عندما نتحدث عن تشكّل الدولة الحديثة، فإننا نعني بها تلك القائمة على المواطنة. دولة يعيش فيها جميع أبنائها بالمساواة في الحقوق والواجبات. هذه الدولة يكون أصل تأسيسها وعقدها الاجتماعي قائماً على الاحترام والثقة المتبادلة ما بين السلطة والشعب. بتعبير أدق يمكن القول بأنها دولة المؤسسات التي يكون هدفها الرئيس تلبية تطلعات الشعب، والذي سيؤدي ضعف مؤسساتها إلى المشاكل الخارجية والداخلية، هذه المشاكل التي تتحول تلقائياً إلى أزمة متشعّبة الاتجاهات والأطراف على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة.الدولة التي تتألف من ثلاثة أركان، الشعب والإقليم والسيادة، لا يمكن أن تستمر في حالة سقوط أحد أركانها أو تضعضعها لأنها تسبب أزمة عميقة، والشعب هو ركن أساس من بين هذه الأركان، لا يمكن أن لا يكون جزءاً من صناعة القرار فيها أو تحترم خياراته وتطلعاته والعيش الكريم، وإلا فإن ذلك سيؤدي إلى فقدان الثقة بين الشعب والسلطة، لذلك دائماً ما تقوم السلطة على إرضاء الشعب وتلبية مطالبه.
يمكن توصيف طبيعة الأزمة التي نمر بها اليوم، بالأزمة المركبة، أي معقدة ومتنوعة المستويات، فهي أزمة بنيوية ليست وليدة السنوات الراهنة، على الرغم من وجود ثغرات كبيرة أدت إلى تفاقمها، وهنا تكمن أهمية دراسة مظاهر الأزمة البنيوية في لبنان، قبل الحديث عن حل شامل وذلك من أجل تأسيس إيجاد بديل جدي لأزمتنا الحالية، مع الأخذ في الاعتبار أننا لم نشكل نظاماً سياسياً قادراً على مواجهة التحديات الكبرى، باستثناء تجارب ناجحة قدمتها المقاومة على صعيد مواجهة العدو وتحرير الوطن، إلا أننا حتى الآن لم نذهب نحو البحث عن النظام السياسي العقلاني، وتأسيس نموذج بديل لما هو قائم. وما يحصل في لبنان لا ينفك كأزمة، عن وجود أزمة بنيوية شاملة في بنية الأنظمة السياسية العربية على الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية كافة، وطريقة التعامل مع العالم الخارجي خاصة من خلال الارتهان في الكثير من الخيارات السياسية والاقتصادية للغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة الأميركية.
كل الأطراف تحسّست الخوف على مستقبل البلاد ومستقبل النظام ومستقبلها


لن أدخل في البحث عن مظاهر الأزمة بشكلها الكامل، وذلك لكي يتسنى لي الحديث عما نحن به اليوم من أزمة بين المواطن اللبناني والسلطة الحاكمة، حيث توجد أزمة ثقة كبيرة بين الشعب والدولة، أدت بنتيجتها إلى فقدان الشعب للأمل بالإصلاح، فالدولة على مدار ٣٠ عاماً أوجدت من خلال سياساتها الخاطئة والفساد المستشري والجشع، هذا الشرخ مع شعبها، وراهنت دائمًا على سكوتها، طبعاً يتحمل الشعب جزءاً من الأزمة من خلال السكوت على الممارسات لا بل المشاركة في كثير منها، حتى أتت «الانتفاضة» العارمة بوجه النظام، الذي فهم أنه لا عودة إلى الوراء وأن الحل في الذهاب إلى إصلاح شامل وسريع، وهذا ما تحسسه رئيس الحكومة سعد الحريري الذي أصبح أمام خيارات متعددة أحلاها مر، فحاول الخروج بأفضل الحلول التي يراها في الورقة الإصلاحية التي قدمها، مراهناً على إنصات المتظاهرين له.
يمكنني القول بأنه في ظل ضرورة المحافظة على الكيان اللبناني وعدم الذهاب نحو المجهول، ومنع دخول البلاد في الفراغ، أن تشكل ورقة الإصلاحات خريطة طريق لإعادة هيكلة سياسات الدولة، وتحسين الوضع الاقتصادي، ومكافحة الفساد المستشري، في حال كانت هناك إرادة وجدية للعمل، وتوافق بين كل الأطراف، حيث يمكن أن تتحول هذه الورقة على الرغم من مكامن الضعف في بعض بنودها، والهفوات الموجودة في بنود أخرى، إلى آلية للبدء في الدخول بالإصلاحات مع إمكانية إدخال إضافات جديدة عليها، وبالتالي أن تؤدي إلى ثورة في إدارة الدولة وإعادة ترتيب الأوضاع الداخلية في المؤسسات الحكومية والذهاب نحو حكومة جديدة خالية بحد كبير من الفساد، علماً أنها لا تلبي كل طموحات الشعب.
لكن المظهر الإيجابي الأساس في الحراك المشتعل، هو أن الرسالة الشعبية وصلت بقوة، وأن كل الأطراف تحسست الخوف على مستقبل البلاد ومستقبل النظام ومستقبلها، ولذلك يجب أن يكون عند الجميع تحمّل مسؤولية الخطأ والانطلاق منه نحو تحمّل مسؤولية التغيير الفعلي، لكي نخرج من نموذج الفشل إلى نموذج جديد. صحيح أن المشكلة كانت في عدم الإرادة لدى السلطة الحاكمة منذ سنوات طويلة، حيث لو أُقرت الورقة وتم العمل بها وتحسس الأطراف الخطورة على لبنان لما وصلنا إلى هنا، إلا أن الفرصة لم تفت، نحن الآن بحاجة إلى العمل والتضحية لكي نتمكن من الخروج من هذه الأزمة، والنقطة الأهم في كل ذلك أنه لم يعد ممكناً للسلطة أن تتحكم بكرامة ومقدرات الشعب اللبناني وأن تبني ثروات على حساب اللبنانيين، ولم يعد بإمكان المصارف أن تتحكم باللبنانيين بعد أن تحسست الخطر على استقرارها.
وهنا يمكنني أن أشير إلى ما أراه من حل مناسب لما يحصل، يكون من خلال إدارة الأزمات التي هي الاستعداد للتعامل مع المشكلات التي تعصف بالدولة وتطرأ عليها، ولا بد من قراءة متأنّية للأزمة بشكل يُفضي بنا إلى الحلول الجدية والواقعية المتناسبة مع المرحلة. فيمكن أن يكون الحل الأنسب الذي يخفف من غضب الشارع، كما نراه، والذي لم تشر إليه الحكومة في هفوة كبيرة منها، من خلال الذهاب نحو تشكيل مجموعة إدارة أزمة مؤلفة من عدة أطراف كالتالي:
1-نواب ووزراء من الكتل السياسية كافة يكون عملهم المسارعة إلى التشريع والتنفيذ.
2- مراجع دستورية للفصل في التشريع والتعديلات مدعمين بمحامين وحقوقيين منتخبين من الحراك.
3- أساتذة جامعيين من كل الاختصاصات المتعلقة بالأزمة السياسية والاقتصادية والإدارية كممثلين عن الشعب.
4- لجنة من طلاب الجامعات من اختصاصات عدة تمثل فئة الشباب لمراقبة عمل اللجنة.
أما عمل هذه الخلية للأزمة، فيكون من خلال البدء بالإصلاحات عبر التشريعات والتنفيذ للمقررات خلال فترة محددة، وهكذا في حال عدم القدرة على الوصول إلى تغيير حقيقي يكون ممثلو الحراك قادرين على التعبير عما حصل وبالتالي لن تكون هناك فرصة أمام الحكومة والنظام السياسي برمته إلا التغيير والإصلاح، فالتغيير لا يكون من خلال طرح الورقة الإصلاحية والوعود بل العبرة بالتنفيذ، فلا يمكن اليوم بناء سياسات عامة بعيداً عن تطلعات الشعب، وهذا ما يسمح بعدم الدخول في فراغ الحكم بل بالضغط نحو إصلاح النظام.
من خلال ما تقدم يمكن أن نصل إلى إدارة صحيحة في السياسات العامة، وعندها يمكن أن نبدأ بالحديث عن دولة.

*أكاديمي وباحث في العلاقات الدولية