الزخم والاتجاه، يتفاعل مع حقائق الأمس، ويحولها إلى معطى في الحاضر، ليتعامل معها بنظرة مستقبلية، وهو بطبيعة الحال مفتاح الثقافة السياسية الذي ينطوي على كلمة السر لفهم مستقبل الثورات والتحركات الشعبية ومستقبل الصراعات كحقيقة ملازمة على الصعد كافّة.
لا مناصَ من الإشارة إلى أهمية الحراك في خلق هزّة في الستاتيكو الذي شهده لبنان عبر عقود، وأهم نتائجه غياب الحياة الثقافية وتعميق التواصل بين اللبنانيين وتغييب دور المثقفين، ومحاصرة النتائج المتوخاة لتطوّر لبنان في المجالات الثقافية والأكاديمية في واقع التعدّدية، الذي يطبع الخصوصية اللبنانية. وبالنظر إلى كل التجارب التي عاشها اللبنانيون عبر التاريخ، فإن السؤال الثقافي يصارع إلى الانصهار في معنى، لتفسير حقيقة الخصوصية والكيان والحيثيات والحاضر والمستقبل، في بلد تتعايش فيه التناقضات في معادلاتها المختلفة.
تشكّل مقاربة أحد علماء الاجتماع الذين تميّزوا بأبحاثهم المتقدمة، أي Geert Hofstede، مدخلاً لمنهج مقارن لتحديد طبيعة الخطاب من خلال تعريف الثقافة، باعتبارها برمجة ذهنية تتشابه مع الـSoftware الذي يسمح لأجهزة الكمبيوتر بتنفيذ العمليات. ويأتي موضوع الخطاب ليتقرّر في ضوء الحاجة إلى بلورة برمجة ذهنية، والتعامل مع ثقافة التغيير، على اعتبار أن الثقافة مزيجٌ من عناصر غير مستقلة متغيّرة، متضمنة القناعات والمبادئ والمعتقدات والقيم والممارسات، والمؤسسات التي يتميّز بها مجتمع معين، على حدّ تعبير أحد الخبراء.
إذا كانت مجموعة من أهم النظريات كرّست أهمية التماهي بين الفكر والحدث، كما نحن في نظرية جيل دولوز، بصورة خاصّة ونظريات الرواقيين بشكل عام، فإننا نستخلص من ساحة الحراك ضرورة المرصد الثقافي، باعتبار الثقافة مرادفات لما يسميه البنيويون، وما بعد البنيويين، تعيين أو إعطاء معنى للممارسات.
وتشكّل دراسات وأبحاث Hofstede and Menkose في هذا الصدد مفهومية بالغة الأهمية في تحليل أبعاد المعنى وتوصيف الخطاب المنتظر من ساحة الأحداث، وذلك من خلال التوصل إلى تجاوز عناصر النظام التدويمي لواقع التسلّط عبر تغيير على مستوى نطاق السلطة، التركيز على إبراز عناصر اليقين وتجنّب عوامل الشكّ في مواجهة الضغوط، التركيز على التكامل بين الفردية والجماعية، الاستفادة من دور المرأة الذي يشكّل انقلاباً في المشاركة، لكنه لم يصل إلى عنصر من العناصر المقرّرة والتركيز على الربط بين التوجهات القصيرة الأمد إزاء التوجهات الطويلة الأمد.
إننا نبحث في خط تطوّر الخطاب السياسي للحراك عن دور المثقف بالتلازم مع زخم الحراك وأحقيته، الأمر الذي يتناسب مع حقائق مستمدّة من تجارب الثورات في العالم، حيث يتضح أن التغيير الثقافي يتخذ صفة الأسبقية في التموضع، وهو تموضع يعبر عن ذاته بطرق متنوعة، وفي سياق يختلف تبعاً لواقع وموقع الفئة المعنية بالتغيير، ويرتبط بالتالي بالتغيّر الاجتماعي عبر تغيير في خيارات الفرد أو الجماعة.
من المهم عند هذا المستوى تذكّر أفكار «ميشال فوكو»، عبر تحليل العلاقة بين أنواع تقنية سلطة المؤسّسات، وكيف تمارس نوعية محدّدة لضغط سلوك الأفراد بعقلانية منسّقة مع البنى السياسية، وصولاً إلى تكنولوجيا ترويض الإنسان ومراقبة سلوكه.
ثمة فرصة حقيقية لإعادة تزخيم ثقافة التغيير، وفي قراءة دور المثقف الذي أُشبع دراسة مع أنطونيو غرامشي، من خلال تبني فلسفة البراكسيس عبر الممارسة الإنسانية والمحسوسة.
إن جهوداً تنطلق من إيمان عميق بالتغيير لا بدّ منها لردم الهوة بين الإيجابيات الكبيرة للحراك وبين أمرين، طبعاً مع الإطلالة على اللحظة التاريخية ورزنامة المستقبل القريب. الأمر الأول، موضوع التعميم وغياب التركيز على خط محوري، أما الأمر الثاني، فيتمثل بالمراوحة التي انطبعت بمجادلات البحث في جنس الملائكة، ولا سيّما عند تناول قضايا معقّدة كالظروف النقدية المالية في غير مكانها، وعندما يتعلق الأمر بالبحث عن رابط يؤمن له بين شعارات مطلبية، وتحدّيات تواجه لبنان، في مقدمها المواجهة مع إسرائيل وتداعياتها على الساحة الداخلية. بانتظار خطاب في مستوى التحديات، فإن الشعب اللبناني يبحث عن إفراز قيادة للتغيير لا ثقة بالمستقبل في ظل صورة ضبابية لهوامش تخرج عن السيطرة.
*أكاديمي وباحث سياسي