بدأ الحراك في الشارع والساحات عصر يوم 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019. مظاهرات عفوية تلت قرار فرض رسم على خدمة الواتساب المجانية أصلاً، وكانت الضاحية الجنوبية في بيروت، من ساحة المشرفية على كامل أوتوستراد المطار، ميدان هذا التحرك البارز، قبل غيره من الميادين.إن رسم الواتساب كان الشرارة التي أشعلت نيران الحراك الشعبي، بعد تفاقم الأزمات الاقتصادية والمالية والنقدية. وتلاحقت مظاهر التفاقم في الأوضاع الاقتصادية العامة، بتلاحق الأزمات من سعر صرف الليرة وفشل الهندسة المالية لحاكم مصرف لبنان، وأزمة البنزين، والقمح، إضافة إلى توتر العلاقات بين الأحزاب السياسية داخل الحكومة، واستمرار مأساة نقص الكهرباء وفشل إصلاح أمورها، واستمرار هجرة الشباب، وعدم التوافق شروط بين دول مساعدات خطة سيدر مع خطة الموازنة؛ واستمرار شهية الفساد والهدر والنهب على ما هي عليه عند أهل السلطة.
كان حزب الله الحليف الموضوعي لهذا الحراك، من حيث معارضته لسياسات فرض الضرائب، وخطته في مكافحة الفساد، ونقده المتواصل لسياسات الهدر والمحاصصة. لوّح مرات عدة بالنزول إلى الشارع، لكنه لم يفعل، وحين فعلها الناس، تعاطف معهم وأيّدهم، وتصرف كحريص على نجاح حراكهم، من موقع أقرب الأطراف إليهم داخل الحكومة، ودعا إلى استجابة الحكومة إلى مطالبهم. وهذا ما حصل في ورقة الإصلاح الاقتصادية التي قدمتها الحكومة اللبنانية تحت ضغط حراك الشارع المنتفض.
في الخطاب الأول الذي وجّهه سماحة السيد حسن نصر الله، ظهرت علامات هذا الموقف، وهي بإيجاز: حزب سياسي مشارك في الحكومة، يساند حراك الشعب، من أجل الإصلاح ومكافحة الفساد، ويأخذ منه دعماً وقوة لدفع الحكومة إلى الاستجابة، وإقرار موازنة تقوم على خطة إصلاحية اقتصادية، ومالية، ونقدية، تستجيب لجزء كبير من مطالب الحراك الشعبي.
وهذا ما قاله سماحة السيد حسن نصر الله للمتظاهرين: الانتفاضة على حق، والحراك في وقته المناسب، نحن معكم، صوتكم كان صوتنا، أسمعتم من له أذن تسمع وعقل يدرك، وضمير يراقب ويحاسب، وقد أنتج الحراك، توافق الحكومة على الورقة الإصلاحية، حافظوا على هذا المكسب، استمروا في الساحات، خذوا وطالبوا، واحرصوا على البلاد، وميثاقها الوطني ودستورها ومؤسساتها الشرعية. وأعلن موقفه في التزام الحزب بالتسويات السياسية؛ بين مكونات الحكم، خصوصاً الرئاستين الأولى والثانية، في ما يعرف بـ «التسوية بين عون – الحريري» والتي يلعب فيها حزب الله دور الشاهد المؤيد. وعليه، قدّم الخطاب الأول خطة طريق للحراك، من باب المسؤولية الوطنية تقوم على ما يلي:
1- حصر الحراك من الناحية السياسية بالممكن من المطالب حتى لا يضيع هذا الممكن في المغالاة وطلب المستحيل، في هذه المرحلة والممكن هو:
• فرض ورقة إصلاح تخرج البلاد من الأزمة المالية الحادة.
2- لا مطالب تطال أسس الكيان والدولة، وتحدث فراغاً في المؤسسات.
3- التنبيه إلى مخاطر استغلال قطّاع الطرق الإقليميين والدوليين.
4- وعلى قاعدة خذوا وطالبوا، السعي قدر الإمكان إلى عدم إضاعة الوقت، وضياع فرصة الإنقاذ.
5- لا تجنحوا إلى المبالغة، إن من حمل حجراً كبيراً يقع على قدميه، وانتبهوا إلى مشكلات ما يسمى الطفولية اليسارية، والتطرف، والحذر من خطف الحراك وتحريف مساره.
6- حكمة عملية مفادها:
• املأوا الساحات وافتحوا الطرقات.
• ابعدوا استغلال الأحزاب الداخلية وتدخّل السفارات.
• نحن معكم ودخولنا العملي إلى الحراك قد لا يحصل في هذه المرحلة، وإذا اضطر الأمر نحن له جاهزون.
إن ما ورد أعلاه من شرح للخطاب الأول، يجد تفصيله في نص الخطاب - الوثيقة، ويتضح من الشرح أن الحليف الأول المؤيد للحراك الشعبي كان على الحقيقة أمين عام حزب الله.
واجه الخطاب الأول للسيد حسن نصر الله أمرين:
1- استمرار الحراك، في ما يشبه التزاوج بين عدم كفاية الورقة الإصلاحية ونقدها وبين عدم الثقة في تنفيذها، وفيه دخول في المطالبة باستقالة الحكومة وتغييرها إذا استحال تعديلها. يوجد فارق بين استقالة الحكومة، وتغيير الحكومة. الاستقالة تكون رضوخاً قسرياً لمطالب الشعب والتغيير يكون استجابة طوعية له، وإن كان التغيير يستلزم استقالة لكنها استقالة متفق عليها.
2- ازدياد تدخلات قطّاع الطرق، أميركا وأوروبا، والسعودية والإمارات.
3- انفلات الشعارات في الانتفاضة من ضوابط التفاهم السياسي بين مكوناتها، والالتزام الأدبي بين جهات حراكها. الأمر الذي أدى إلى ازدهار الشتائم والسباب، والتكفير، والذهاب في الشعارات والمطالب الصادرة في البيانات والمغطاة من وسائل الإعلام إلى فوضى عارمة، في غابةِ صراخ؛ ومنصّة صراع مشرّعة الحلبات...
كان خطاب سماحة السيد حسن نصر الله هو محل الاهتمام السياسي، إضافة إلى خطاب الرئيس عون، وورقة الإصلاح، فيما برز غياب الآخرين عن الساحة وصمتهم المريب.
إذا كان الحراك وطنياً فإن مؤثرات الخارج من سفارات ووكالات لا تمثله ولا هي قادرة على قيادته. إنها تنمو حوله مثل الأعشاب الضارة في بستان الحديقة الخصب


تطورت المواجهة وتعددت ساحة الحراك، وتباينت المواقف، وطرحت الحلول، وفشلت المساعي. وتدخل السفراء، واتصل الأمراء، وخاب ظنّ الناس، واشتعل السباب والغناء، وتواجهت الساحات، واشتدت الأخطار، وكانت الأوضاع، تستلزم حديثاً جديداً إلى اللبنانيين. تحدث رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وبعده كاشف السيد حسن نصر الله اللبنانيين على طريقته في إدارة الحدث في الميدان، ومع الناس بصدقيّة وشفافية عالية.
خطاب سماحة السيد حسن نصر الله الثاني؛ حمل ردوداً على ما تناوله الخطاب الأول من أسئلة. أوضح ما التبس منه على إدراك كنهه وصريح مطالبه ودقة إشاراته، وأكمل الموقف من ضرورة الحفاظ على الميثاق الوطني للكيان اللبناني والمؤسسات الدستورية؛ وملخصه الحفاظ على الدولة، والكيان وحفظ النظام، طالما أن تغييره من الصعوبات ودونه العقبات، وتركيز المطالب والجهود على ورقة الإصلاح وسرعة تنفيذها وعلى الحكومة ومستوى النظر في أحوالها، حيث تبقى وتسارع بالجدية إلى العمل، وكذلك إمكانية تعديلها وصولاً إلى حدود تغييرها. وكان الهاجس كسب الوقت وعدم إضاعته لأن الوضع المالي في خطر، ولأن احتمال استغلال الحراك وحرفه عن أهدافه متوفر، وقد بدأ ينشط من دون حرج ولا حذر. في العلن كما في السرّ، وسأل عن مخاطر التمويل، ومصادره ومخاطر قطع الطرقات، والمواجهة في الساحات بين ميدانين للتظاهر والحراك، على الطراز الفنزويلي أو سواه. وكانت التعليقات والكتابات في وسائل الإعلام تحرك الذاكرة على أشكال الثورات الناعمة، وتفتح البصيرة على أساليب إدارتها، وقد ظهر منها إلى العلن، في ساحات وشوارع عدة ما ظهر.
دعا سماحة السيد حسن نصر الله، إلى العقلانية، والصبر، وتحقيق المطالب من دون خراب البصرة. وأشار إلى ما يدور من حولنا، وإلى المخاطر المحدقة في البلاد، إذا لم نحصّن أنفسنا وبلادنا بالوعي واستخدام العقل وتشجيع الحوار، وتوسيع دائرة الحراك في كل الساحات والحفاظ على الأمن والسلامة العامة وحركة التنقل على الطرقات.
ارتفعت بعد هذا الخطاب وتيرة الاتصالات بين الأقطاب، وكان الحديث الأساسي في كل من بعبدا، وعين التينة وبيت الوسط وحارة حريك مسألة: تقديم مكسب آخر للمتظاهرين، بعد الورقة الإصلاحية يكون صدمة إيجابية، وتباين الموقف بين أمرين:
1- تغيير الحكومة، واستبعاد الوزير جبران باسيل وآخرين.
2- الإسراع إلى تفعيل جلسات مجلس الوزراء، وإقرار بنود الورقة الإصلاحية.
كان حزب الله، في اختياره البند الثاني، يريد من ذلك ما يلي:
1) الحفاظ على التسوية السياسية بين الرئيسين عون والحريري.
2) الانتقال إلى العمل وتنفيذ الورقة الإصلاحية، خاصة البنود الملحة التي تستلزم مشاريع قوانين للبرلمان، ومناقشة سريعة للموازنة وإقرارها.
3) الخشية من تصاعد سلسلة المطالب لإدخال لبنان في مأزق حكم. وهو في غنى عنه، وصورته صراع أهلي خطر لا فائدة منه.
4) الحفاظ على العهود والمواثيق، وبناء الثقة بين أركان الحكم لبناء الثقة بين الحكم والشعب.
5) الحذر من تسارع الأحداث الإقليمية ودخول لبنان ورقة في الصراع على طاولة الدول الإقليمية منها والدول الكبرى.
كان حزب الله على تواصل دائم مع الأطراف السياسية المشاركة في الحكومة، وعلى متابعة للحراك الشعبي وتواصل مع من يعرف من قياداته، وكان يفكر في المشاركة الفاعلة فيه، وتلك كانت رغبة صادقة، لكن، أساليب إدارة الحراك جعلته يصرف النظر، لرفع الضرر والخطر.
تطورت الأحداث، وتسارعت حتى استقالة الحكومة باستقالة رئيسها، بعد فشل تدارك الأمر بالحوار بين أطرافها المشاركة فيها. واستقالة الحكومة لا تساوي قرار تغييرها على ما ذكرت واستمر الحراك في الشارع وشاركت فيه أطراف جديدة تتمثل بأنصار تيار «المستقبل». وأصبحنا أمام واقع جديد يستلزم مواقف جديدة تناولها الخطاب الثالث لسماحة السيد حسن نصر الله.
استفاد سماحته من المناسبة في تأبين عالم فقيه، محقق، مؤرخ، مدقق للحديث عن التاريخ، من حيث هو تاريخ واقعي مقابل التاريخ النظري، ومن حيث اختلاف المؤرخين في قراءة الواقع وتفسيره، وهي إشارة واضحة إلى أهمية فهم كل خطاب يتناول النظر في الوقائع والأحداث، وبعضها يخلق الأفكار بدوره، بعد أن يكون قد أنتجته الأفكار بدورها.
في هذا الخطاب، تأوج للموقف المؤيد للشعب والحراك الشعبي. وإشارات صريحة إلى أن من مشكلات الاستقالة النفاذ إلى سرقة إنجازات الحراك بتجميد تنفيذ الورقة الإصلاحية، وتأجيلها من خلال استقالة الحكومة، واستحالة تنفيذ القرارات ووضع مشاريع القوانين اللازمة لها.
طرح الخطاب الثالث مسألة في غاية الأهمية، تتناول ما أريد بأخلاق الثورة أو الحراك، وما يؤذيه ويصيبه بالضرر، ممارسات مستفادة من قواعد إثارة الفوضى والتدمير الخلقي بالشتائم والسباب، وتناول الأشخاص في كرامتهم وأعراضهم. وفي لبنان حيث الكل يعرف الكل، لا يصلح إفلات العنان لخلق التحقير من إشاعة الضرر العام وزيادة الفوضى، ومخاطر الاحتراب الأهلي.

كان حزب الله الحليف الموضوعي للمحتجين من حيث معارضته لسياسات فرض الضرائب وخطته في مكافحة الفساد ونقده المتواصل للهدر والمحاصصة


ورغم كل ما تقدم، فإن النهر لا يفسده غبار يعلق بمجراه. ولذلك انتقل خطاب سماحته للحديث عن الوعي وأهمية الخطاب الأخلاقي، تشدد في الكسب وحاذر السب. ذلك هو الوعي الثوري، المستفاد عند سماحة السيد حسن نصر الله من خلق المعاملة، وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
يمثل الخطاب الثالثَ النص الأجمل في مديح الحراك، حراك شعبي مشروع يستند إلى الوعي والمطالب الحقة والسلوك الحسن، وهو موقف يعترض على كل ما اعترض الحراك مما يخالف هذه القاعدة، قاعدة الوعي والخلق، من أحداث وتصرفات من أي جهة جاءت، وصل إلى حد إدانة الفعل بصرف النظر عن الفاعل.
إذا كان الحراك الشعبي وطنياً، فإن مؤثرات الخارج، من سفارات ووكالات، لا تمثله ولا هي قادرة على قيادته. إنها تنمو حوله مثل الفطر السام، الأعشاب الضارة في بستان الحديقة الخصب.
أراد سماحة الأمين العام لحزب الله وقائد المقاومة، أن يقول: إن المقاومة قوية وقادرة ومقتدرة، ولا خوف عليها وهي تزداد قوّة من حركة الناس، إن أفواه الناس أقلام الحق...
وجاء التأييد للحراك الذي لم يسبقه تأييد آخر، ولا ورد على قلب قادة الحراك أنفسهم وهو أن مطالب الحراك يجب أن تكون البرنامج الأساسي للحكومة المقبلة. كأنما سماحته يطلب أن يكون الحراك مشاركاً في المشاورات، ولعلّ بيان «كتلة الوفاء للمقاومة»، يكشف أن هذه الكتلة البرلمانية، ستحمل بعض هذه المطالب في حصة المشاورات حول الحكومة العتيدة.
وحذار، قال سماحته، من التسويف وإضاعة الوقت في دعوة لتأليف سريع وعدم الوقوع في إطالة التكليف الذي يعني إضاعة الوقت وسيادة الفراغ، وتفاقم الأزمة على الناس، وإضاعة مطالب الإصلاح الاقتصادي والمالي.
القراءة في الخطب الثلاث تظهر أنها وثائق نصوص في إدارة أصعب الأزمات في البلاد، تصدر عن حركة الواقع، تجيب عن أسئلة الواقع، تبحث عن حلول لمشكلات هذا الواقع، وأجوبة عقلانية على أسئلته الواقعية.
أعود إلى مقدمة هذه المقالة، التي طالت على رغم رغبتي في الإيجاز، وهي أن منهج قراءة خطاب رجل الدولة، تختلف عن قراءة المباحث النظرية، لأن الخطاب موقف واقعي، والبحث تحقيق نظري، الأول ينتج الحلول، والثاني ينتج الأفكار من الأفكار.
لقد أدركت في هذه القراءة حقيقة مواقف حزب الله من خطب أمينه العام، وأرغب أن أختم بمحصلة مؤيدة من العقل والقلب محصل فصيح لموقف صريح، وهل القول صحيح يا سيدي، أن بلداً تكون فيه قائداً وتقوم فيه خطيباً، وتنطق فيه مفكراً وعالماً هو رغم كل الصعاب على كف الأمان.
* كاتب ووزير سابق