الرئيس الحريري يُعرب في استقالته عن بقاء الباب موارِباً أملاً بالاستثمار في الشارع والمؤسسات الدولية، ولعله يسعى إلى تبوّء موقع القوي لتعديل موازين القوى في السلطة. في المقابل، لم يرضَ السيد حسن نصر الله بتغيير الحكومة، بل كرّر في كلمته مرّتين تمييز عدم الرضى عن عدم القبول بسقوط العهد. فحزب الله لم يستثمر في الحراك الاجتماعي على الرغم من تاريخه الطويل في الانحياز إلى الفئات الشعبية، ربما لأن أدبياته لا تتناول ما يُعرف في حركة المناهضة العالمية "بالمقاومة الاجتماعية" لفرض سياسات اقتصادية ــ اجتماعية بديلة من منظومة الرأسمالية المتوحشة. لكن انفجار الاحتقان الاجتماعي الطويل في حراك شعبي أبعد من العمل المطلبي والنقابي، يفرض معادلات صعبة في الشارع الذي يكشف عن هول أزمة اقتصادية ــ اجتماعية متجذّرة عميقاً وغير قابلة للحل في المديين القريب والمنظور، وعن المخاطر الوجودية التي تهدد مستقبل الأجيال الشابة على وجه الخصوص. فتراكم فساد الطبقة السياسية وأزمات النظام في فساد سياسته الاقتصادية ــ الاجتماعية منذ تحوّله نحو ما يسمى "إعادة الإعمار" في سياسة الديون مع الرئيس رفيق الحريري عام 1992، ينفجران على الملأ دفعة واحدة غضباً أشمل ممّا أُطلق عليه "أوجاع الفقراء". فهو ينمّ عن صرخة «مقاومة اجتماعية» رفضاً لاضطهاد وإذلال الفئات الشعبية الواسعة التي فقدت آفاق المستقبل وكرامة العيش في قاع المجتمع الذي تهمّشه الطبقة السياسية المتنفّذة في الفساد ونهب المال والثروة العامة خدمة لخياراتها السياسية الاقتصادية والخارجية والدفاعية.
دروس الشارع بين الغث والسمين
المفارقة أن أحزاب السلطة تأخذ من الحراك ما يصبّ في طاحون وعودها الإصلاحية ومكافحة الفساد ودعماً لما تسميه «فضل الحراك في إحداث صدمة إيجابية». لكن اعترافها بهذا الفضل لتحريك محاولاتها السابقة ومساعيها الحالية يؤكد في الوجه الآخر للميدالية نفسها أن الطريق الذي تسلكه اعتماداً على إقرار مشاريع قوانين جديدة في مجلس النواب، مسدود بحاجز مؤسسات ينخرها الفساد ولا يُعوّل على صحوة ضميرها. فهذه المقاربة الإدارية التي تراهن على حلّ أزمات دهرية مستعصية بذريعة المحافظة على عمل المؤسسات الدستورية، تدلّ على عدم جدّية السلطة في استيعاب مخاطر الأزمة ودروس الحراك الشعبي لطيّ صفحة المستنقع الآسن والانتقال إلى خلية طوارئ حكومية تستند إلى ضغط الشارع متسلّحة بخطة سياسية أبعد من الإجراءات البيروقراطية الروتينية.
عملياً، لا يتوقف التعبير عن جدّية أحزاب السلطة على سنّ قوانين جديدة في مجلس النواب لرفع الحصانة والسرية المصرفية عن المتهمين والمشبوهين في القطاعين العام والخاص. فلبنان الذي يحتل الرقم القياسي بين الدول الأكثر فساداً، وقّع في عام 2008 على الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد، وفي عام 2017 أقرّ البرلمان اللبناني من ضمن الاتفاقيات الدولية قانون حق الوصول إلى المعلومات المتعلّقة بشبهة الفساد وسوء استخدام السلطة. لكن العمل في مجمل الإجراءات القانونية والاتفاقيات في هذا الشأن يفتقد تغييب السلطة خطة سياسية للمباشرة في إثبات الصدقية. فهي تعمد إلى التبشير بإجراءات شعبوية على هامش الطبق أملاً بدغدغة العواطف على غرار تخفيض رواتب النواب، بينما تشيح بوجهها عن منبع الفساد في عمل النواب الخاص التجاري و«الاستثماري» المسبّب للفساد والرشوة والنهب.
المفارقة الأدهي هي الخلط الاعتباطي بين الإصلاح الاقتصادي وما تسمّيه مكافحة الفساد، بدليل ما سمّته السلطة «ورقة إصلاحية» ظناً منها إشاعة «بداية التجاوب مع مطالب المتظاهرين». والحال أنها «ورقة» تتجاوب مع مطالب «سيدر» (باعتراف الرئيس الحريري أنها ليست مطالب المتظاهرين) أملاً بمراهنة أحزاب السلطة على منع الانهيار المالي وتجنّب مخاطر الانزلاق إلى الفوضى الأمنية وتهديد الاستقرار السياسي. وهو ما تخشاه أيضاً «مجموعة سيدر»، بل يذهب بعض خشية «سيدر» إلى الإعراب عن مساعدة مالية أكثر من «الورقة» نحو إمكانية هيكلة الديون وشطب جزء من خدمة الدين العام ومن الديون الخارجية بحسب «كابيتول إيكونوميكس». والسبب في ذلك، وفق الصندوق الدولي، هو حماية المستثمرين من احتمال خسارة 75% من قيمة الاستثمارات، وحماية لبنان من الوقوع في هاوية الإفلاس والعجز عن سداد خدمة الديون والاستثمارات الأجنبية في الديون. لكن "حقنة المخدّر" في التراجع عن الضرائب المباشرة الجديدة لمدة سنة واحدة، هي مقابل تشديد خناق التقشّف في التوظيف الحكومي والخدمات الاجتماعية لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد. فانهيار الحقوق الإنسانية في العمل والمأوى والطبابة والتعليم والغذاء هو الدرس الأساس الذي يمكن استخلاصه من غضب الشارع فوق العوارض الملازمة للهرج والمرج.

تكنوقراط وخبراء بماذا؟
على خلاف ما يتراءى لبعض أحزاب السلطة، يكشف الحراك الشعبي عن هشاشة القوى والتيارات السياسية المعادية للمقاومة في المراهنة على التحريض الطائفي ضد سلاح المواجهة مع إسرائيل والمشاريع الأميركية ــ الغربية ــ الخليجية في المنطقة. فهذه القوى لم تندثر ولا يزال في وسعها توظيف التناقضات السياسية والاجتماعية أملاً بتحسين مواقعها في القدرة على المشاغبة والاستثمار في التوتر، لكن المشروع الأساس الذي تستند إليه التحاقاً بالدول الغربية والخليجية، يترنّح من دون أفق. وفي الأزمة الاجتماعية ــ الاقتصادية المولّدة للحراك الشعبي، لا يسع هذه القوى ترويج مقولاتها في "الاقتصاد الحر" لزيادة الشيء من الشيء نفسه واستفحال التبعية لما تسميه "المجتمع الدولي" في منظومة الإقصاء والتهميش الدولية.
القوى المنضوية إلى إطار الديمقراطية الليبرالية والأميركية، يفتح لها الشارع نافذة الإطلالة على الحراك حنيناً إلى مقولات «إعلان دمشق» أو إلى تفرّعاته المتشعّبة في ما يسمى «جمعيات وتيارات المجتمع المدني». فهي تضم طيفاً من مثقفين بلديين ومن المستوزرين والناشطين المدرّبين على إعداد الاحتجاجات وتوضيبها لتلقّي «المساعدات» الدولية والإقليمية في ميزانيات مقتطعّة في أساسها من المؤسسات الدولية ومرافق الحكومات الغربية. لكن وظيفتها الأولى تنحصر في تبييض استراتيجيات وسياسات التوحّش والتهميش في المنظومة الدولية، بمسحة من سرديات المواطنَة والتمكين والحوكمة الرشيدة ومكافحة الاستبداد.... إلخ. والأهم مقابل سخاء العطاء هو العمل على حماية أم الفساد في المنظومة الدولية بمحاربة رضيعها المحلي.
الحدّ من الانهيار والبطالة والبؤس لاستعادة الاستقرار الاجتماعي، يتطلّب مواجهة الحدّ من التبعيّة السياسية والتبعيّة الاقتصادية


في سياق هذه السرديات تسري التعمية عن السياسات الاقتصادية ــ الاجتماعية الدولية المولّدة للتهميش والفقر والاضطهاد، بتنزيه الخبرة والعلم التكنوقراطي والكفاءة في الاختصاص .... إلخ، عن غرضية هذا التنزيه في خدمة السياسات نفسها. وفي حقيقة الأمر، توظّف الحكومات الغربية والمؤسسات المالية الدولية أهم الخبراء والتكنوقراط والكفاءات لتخطيط استراتيجياتها "العلمية"، ومن بينها تربية تلاميذ هؤلاء الخبراء وأتباعهم على أيدي شيوخ الطريقة. فهذه الآلية الصعبة والمعقّدة يتناولها العديد من الخبراء والعلماء المنشقّين عن مذاهب علماء المؤسسات الدولية والشركات الكبرى، وأدّت خبرتهم العلمية وكفاءاتهم التكنوقراطية إلى أبحاث مناهِضَة بديلة من سياسات التوحّش في المنظومة الدولية. ولعلّ الخبير الاقتصادي المنشق جون بيركنز في كتابه (اعترافات قاتل اقتصادي ــ 2004) الأكثر تفصيلاً في معلومات جرائم صفوة الخبراء في الشركات الاستثمارية الأميركية ومنظومة الشركات الكبرى التي يسميها "حكم الكوريو قراطية". (إضافة إلى ترجمة كتابه باللغة العربية تحت عنوان "الاغتيال الاقتصادي للأمم"، أجرت قناة الميادين معه مقابلتين في برنامج "المشهدية" بتاريخ 22 أيلول الماضي وفي برنامج الزميلة زينب الصفار "من الداخل" في مطلع ت1 الحالي)، ولا تقلّ جرائم الخبراء والاختصاصيين في لبنان والعالم العربي عن جرائم أساتذتهم في تشبّعهم بالسياسات نفسها خلف الكفاءة المجرّدة والتنزيه عن المصالح الخاصة، إذ تندر في لبنان والعالم العربي كفاءة الخبراء والاختصاصيين في السياسات الاقتصادية ــ الاجتماعية البديلة.

السياسة الاقتصادية ــ الاجتماعية البديلة
في لبنان خبراء في الهندسة المالية منشقّون عن المصرف المركزي، ينقلون علمهم وخبرتهم التي باتت ثقافة مؤثرة في اتجاهات الحراك. لكن ندرة الخبراء والاختصاصيين في سياسات المناهضَة البديلة من سياسات منظومة التوحّش الدولية، تدفع بعض الأحزاب والتيارات الوطنية في الحراك الشعبي إلى الالتفاف على مواجهة السياسة الاقتصادية ــ الاجتماعية بالدعوة إلى إصلاح النظام السياسي والانتخابات... إلخ. فالحراك الذي تنتظره هذه القوى منذ عقود، قد يكون مناسبة للطموح بدمقرطة أشكال الحكم ووضع العراقيل أمام استيلاء السلطة وزبائنيتها على الدولة والثروات العامة. لكن منبع الانهيار الاقتصادي والاجتماعي في لبنان يأتي من السياسات الاقتصادية ــ الاجتماعية الدولية التي تصبّ في لبنان وعبره. وقد لا تغيّر دمقرطة أشكال الحكم من مصبّه الكثير، كما تشهد نتائج هذه السياسات نفسها في الدول الديمقراطية العريقة والدول الناشئة. فالقوى المستفيدة من هذه السياسات في المنظومة الدولية تقرر عملياً أسس السياسات الاقتصادية للحكم المحلي وتشرّع أبواب الفساد والنهب أمام الطبقات السياسية المتنفّذة، بل تنقل إليها تشريعات وخبرات التغطية القانونية للتهرّب من المساءلة والعقاب.
مطلب استعادة الأموال المنهوبة على سبيل المثال، هو مطلب سياسي عادل للحراك الاجتماعي. لكن المصارف الأجنبية تتحكّم في الأموال المنهوبة من ميزانيات الديون قبل وصولها لأيدي الطبقة السياسية وبعدها. وفي هذا الشأن لم تنجح الفيليبين خلال ثماني سنوات من استرداد أكثر من 624 مليون دولار من أصل ثروة فرديناند ماركوس في سويسرا المقدّرة بحوالي 5 ــ 10 مليارات دولار. وهي أكثر التجارب نجاحاً، إذ بقيت الأموال المنهوبة من تونس وليبيا ومصر ودول عديدة أخرى طيّ الكتمان.
بمتناول السلطة الجدّية المحلية الحدّ من النهب والفساد في خوض معركة، تحت الضغط الشعبي، لملاحقة المتهمين بجرم "من أين لك هذا؟". لكن الحدّ من الانهيار والبطالة والبؤس لاستعادة الاستقرار الاجتماعي، يتطلب مواجهة الحدّ من التبعية السياسية والتبعية الاقتصادية على وجه الخصوص في "مقاومة اجتماعية" مترابطة مع المقاومة الوطنية والتحوّل شرقاً في سياسات بديلة، بدءاً بتبادل المصالح والعلاقات المتكافئة وتوطين الثروة في الحقل الإقليمي.
* باحث لبناني