بداية غمرني الأخ الأستاذ حسين فودة في تحيته التي وجهها إليّ، ومن كنت معهم، من إخوة وأخوات قاموا بدور مقدّر في تاريخ الثورة أو المقاومة الفلسطينية المعاصرة. ولربما كان هذا سبباً من بين أسباب أخرتني في الرد على بعض ما جاء في مقالة الأخ فودة من ملحوظات نقدية في مقالته في 3 تشرين الأول 2019 بعنوان «رداً على منير شفيق: لم يكن خداعاً...». منذ مستهل النقد تناول موضوع الأرسطية على الضد مما ذهبتُ إليه في المقال. وقد جاء الرد على منهج الذين يرون إما ثوري بالمطلق، وإما مساوم بالمطلق. فالمنطق الأرسطي هو الذي لا يستطيع أن يجمع بين النقيضين في الظاهرة الواحدة. وهو ما غطاه المنطق الديالكتيكي، ومن قبله النظرية الإسلامية في تجاوز المنطق الأرسطي التبسيطي أو الأولي: ألف ليست لا ألف.
وأظن أن مقالة فودة تنتسب في تحليل الظواهر إلى المنطق الأرسطي. لأنه لا يرى في ياسر عرفات وقيادة «فتح» من البداية حتى النهاية إلا الخيانة، في مقابل كتاب «ستون عاماً من الخداع» الذي لا يرى في قيادة فتح إلا الخداع من البداية إلى النهاية.
مشكلة القراءتين هنا لظاهرة تاريخية وموضوعية: ظاهرة قيادة «فتح» بأنها ذات وجه واحد، الأمر الذي لا يسمح بتفسير إطلاقها للرصاصة الأولى أو إشعال ثورة مسلحة، أو خوض معارك عسكرية مهمة وحاسمة: الكرامة، والمواجهات على خطوط التماس في الأردن ولبنان، والمقاومة المسلحة والعمليات في الداخل الفلسطيني، وحربيْ 1978 و1982، في لبنان، والانتفاضتان 1987 و2000. فذلك الوجه الواحد يفسّر كل ما جاء في كتاب الأستاذ محمد دلبح من اتصالات ومساومات وتنازلات مبدئية إلى اتفاق أوسلو وتبعاته. لكن لا يفسر الوجه الآخر.
هذان الوجهان وجدا معاً، ولا يغير من التحليل إن وُجدا معاً من البداية، أو في مرحلة لاحقة. والقراءة في لحاظ هذين الوجهين لا علاقة لها بالتأييد أو الرفض، ولا علاقة لها بالحب والبغض، وليس لها علاقة بالموقف الثوري الصحيح، أو الذي يمكن أن نختاره نحن الذين ندين وجه المساومة من الألف إلى الياء. فأنت هنا تحلل موضوعياً ظاهرة أمامك حتى لو أدنتها جملة وتفصيلاً، ودخلت ضدها في حرب ضروس. وإذا حاولت أن تقول إنها ذات وجه واحد فقط، فعليك أن تنكر تاريخاً واقعياً بأكمله. وذلك حتى لو اعتبرت كل ما قامت به من قتال كان من أجل المساومة وليس مقصوداً قصد الثوريين له. لأن القتال والمعارك ضد العدو الصهيوني مسألة بالغة الجد والأهمية. أما دوافعك الأخرى، مثلاً الزعامة أو المساومة، فمن درجة ثانية. وإذا أخذت بمنهج التحليل الذي يرى تعايش الوجهين معاً في تلك الظاهرة، فهذا لا يعني أنك تؤيده، أو أنك تسوّغه، أو أنك لست منحازاً لبديل ثوري غيره. فالخلط خاطئ، عند قراءة ظاهرة، بين الموقف من الظاهرة والتحليل الصحيح لها، ولطبيعتها، وسماتها. وهو الذي، منع ويمنع من طرح سياسة صحيحة في مواجهتها. وهو الذي قاد كثيرين إلى ارتكاب أخطاء في الممارسة ذهبت بهم إلى نهايات مؤسفة أو حزينة أو تراجيدية.
تبقى ملحوظتان على مقالة الأخ العزيز فودة: الأولى استخدامه لتهمة أو صفة الخيانة. فهنا أيضاً يخلط بين خيانة المبادئ، أو الانحراف عن المبادئ، وبين الخيانة بمعنى العمالة للعدو والسير ضمن أوامره وتعليماته. فخيانة المبادئ والأهداف شيء وخيانة الوطن لحساب العدو شيء آخر. ولهذا، فإن إطلاقها بلا تحديد يجمع بين الخيانتين أدى، أو هو ما سمح، بنشوء ظاهرة الاغتيالات في الداخل الفلسطيني. وقد أوقع أيضاً عدداً من القيادات الثورية في حرج شديد حين راحوا يفاوضون القيادة المتهمة بالخيانة بمعنى خيانة الوطن. وهو ما تجنّبته وما زالت تتجنبه كل فصائل المقاومة المعارضة لاتفاق أوسلو، ولا سيما التي تدعو إلى المصالحة. فالخيانة بمعناها الذي يتجاوز خيانة المبادئ ويختلط بخيانة الوطن والتعامل مع العدو لا تواجَه إلا بالرصاص.
أما الملحوظة الثانية والأخيرة، فهي النموذج الثوري المطلوب أو البديل لقيادة فتح، أو الذي يتخذ من فيتنام، نموذجاً (في السابق وليس اليوم؟). فهو ما سعى له كثيرون في الساحة الفلسطينية، وهو بلا شك الأفضل. ولكن السؤال الذي يستحق أن يُجاب عنه، لماذا لم يتحقق بالرغم من المساعي التي بذلت من أجله؟ هذا السؤال ليس لحساب الأخ فودة وحده فحسب، بل أيضاً لشد ما أتعبني لإيجاد الجواب.
* كاتب ومفكر فلسطيني