لا ينتهي الحديث عن تغيّرات النظام الدولي، ويكثر البحث حوله من أجل فهم البيئة المحيطة بالدول، حيث تحدّد هذه العلاقات وترتسم معالمها من قِبل الفاعلين الدوليين. كثُر البحث، في الآونة الأخيرة، عن حقيقة تبدّل معالم هذا النظام، الذي تحوّل إلى نظام القطب الواحد عقب سقوط جدار برلين وانهيار الاتّحاد السوفياتي، ولكن مع مرور ما يقارب الثلاثة عقود بات يتحوّل إلى نظام متعدّد الأقطاب.في ذروة هذا التحوّل، تتّجه أنظار العالم نحو الصين. الدولة التي لم تعُد منكفئة على ذاتها، والتي أصبحت جاهزة لمقارعة الهيمنة الأميركية، بعدما بات على الأخيرة أن تتقبل فقدانها الأحادية في النظام الدولي. تثبت الصين اليوم أنها تخطّت مرحلة التأسيس، فسبعون عاماً كفيلة لتؤكّد قوّتها العظمى الموازية لقوة بلاد العم سام، لا بل أكثر. وهي على أعتاب تحوّل النظام الدولي إلى نظام متعدّد الأقطاب، تتحوّل فيه الصين إلى صاحبة دور محوريّ، فيما تبدأ الولايات المتّحدة بالانكفاء، مكتفيةً بحيّز كبير من المشاركة في إدارته مع محاولة إظهار تفوّق دائم في وجه أقطابه.

إمبراطورية الهيمنة تتداعى؟
لا ينفي المنظّرون الأميركيّون أطروحة تراجع الهيمنة العالميّة للولايات المتّحدة، ويحاولون من خلال تقبّل هذا الواقع، التخطيط لهذا التراجع وإدارته بالشكل الذي يصل ببلادهم إلى أن تكون إحدى القوى الرئيسيّة بدلاً من أن تنهار. وعلى حدّ تعبير المفكر الأميركي الشهير روبرت كابلان، فإنه ليس هناك شيء أفضل بالنسبة إلى بلاده من تهيئة العالم لاحتمال زوالها، وترتيب آلية مناسبة للتراجع المتناسق كي تطيل من أمد بقائها كأمّة قوية، مشيراً إلى أن العولمة التي اخترعتها الولايات المتحدة لترسيخ هيمنتها على العالم استغلّتها قوى أخرى (على رأسها الصين) كأداة لتقويض النفوذ الأميركي من داخل هذا النظام.
ويشكّل السعي الحثيث للوقوف في وجه الهيمنة الدولية الأميركية سبباً واضحاً لتأجيج الصراعات العالمية. بالتالي، فإنّ تشكيل تحالف ضدّ الهيمنة الأحادية القطبية للولايات المتّحدة الأميركية، والتحوّل من مجرّد التماشي واحتواء السيطرة، إلى البدء في الانتقال إلى المواجهة، يعني بدء التراجع في النظام القائم على الهيمنة، ما يؤدّي إلى استخلاص نتائج تُظهر أنّ مشروع الهيمنة يتداعى، خصوصاً أمام تحوّل النظام الدولي إلى التعدّدية القطبية. لقد أشار كتّاب أميركيون إلى أنّ أغلبية القوى العظمى خسرت قيادتها، ليس بسبب سعيها للهيمنة، بل لأنّ القوى المناوئة الأخرى قامت بتوازن مضادّ بوجهها. (للمزيد حول هذه النقطة انظر الدكتور حسام مطر، «الهيمنة الساحرة»، صادر عن مركز باحث للدراسات، الطبعة الأولى 2018).
ويمكنني القول إن الولايات المتّحدة بدأت تخسر سيطرتها القطبية أو أحاديتها بين الأقطاب، منذ تورّطها في غزو العراق عام 2003، بعدما بحثت قبل ذلك عن العدو المفقود، فوجدت ضالّتها بعد أحداث أيلول 2001 في تنظيم «القاعدة». وها هي، اليوم، أصبحت تواجه منافسات ليست دولية فقط، إنّما إقليميّة أيضاً، كما يحصل في علاقتها مع إيران، وذلك بهدف إعادة التوازن إلى النظام الدولي، لا سيما أنّ هناك من يضاهيها عسكرياً، أو على أقلّ تقدير قادر على مواجهتها وتوجيه ضربات قاسية إلى أمنها إن لم نقل هزيمتها، فضلاً عن أن قدرتها على المناورة عبر فرض عقوبات اقتصادية دائمة، قد لا تكون الورقة الرابحة دائماً، خصوصاً في ظلّ وجود إمكانية المواجهة كما في الحرب التجارية مع الصين. إضافة إلى ما تقدّم، لم تنجح قوتها الناعمة دائماً، على عكس الصين مثلاً، التي تظهر أقلّ تهديداً للعالم منها. (انظر، Joseph S. Nye, What China and Russia Don’t Get About Soft Power, foreignpolicy, April 29, 2013).

الصين التحدّي الأكبر
وتُعدّ مرحلة التحوّل من نظام دوليّ إلى آخر، من أخطر المراحل في العلاقات الدولية. وهنا يحذّر وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر الولايات المتّحدة الأميركية من الانعزال عمّا يجري في العالم. كذلك، يحذّر في كتابه النظام العالمي من خطورة الانتقال إلى الميدان المفتوح لأكثر المساعي التوسعية وأكثر اللاعبين عناداً. وهو يجزم بأنّ المفهوم العام الذي يستند إليه النظام العالمي في عصرنا الحديث يمرّ بأزمة حقيقية، ولعلّ الاضطرابات والحروب الدائرة رحاها في أكثر من منطقة في العالم خير دليل على عمق هذه الأزمة. ويرى كيسنجر أنّ النظام العالمي الجديد يستحيل أن يكون أحادي القطب، بل ينبغي أن يكون متعدّد الأقطاب، مشتركاً بين الولايات المتّحدة والصين، معتبراً أن لا مناصّ من عالم متعدّد الأقطاب، يسوده اقتصاد السوق.
ويبدو لي أيضاً في ظلّ هذا التحوّل، أنّ النظام الاقتصادي العالمي القائم على الأحادية لن يدوم طويلاً، فكما بدأ الانتقال إلى مرحلة التعددية في السياسة الدولية، بات العالم بحاجة فعلية لنظام اقتصادي يقوم على التشارك والدمج بدلاً من الاستئثار، لأنّ الدول لن تصمد كثيراً في حال استمرّ الاقتصاد العالمي على ما هو عليه. وبالتالي، فإنّ الدول المتضرّرة لن تسكت كثيراً عن السياسة الاقتصادية الأميركية تجاه العالم، وهنا بإمكاننا النظر إلى التحوّلات الاقتصادية في روسيا والصين، والتي أصبحت تتخطّى العقوبات الاقتصادية لا بل تحاربها.
لقد تغيّرت نظرة الغرب، وخصوصاً نظرة النُخب الأميركية في مراكز الدراسات والجامعات والصحف، إلى الأحادية القطبية. وهذا ما يقودنا إلى القول إن العالم المتعدّد الأقطاب هو بديل جذريّ للعالم أحادي القطب، وهنا يأتي دور الصين التي لم تعُد لاعباً سهلاً تنظر إليه واشنطن على أنّه تحدٍّ اقتصاديٍّ عالميٍّ، بل بات يتحوّل إلى الأكثر فاعلية في النظام الدولي، خصوصاً مع فرض الصين نفسها في الذكرى السبعين لتأسيسها، على أنها اللاعب الأكثر تهديداً للولايات المتّحدة.
ويمكن دمج القوّة الاقتصادية التي تتمتع بها الصين، والتي نمت خلال العقود الثلاثة المنصرمة، مع ما عُرض من قوة عسكرية ضخمة، حيث يأتي استعراض قوتها العسكرية كرسالة قوية ممزوجة بقدرة نووية، فضلاً عمّا تشهده من ثورة تكنولوجية ضخمة، لا سيما أن الحكومة بدأت تعي أهمية مواجهة الاستراتيجية الأميركية في المحيط الهادئ. أضف إلى ذلك، القدرة على التحرّك في السياسة الدولية، كونها تعدّ عضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي تتمتّع بحق النقض الفيتو، ولديها سياسة خارجية قوية منفتحة على كلّ دول العالم وقادرة على نسج تحالفات عدّة، من خلال استخدام الاستراتيجية الذكية، فضلاً عن تمتّعها بموقع جغرافيّ استراتيجيّ يسمح لها فعلاً بتأسيس مبادرة الحزام والطريق، حيث تقع الصين في النصف الشرقي من الكرة الأرضية والجزء الشرقي من قارة آسيا والساحل الغربي من المحيط الهادئ، إذا ما أخذنا كلّ ذلك في عين الاعتبار، فإنّنا سنكون أمام قطب عالميّ مستعدّ لتصدّر النظام الدولي، وليس المقارعة فيه فقط.
بناء عليه، يمكننا أن نخلص إلى أن الصين، التي لم تكن سابقاً تتسابق على تصدّر المشهد في العلاقات الدولية، تعدّ اليوم، مع ما تملكه من قوة على المستويات كافة، لاعباً رئيسياً في السياسة الدولية يمتلك ثاني أكبر اقتصاد في العالم وجيش كبير لديه أسلحة استراتيجية ونووية وقوة تكنولوجية وذكية وناعمة، تجعلها أقلّ خوفاً في التقدّم نحو مقارعة واشنطن، وبالتالي تحوّلها إلى القوة الأكثر تأثيراً في النظام الدولي، والتي تشكّل التحدّي الأكثر واقعية لإسقاط الهيمنة الأميركية على العالم.
*أكاديمي وباحث في العلاقات الدولية