أهم ما يميّز هذه الموجة الجديدة من الاحتجاجات في لبنان بالإضافة إلى تركيبها الطبقي هو الاستحالة التي تنطوي عليها في مواجهة نظام يقوم على المزاوجة بين حكم الأوليغارشيا والاجتماع الطائفي المديد. الاستمرارية هنا تصبح بمثابة تحدٍّ في ظل سيولة واضحة تصعِّب حسم الهوية الاجتماعية للاحتجاجات ، وما إذا كانت بمثابة قطيعة فعلاً مع الاجتماع السياسي الطائفي المتحالف مع الأوليغارشيا, أم أنها مجرّد هزة عابرة لهذا الاجتماع الذي بدا في الأيام الأولى هشاً جداً، ومعرّضاً للكسر قبل أن يستعيد عافيته لاحقاً، ويبدأ مرحلة الهجود المضادّ.
(هيثم الموسوي)

المعطى السوسيولوجي هنا ليس تفصيلاً لأنه من عوامل قوّة السلطة التي بخلاف الاحتجاجات تعرف أنها استمرار ليس فقط لاتفاق الطائف، بل أيضاً لمنطق الحرب، بعدما أعيد إنتاج اجتماعها في السلم برعاية إقليمية ودولية. هذه المرّة لم تكن هذه الذاكرة حاضرة بالمقدار نفسه، حتى الحريرية السياسية التي كانت بمثابة المحرّك الاقتصادي للطائف غابت عن المشهد، ليس لأنها لم تعد مسؤولة بالقدر نفسه عن النتائج، بل لأنها هَزُلت إلى حدّ لم يعد ممكناً معه اعتبارها سبب انتهاء النموذج وانسداده. هذا الغياب المزدوج لسوسيولوجيا الحرب والسلم جعل المشهد يبدو وكأنه يولد من عدم، أو يمثّل استمراراً ليس لهذا الاجتماع السياسي بالتحديد، بل لمشاهد حصلت في الإقليم أكثر مما حصلت في لبنان، وحين انفجر الوضع في 17 تشرين الأول لم تحضر معه الشعارات المعتادة بل شعارات الاحتجاجات في تونس ومصر وسوريا وغيرها كدليل على عمق القطيعة المراد إحداثها مع هذا الاجتماع.

نموذج الاحتجاج
كان ثمة مشهد سابق مهّد لهذه القطيعة النظرية المنوي إحداثها، وهو احتجاجات عام 2015 على خلفية أزمة النفايات، ولكن المواجهة حينها لم تنتهِ حتى بأرجحية رمزية لقوى الاحتجاج، لكي يكون استمرارها عاملاً في المراكمة على ما أُنجز واستئناف المعركة مع النظام. الإنجاز الوحيد الذي تحقّق هو فتح كوّة في جدار الاجتماع السياسي الطائفي واصطفافاته، وبروز قوى جديدة حاولت في ما بعد استئناف المعركة من ضمن القواعد المعمول بها، سواءً عبر الانتخابات البلدية والنيابية التي يملك فيها النظام أرجحية دائماً، أم من خلال المعارك المستمرّة حول القوانين والتشريعات التي تُستثنى منها دائماً الفئات الضعيفة والمهمّشة مثل النساء والعاملات الأجنبيات واللاجئين وغيرهم. في هذه المرحلة أيضاً برزت قضية اللجوء بوصفها ليس فقط مسألة إنسانية نشأت على هامش الأزمة السورية بل بكونها، وخصوصاً في المرحلة التي أعقبت احتجاجات عام 2015 أحد العوامل التي ساعدت اللبنانيين على الخروج من إطار اجتماعهم السياسي الضيّق. الانخراط أكثر في المسألة السورية، سواءً عبر النقاشات أو من خلال الحراك الميداني بشقّيه المناهض والموالي جعل الفئة التي خاضت كلّ معارك الإصلاح السابقة تعتقد بوجود إمكانية لحصول تغيير لا يتمحور كالعادة حول «الخصوصية اللبنانية» التي تضع القطيعة مع ذاكرة الحرب واجتماعها كشرط مسبق. التعديل هنا ليس فقط شكلياً، بل هو في صلب استراتيجية الاعتراض، لجهة جعلها تتجاوز ولو مؤقتاً «الخصوصية اللبنانية»، في انتظار تبلور تحالف طبقي عريض يمكن بعده الإفصاح عن الهوية الفعلية للاحتجاج حين يحصل، بما تمثّله من عمق اجتماعي شعبي متضرّر بشكل كبير من النموذج الذي تقوده طبقة الأوليغارشيا إلى جانب المصارف.

مركزية حضور المهمّشين
هذا الإطار النظري بدأ يتحقّق فعلاً في الأيام الأولى، حيث برزت بوضوح معالم المسألة الطبقية، عبر الحضور الكثيف للفقراء في وسط المدينة، عقب إقرار الضريبة على مكالمات الواتسآب. الخطأ الفظيع الذي ارتكبته السلطة بإقرارها مزيداً من الضرائب على الاستهلاك جعلها تنكشف أمام مدّ كبير من فقراء الضواحي والأحياء المجاورة للوسط. هذا المدّ تسبَّبَ عبر موجات متتالية من الهجوم ليس فقط في كسر حواجز السلطة الدفاعية، بل أيضاً في استعادة الأجزاء الأكثر ثراءً من الوسط والتي تضمّ بالإضافة إلى المحال التجارية الفاخرة المصارف، وهي بالتحديد الجهة التي تسبّبت بكلّ هذه النقمة، إلى درجة اعتبارها هدفاً أساسياً من أهداف الاحتجاج. بعد ذلك، استقرّ المشهد قليلاً في الوسط مع حضورٍ متزايد للطبقة الوسطى التي بدت مرتاحة لما فعله الفقراء ولكن من دون تبنّي أفعالهم أو شعاراتهم بالضرورة. وهو مشهد لم يقتصر على العاصمة بيروت فقط، ولكنه بدا أكثر حضوراً فيها، لأن احتجاجات الأطراف استغرقت وقتاً أكبر لتجاوز حاجز الخوف بسبب الطبيعة اللامركزية للسلطة هناك، وبالتالي المرونة المطلقة، سواءً في الاحتواء أو القمع. ومع ذلك، ساعدت هذه الانتصارات المؤقّتة في تكريس الطابع اللامركزي للاحتجاجات كمعادل «موضوعي» للامركزية السلطة وتفرُّعها، حيث ما إن تفرغ ساحة بسبب الهجوم المضاد حتى تمتلأ أخرى متضامنة معها، وإن يكن بزخم أقلّ, كون الاحتجاج المركزي نفسه قد فقد الزخم بعد انسحاب فقراء الضواحي منه لمصلحة الطبقة الوسطى وطقوسها المحافظة. الملحوظ أيضاً في هذه الدينامية أنها كانت تحصل بالتزامن مع تغيّر بنية الاحتجاجات في كلّ ساحة، فاحتجاجات صور التي كانت الأكثر جذرية وتعبيراً عن المواجهة اختفت تماماً، وظهرت بدلاً منها ساحات إما فرعية أو رئيسية ولكنها تفتقد إلى الزخم، وتكاد تكون تعبيراً عن حضور أطياف وشرائح اجتماعية لا غير. وهو ما ساعد في تكريس الطابع الاحتفالي لهذه الساحات على حساب الوجهة الراديكالية التي برزت في الأيام الأولى، وصنعت العنوان الأساسي للاحتجاج، والذي هو حضور المهمّشين كفاعلين أساسيين, وكمحرّكين لقوة الدفع التي هزّت بنية السلطة.

عمق السوسيولوجيا الطائفية
الانتصار الصغير الذي تحوّل إلى «هزيمة» لاحقاً ذكّر الجميع بالحقيقة الفعلية للمواجهة، وبأنها لا تقتصر فقط على هزّ السلطة في المركز بعد إظهارها بمظهر العاجز في الأطراف، بل بتحويل المواجهة إلى «ساحة حرب» حقيقية بالمعنى الطبقي، وهو ما كانت تفتقر إليه كلّ التصوّرات المسبقة عن المشهد. حتى الجهات التي فكّرت في إمكانية تجاوز «الخصوصية اللبنانية» عبر الساحات المتزامنة والمتضامنة مع بعضها عادت واصطدمت بواقع الحضور الكبير للقوى التي يمثّل اتفاق الطائف عمقها الفعلي، ليس بالمعنى السياسي وإنما سوسيولوجياً، حيث يتعذّر حصول تضامن فعلي بين الطبقات المنهوبة ما لم تتحرّر من «الجغرافيا الاجتماعية» الصغيرة التي تقبع فيها، والتي تبلورت في إطارها كلّ النضالات السابقة، ولكن أيضاً وبالقدر نفسه كلّ العوائق والحواجز. طبيعة النظام السياسي في لبنان هي التي حالت بهذا المعنى دون حصول تغييرات جدية فيه ليس فقط منذ الطائف، بل منذ اندلاع الحرب الأهلية، والتي سبقتها فعلياً أكثر المحاولات جدّية في تاريخ البلاد للتغيير. والحال أنها كانت بمعايير ذاك الزمن أكثر ثورية بكثير من المحاولة الحالية، لجهة جهوزية العامل الذاتي قبل الموضوعي، حيث لم يكن النموذج الريعي يعاني من مشاكل كبيرة، ولكن في المقابل كانت ثمة قوى اجتماعية فعلية وذات عمق شعبي كبير وامتدادات إقليمية ودولية تريد الحدّ من ترسمله على حساب الفقراء ومحدودي الدخل. الهزيمة التي حصلت لاحقاً بوقوع الحرب كانت خارجية إلى حدٍّ كبير، ولكن المساهمة الداخلية فيها كانت كبيرة أيضاً، لجهة تغليب البعد الطائفي للمواجهة على الطبقي، حيث لم تتمكّن المعارضة المختلطة حينها(الاشتراكية- الشيوعية) من مجابهة هذا المسعى، ليس لأنها لم تستطع بل لأن بنيتها كانت هي العائق إلى جانب بنية النظام أمام حصول تغيير يتفادى الحرب، ويدفع بالأجندة الاقتصادية الاجتماعية المناهضة للنموذج إلى حدّها الأقصى. عدم تبنّي الاشتراكية حينها كأفق وحيد ممكن لتجاوز المسألة الطائفية جعل الحرب نفسها تعمل لمصلحة تكريس النموذج، بدليل انتهائها قبل حرب الإلغاء- والتي أضعفت اليمين بشكل كبير- لمصلحة القوى التي كانت تعارض تبنّي البرنامج المرحلي للحركة الوطنية. بعد الطائف تكرَّست شرعية هذه القوى، ولكن مع هامش بسيط للمعارضة، قبل مجيء الحريرية السياسية التي حدّدت النيوليبرالية كوجهة للمرحلة، بالاعتماد المطلق على العمق الاجتماعي للطائفية السياسية، ليس فقط كنظام بل أيضاً كسوسيولوجيا يصعب، إن لم يكن يستحيل تجاوزها.

خاتمة
المشهد الحالي لا يساعد على تجاوز هذا المعطى التاريخي للمسألة الاجتماعية في لبنان، حيث لا تزال السوسيولوجيا المقيمة في مفاصل النظام تعيق أيّ محاولة لتجاوزها، وحين تحصل هزّة عنيفة كما حدث في الأيام الأولى للاحتجاجات الحالية يعيد النظام تموضعه بعد استيعاب الضربة، ويتصرّف في ضوء التحوّلات الحالية على أساس أنه سلطة ومعارضة معاً. وجود الجناح الأول في السلطة بعد معاودة التماسك يساعد على تحجيم الاحتجاجات وتعديل مطالبها لكي تتناسب مع العمل الذي يقوم به الجناح الآخر في المعارضة بعد انضمامه بزخم كبير إليها، وتحوِّله إلى البديل الوحيد عن خروج مهمّشي الضواحي منها. حتى استقالة الحكومة لن تساعد على فكّ هذا الاستقطاب لأنّ المواجهة أصبحت برأسين، وسقوط أحدهما لا يعني بالضرورة سقوط الآخر، لا بل سيصبح النظام بعد الاستقالة أكثر قوّة لأنه تخلّص من الحلقة الأضعف التي يمثّلها سعد الحريري. بهذا المعنى, تكون الاحتجاجات قد أنجزت بالفعل نزع الغطاء عن الاوليغارشيا ولكن مع تركها تعمل لأنّ القطيعة الفعلية معها تتطلّب ليس فقط إسقاط الحكومة, بل تعطيل سوسيولوجيا النظام برّمتها, لكي يصبح بالإمكان التحرّك طبقياً خارج الاصطفافات التي يحدِّدها الاجتماع السياسي الطائفي. عندها فقط, ينفتح الأفق أمام أشكال جديدة من التجاوز، ليس للاجتماع السياسي الحالي فحسب، بل أيضاً للنموذج الريعي الذي تقوده الأوليغارشيا ضد مصلحة الأكثرية، ولحساب الأقلية نفسها التي منعت البلاد قبل الحرب من الذهاب نحو أفق «اشتراكي» فعلي.
* كاتب سوري