مع بدء الاحتجاجات في لبنان قبل أيام، أصبح عمري اللبناني الفعلي عامين فقط، ولا يزال أمامي ثمانية أعوام بالضبط كي أصبح لبنانية منذ أكثر من عشر سنوات. «هاجرت» إلى هُنا منذ ست سنوات، بعدما عشت اثنتين وعشرين سنة ونصف سنة في وطني المحتلّ فلسطين! لست من هواة التعداد (على حقيقة أهمية التعداد في هذه المرحلة بالذات، ولا سيما في ما يتعلق بحجم الأموال المنهوبة) ولكن وجب التذكير بأن الجروح التي عايشتها هُنا عمرها لا يتجاوز فعلياً ست سنوات.لم أكن أدرك حقيقة اهتراء بعض التصورات التي كوّنتها عن لبنان، بالأحرى ما كنت أستقيه مما تعمّدت بعض الشاشات اللبنانية على مدى سنوات في تنميطه عربياً: الكثير من البوتوكس، الكثير من السهر، الكثير من النكات، الكثير من التشويق، الكثير من سويسرا الشرق... الكثير من كل شيء. وحدها صورة بيروت غير قابلة للكسر: تلك الصورة التي ستظل فيها «تحترق وهي لا ترفع أعلامها البيضاء» كما أراد والدايَ لي بعدما حمّلاني اسمها في وصيّة!
تهشّمت الصور تدريجياً مع مرور الوقت، فعلياً بدأ التصدع بمجرد أن عبرت لأول مرّة في نفق المطار وشممتُ رائحة المسلخ التي ذكّرتني برائحة خزّانات الأمونيا على طريق خليج حيفا، ثم «الأوتوستراد» الذي يربط بيروت بالجنوب وعلى جانبيه الكثير من المحالّ التجارية والمطاعم. للحقّ كان متميزاً في كونه ربما الأوتوستراد الوحيد على مستوى العالم الذي يملك هذا العدد من المسالك. ثم أصبحت بحاجة إلى علاج نفسي بعدما دخلت سرايا صيدا لأبدأ بمعاملات الإقامة والزواج وغيرها؛ إذ رأيت للمرة الأولى في حياتي كيف يُذلّ الناس من خلال سوء تطبيق «البيروقراطية». ذلك الدفتر الضخم الحجم الذي يسمّونه سجلّاً كان صادماً فعلاً. إلى اليوم، أنا في حيرة من أمري. كيف لم تتقطع بعد الأوتار في أيدي الموظفين؟ ومن أين لهم الطاقة لكتابة كل تلك الأوراق يومياً؟ وأيضاً عن مدى أوجاع العظام التي لحقت بهم بسبب حملهم السجل الضخم يومياً من تلك الرفوف العالية إلى المكاتب، ومن ثم إعادته إلى مكانه؟ دعوني لا أحدثكم عن معاملة تصحيح خطأ في الأوراق الثبوتية، فهذه تنافس في بطئها طول سبات الدببة، كما سأعفيكم من رواية تفاصيل استخراج بطاقة الهوية، التي اتّسمت بتكرار جملة واحدة على مدى أيام: عودي في اليوم التالي.
الى أن وجدتُ طريقاً مختصراً يدعى هُنا «الواسطة»، ولا أخجل ــــ رغم حقارة هذا المسلك ــــ من كوني اخترت المرور به بسبب مرارة البيروقراطية. الدولة بمؤسساتها هي من عليها أن تخجل من إيقاع الإذلال اليومي بنا جميعاً.
ثم جاء دور الكهرباء، استجدّت على قاموسي مصطلحات مثل «موتير» (مولّد طاقة كهربائية) و«دجونتير». الأول، عدا عن تلويثه للبيئة، لا أعلم حجم التلوث السمعي الذي ألحقه بآذاننا. أمّا الثاني فأنا أضحك اليوم من نفسي، بعدما خشيت رفعه لمدة ستة أشهر وفضّلتُ العتمة على لمسه كلما انقطعت كهرباء الدولة.
تلك الصورة التي ستظل فيها «تحترق وهي لا ترفع أعلامها البيضاء»


ثم ذات يوم، أنجبتُ طفلاً لبنانياً. وثيقة ولادته وحدها أعادها موظفو الدوائر الحكومية ثلاث مرات بسبب «أخطاء»؛ أطرفها أن اسم والدته بيروت. «هل اختلط على مختار عين المريسة تسجيل مكان ولادة الصبي في خانة اسم الأم؟» تساءل الموظفون يومها. من المشاهد التي شكّلت لي صدمة أيضاً مشهد الرجل الممدد على سرير «الطوارئ» في أحد المستشفيات، بينما زوجته تستنجد بموظف الاستقبال لقبول إدخاله للعلاج وهي لا تملك المال.
عاجلاً أو آجلاً، أدركتُ أن وزارة الأشغال العامة وحدها تدين لجميع اللبنانيين بثلاث ساعات يومياً على الأقل، نقضيها في زحمة السير بين بيوتنا وأشغالنا بسبب هشاشة البنية التحتية للطرق، والحفر المتوزعة على امتداد زفت الوطن والفوضى في التنظيم المروري.
ماذا بعد؟ الإذلال الذي يلحق باللبنانيين هنا يحتاج إلى دفاتر بحجم ملايين السجلات الضخمة لكي يُدوّن ويوثق. يوم انتشرت القمامة في الطرقات، وتكدست على هيئة تلال، أرخيت جسدي على باب أحد مكاتب الجريدة وبكيت حد الانهيار، وتساءلتُ كيف لم يتحرك اللبنانيون بعد؟ وعندما تحرّكوا ونزلنا إلى الشارع، أُشبع المعتصمون ضرباً بالهراوات والغاز المسّيل للدموع، فقط لأنهم يريدون العبور في شوارع نظيفة!
وكما تلك القمامة، تكدست جرائم السياسيين وطبقة الـ 1 بالمئة، والثلاثون مدخّناً في نادي السيجار على صدور اللبنانيين. صحيح أن ما يحصل من خراب وتخريب متعمّد لعيشة اللبنانيين هو حرب تدور رحاها منذ مئة عام، استعرت ربما منذ ثلاثين عاماً، لكنها أتت أخيراً على من يقال إنهم اكثر الشعوب التي تليق بها بالحياة، بينما هم فعلياً يحيون في قلب مقبرة. وبسبب ما تحمّله اللبنانيون من بين كل شعوب الأرض على اختلاف الأوجاع التي دبّت بالمجرّة، وبسبب الحروب التي عايشوها منذ عقود ودفعوا لأجلها دماءهم وأرواحهم وأغلى ما يملكون لكي يعيشوا أعزّاء مكرّمين، فإن صبرهم قد يستحق أن يوازي صبر ذلك النبي المعروف باسم أيوب.
لكنّ لصبرهم حدوداً. وهذا الصبر انتهى مع إعلانهم البقاء في الشارع ضد السلطة التي تعتاش من تفقيرهم وتجويعهم وعلى حساب صحتهم، وتعليمهم، وجميع مرافق حياتهم. ولذلك كله عليهم أن يبقوا في الساحة يصرخون بوجه الأصنام السياسية التي تصمّ آذانها منذ عقود وترفض سماعهم، وأمام إله المعبد الكبير: المصرف!
ليتذكّر من هم في الشارع حقيقة واحدة: إن أولئك الإسرائيليين الأشرار الذين احتلّوا بلدكم يوماً قبل أن يجرجروا أذيال خيبتهم وتهزموهم بالنيابة عن كل المظلومين والمقهورين وأوّلهم في وطني فلسطين، يحيون هناك في عيش رغيد فوق ركام أجسادنا وهم سيحيون كذلك، إلى أن تهزموا هذا الجوع!
*صحافية في «الأخبار»