جُنَّ جنون الإعلام الأميركي ومراكز الأبحاث وتجّار حقوق الإنسان الغربيّين هذا الأسبوع. ترامب قرّرَ سحب القوّات الأميركيّة من سوريا لتمهيد الطريق لتوغّل تركي في سوريا (كلمة «توغّل» تذكّر باستعمالها في سياق التدخّل العسكري السوري لصالح الانعزاليّين في ١٩٧٦، عندما أراد «المجلس الإسلامي» أن يصف التدخّل بكلمة ألطف من اجتياح فوصفه بـ«التوغّل»، وكان المصطلح لشفيق الوزّان يومها). جابهَ ترامب ثورةً من داخل حزبه ومن خارجه، من الإعلام من مراكز الأبحاث، من خبراء ديموقراطيّين وجمهوريّين في السياسة الخارجيّة. ولو أردتَ أن تختبر نظريّة الديموقراطيّة وتعدّد الآراء «وسوق الأفكار المتعارضة» يمكن أن تتابع ردود الفعل الهائجة على قرار ترامب. ليس هناك من نقاش، كما أنه ليس هناك نقاش حول صوابيّة الرأسماليّة. والآباء المؤسّسون ميّزوا في هندستهم للنظام السياسي بين «الجمهوريّة» و«الديموقراطيّة». وفي «الجمهوريّة» هناك من ركائز للنظام لا يمكن للأكثريّة ردّها أو عكسها كما في الديموقراطيّة (ولهذا فإن عمليّة تعديل الدستور هنا من أصعب العمليّات وهي تحتاج إلى أكثريّة الثلثيْن في مجلسيْ النوّاب والشيوخ، بالإضافة إلى أكثريّة الثلثيْن في المجالس الاشتراعيّة في الولايات، ولم يمرّ من التعديلات منذ تأسيس الجمهوريّة أكثر من ٢٧ تعديلاً فيما يعدّل لبنان دستوره مع انتخاب كل رئيس تقريباً).
الثورة على قرار ترامب لم تكن جديدة. يخوض الرجل حرباً ضروساً ضد أجهزة الأمن القومي في البلاد، خصوصاً أجهزة المخابرات (وعددها ١٧ جهازاً) والقيادات العسكريّة. والتسريبات اليوميّة ضد ترامب في الصحف الأميركيّة مصدرها في الغالب المخابرات الأميركيّة، خصوصاً «وكالة المخابرات المركزيّة» التي باتت صحيفة «واشنطن بوست» منبراً مفتوحاً لها، كي تُحرج الرئيس وتسهم في تغيير صورته أمام الرأي العام (وقد ثبتَ أن التسريب الأخير عن مكالمة الرئيس الأميركي مع الرئيس الأوكراني كان مصدرها عميلاً في المخابرات الأميركيّة، مفروزاً إلى البيت الأبيض). ولأنّ ترامب لا خبرة له في الحكم، فإنه استعدى مبكّراً أجهزة المخابرات عندما سخر منها ومن قدراتها ومعلوماتها، كما أنه قرّرَ مخالفة التقليد السائد في تلقّي تقرير شفهي يومي منها في البيت الأبيض.
وغرّدَ ترامب عن موضوع التدخّل التركي وكتبَ أن هذه معركة قديمة بين الأتراك والكرد وأن لا شأن لأميركا بها. وأضافَ كلاماً عن كلفة الحروب الماديّة، وللمرّة الأولى منذ شنّ الحروب الأميركيّة المتواصلة بعد ١١ أيلول، ذكرَ ترامب الضحايا بالملايين «في الطرف الآخر» — في إشارة إلى الضحايا المدنيّين في العراق وأفغانستان وسوريا. هذا الذكر بديهيّ حول حرب مدمّرة لكن لم يسبق لرئيس أميركي (من أيٍّ من الحزبيْن) أن ذكرَ آسفاً عدد ضحايا العرب والمسلمين في الحروب الأميركيّة (والحكومة الأميركيّة توقّفت في هذه الألفيّة عن إعطاء تقرير رسمي عن تقديراتها للخسائر البشريّة للطرف الآخر في حروبها، وإن كانت لها تقديرات تبقيها سريّة ولا تعلنها للملأ ربما لأن الحروب الأميركيّة زادت وحشيّة وهي لا تريد من الرأي العام العالمي إدراك حجم الكلفة البشريّة لحروب التحرير ومكافحة الإرهاب الأميركيّة).
مشروع نشر القوّات الأميركيّة في الشرق الأوسط وأفريقيا لم يعد مرتبطاً بإدارة معيّنة بل أصبح من صلب عمل الإمبراطوريّة الأميركيّة


والصحافة الغربيّة تحسّنت كثيراً في السنوات الماضية — لا أعني من ناحية المهنيّة أو التغطية الحرفيّة للأحداث. لا، على العكس. فقد أصبحت الصحافة الغربيّة البارزة دعائيّة ومُؤجّجة وإعلانيّة بصورة صفيقة، واعتراضات ترامب ضد الصحافة تُقابل عند الليبراليّين وبعض اليساريّين —هنا وهناك — بالاستهجان، لكن الصحافة باتت أبواقاً دعائيّة لأصحاب المليارات ومصالح اقتصاديّة عملاقة. «واشنطن بوست» باتت مجرّد بوق ناطق بمصالح الثري العالمي، جيف بيزوس، كما أن جريدة «المستقبل» كانت بوقاً لرفيق الحريري، ولابنه من بعده. الصحافة الغربيّة لم تعد تحاول تصنّع الحياديّة أو الموضوعيّة. كل هذه الحجج أزيلَت منذ بداية الحرب في سوريا، حيث وجدت الصحافة الغربيّة الفرصة مؤاتية لخدمة مصالح إسرائيل ومصالح نشر النفوذ الأميركي حول العالم. طمعت الصحافة المعبرة عن مصالح الإمبراطوريّة بخلق شرق أوسط جديد يخضع بالكامل للسيطرة الأميركيّة والإسرائيليّة. وهذه الصحافة نفسها (المحافظة منها والليبراليّة) أيّدت بقوّة الحرب على العراق وروّجت لأكاذيب أسلحة الدمار الشامل لإقناع الرأي العام، الذي سرعان ما ينقاد في مواضيع السياسة الخارجيّة بسبب جهله المطبق فيها.
وفي هذا الفصل من الحرب في سوريا، تقوم الصحافة بالتعبير عن مصالح أجهزة المخابرات. قد يقول قائل: وما اعتماد الإمبراطوريّة على ٢٠٠٠ جندي أميركي في سوريا؟ يعتمد الرأي العام العالمي إعلانات الحكومة الأميركيّة على أنها ذات مصداقيّة عالية. والحكومة الأميركيّة، كما علمنا من تسريبات ماننغ وسنودن، ليست أقلّ كذباً من أسوأ الحكومات، لكنها أبرع الحكومات في الكذب. هي تسوّق لنفسها على أنها من صنف آخر من الحكومات، والإطراء الأميركي الذاتي على نظام الحكم فعلَ فعله حول العالم، حتى في أوساط اليسار. القانون الأميركي يشرّع الكذب من الحكومة، إلى السوق الداخلي والخارجي على حدّ سواء. لكن حدود الكذب للسوق العالمي أرحب بكثير من معايير السوق الداخلي. وعليه، فإن محطة «الحرّة» (وهي محطة الحكومة الرسميّة لنشر البروباغندا الأميركيّة عند العرب) محظورة في البث الداخلي، لأن معايير الكذب والتضليل فيها متحرّرة لدرجة تتضارب مع المعايير الأضيق في السوق الداخلي. لكن القانون هنا يسمح لأعضاء السلطة التنفيذيّة بالكذب والتضليل لكن في سياق القيام بالوظيفة (أي لغايات سياسيّة والإساءة إلى العدو، إلخ). إن رقم ٢٠٠٠ جندي في سوريا هو الرقم الرسمي، لكنه لا يذكر المئات الذين يصاحبون عمل الجنود من أجهزة المخابرات والقوّات الخاصّة المنخرطة في أعمال سريّة مثلاً (مثل تقصّد أعداء إسرائيل في سوريا، والقيام باغتيالات وأعمال حربيّة سريّة).
إن مشروع نشر القوّات الأميركيّة في الشرق الأوسط وأفريقيا لم يعد مشروع مرتبطاً بإدارة معيّنة بل أصبح من صلب عمل الإمبراطوريّة الأميركيّة. وارتباط نشر القوّات بات ملازماً للدعوة إلى استمرار السيطرة العالميّة الأميركيّة. والحماس الفائق الذي ظهر في كتابات الصحافيّين الغربيّين هو تعبير عن قبول وشيوع الفكرة عبر تيّارات ومشارب سياسيّة متنوّعة. أي أن المراسلين الغربيّين في بلادنا من دعاة السيطرة والهيمنة الأميركيّة الدائمة على الشرق الأوسط. هل ستكون أميركا مضيافة لو أن المراسلين العرب في أميركا جاهروا بالدعوة إلى فرض سيطرة وهيمنة عربيّة على أميركا؟ وتتضارب في الإدارة الأميركيّة نزعتان: نزعةٌ يمثّلها ترامب وحده وهي دعوة انكفائيّة (دعوة ترامب إلى الانكفاء هي دعوة حقيقيّة وليست مثل صفة الانكفاء التي ألصقها الإعلام الخليجي بأوباما فقط، لأنه لم يرد التدخّل في سوريا حفاظاً على مصالح الإمبراطوريّة وديمومتها) مقابل دعوة نشر السيطرة الإمبراطوريّة. وكان ترامب في خضم النقاش الدائر حول سوريا صريحاً جداً، عندما قال إنه في فريق يتكوّن من شخص واحد في دعوته. هو، تمثيلاً للسياق الكلاسيكي للسياسة الانعزاليّة للحزب الجمهوري، يريد أن يوفّر في الإنفاق الأميركي (المادي والبشري)، وقد فهم النظام السعودي، ولذلك أعلن ترامب متباهياً قبل أسبوع أن الحكومة السعوديّة ستتكفّل بنفقات النشر العسكري الأميركي كافة في الشرق الأوسط (أي إن النظام القطري والسعودي يتنافسان على كسب ودّ ترامب عبر التكفّل بالإنفاق على العدوان والاحتلال الأميركي). وهذه الرؤية الانكفائيّة تناسب ترامب ذا الأولويّة الربحيّة الاقتصاديّة في السياسة الخارجيّة. لكن ترامب يواجه فريقاً متراصاً، في داخل إدارته وفي خارجها، في داخل حزبه وفي الحزب المعارض. وهذا الفريق يمثّل «الدولة العميقة» التي كتب عنها أخيراً جيمس ستيوارت في كتاب جديد بنفس العنوان. ولو نجح الحزب الديموقراطي في إدانة ترامب (من دون عزله لأن ذلك يتطلّب موافقة ثلثيْ أعضاء مجلس الشيوخ، أي بموافقة نحو عشرين من الأعضاء الجمهوريّين وهذا من المستحيلات إلا إذا صدر تسريب جديد يهدّد صورة ترامب في داخل حزبه) فإن الفضل في ذلك — أو الملامة عند مناصري ترامب — يعود لأجهزة الاستخبارات التي تُسرّب ضد ترامب بصورة يوميّة (ممنوع أن تسترق أجهزة الاستخبارات، مثل «وكالة الأمن القومي» السمع على مكالمات ترامب الهاتفيّة لكنها تستطيع أن تسجّل مكالمات زعماء الدول الأجنبيّة الذين يتحدّثون إلى ترامب).
لماذا ردّ الفعل المهتاج هذا في واشنطن ضد موقف ترامب من سوريا؟ يقول هؤلاء إن حسّهم الإنساني هو الذي يدفعهم إلى التعاطف مع الكرد في محنتهم في مواجهة التوغّل التركي. والكرد في الغرب يحظون بتعاطف (مزيّف طبعاً) لا تحظى به أقليّات أخرى. والفضل في ذلك يعود للقيادة البرزانيّة التي استثمرت العلاقات الوديّة مع العدوّ الإسرائيلي منذ السبعينيّات (على الأقل). واللوبي الإسرائيلي يهتمّ بالبروز في مظهر المُدافع عن الكرد لإحراج الأنظمة العربيّة وإيران (بعد الثورة فقط). أما تركيا فقد اضطهدت الكرد أكثر من أيّ دولة أخرى، وقتلت منهم أكثر من أيّ دولة أخرى، وكانت في سنوات تحالفها مع إسرائيل لا تلقى النقد عن خروقاتها. على العكس، تمتّع حكم كنعان أفرين العسكري بأفضل العلاقات مع إدارة ريغان، وكان الصهانية من أبرز المدافعين. لكن الاهتمام الغربي المفاجئ بوضع الكرد في مواجهة الأتراك يرجع لسبب غير مؤامرات بسيط: لم يعد اللوبي الإسرائيلي مدافعاً عن المصالح التركيّة، وبات أردوغان من دون معين في حملات العلاقات العامّة في الغرب. الكرد ضحايا حتماً، لكنهم ضحايا ليس فقط للحكومات التي اضطهدتهم وغمطت حقوقهم، مثل الحكومات العراقيّة والسوريّة والإيرانيّة والتركيّة، بل هم أيضاً ضحايا قياداتهم الرجعيّة التي لم تجد غضاضة في التآمر ضد الأكثريّات التي تعيش مع الأكراد.
من الرائج في خطاب الليبراليّين العرب (العاملين في منظمّات الـ«إن.جي.أو» أو في المواقع العربيّة السياسيّة المنتشرة بالتمويل الغربي في فضاء الإنترنت) مناصرة الكرد. ومناصرة الكرد ليس لها من ثمن سياسي أو مادّي باهظ، بعكس مناصرة الشعب الفلسطيني التي تؤدّي مناصرته في الغرب إلى خسارة الوظائف وفي السعوديّة إلى السجن الفوري. تستطيعين أن تكوني زوجةً للرئيس الفرنسي وأن تكوني مناصرةً مُجاهرةً للشعب الكردي (كما كانت زوجة فرانسوا ميتران). وتستطيع أن تكون ديبلوماسيّاً أميركيّاً وأن تكون معروفاً بحملك للواء استقلال الأكراد (كما كان الديبلوماسي السابق، بيتر غالبريث، الذي طالب بتقسيم العراق ومنح استقلال ناجز للأكراد فيه — لكن غالبريث كان شريكاً في حقل نفطي في كردستان، فاختلط النفط بالإنسانيّة والحنان معاً) وألا تدفع ثمناً سياسياً لمواقفك. على العكس، إن مناصرة الأكراد أو الأزيديّين هي بمثابة مناصرة دولة إسرائيل التي تقرّر للغرب ما الذي يجوز مناصرته في منطقتنا والذي لا يجوز (لا يجب أن يؤدّي الاستغلال الصهيوني لمعاناة حقيقيّة لـ«أقليّات» إلى معاداة حقوقهم). وبهذا يكون التعاطف الليبرالي العربي مع الكرد فرعاً من المناصرة الغربيّة الصهيونيّة — خصوصاً أن نفس هؤلاء من أعداء حقوق الشعب الفلسطيني في الاستقلال التام وفي حق الدفاع عن النفس، مثل موقف الأصل الغربي.

نفس الذين روّجوا وسوّقوا لـ«الجيش السوري الحرّ» يكيلون له الاتهامات بارتكاب جرائم حرب


لكن التعاطف العربي مع الكرد يزداد صعوبة نتيجة التحالفات التي تعقدها القيادات الكرديّة العراقيّة أساساً، والكرديّة في سوريا. إن منطق التحالف مع «الشيطان» (والحديث عن الشيطان حديث لا يمكن محاججته لأنك تتحدّث عن كائن يؤمن به المؤمنون ويعجز غير المؤمنين عن المحاججة به، مع أن منطق المؤمنين في التحالف مع الشيطان يناقض إيمانهم) يُستعمل عندما تتحالف «أقليّة» سياسيّة أو دينيّة مع أعداء «الأكثريّة» (منطق الأكثريّات والأقليّات منطق قهري قمعي مُهيمِن). وحجّة الكتائب في التحالف مع إسرائيل كانت عينها حجّة الحاجة إلى الشيطان، لكن إلههم تخلّى عنهم. لكن تخلّي الإله عنهم ألا يزعج أو يخلخل إيمان هؤلاء؟ القيادة البرزانيّة تحالفت مع إسرائيل وقدّمت خدمات موساديّة ضد العرب. وهذا النوع من التحالف يصم ليس القيادة المسؤولة عنه بل «الأقلية» الطائفيّة أو العرقيّة على ما في هذا التعميم من ظلم.
لكن المجاهرة بالمطالبة بالاستقلال الكردي في أي من الدول العربيّة يلقى قبولاً في الغرب ومعارضة عند العرب (والميليشيات الكرديّة في العراق وفي سوريا لا تعير اهتماماً للحساسيات العربيّة فهي تقول بالتهجير -ضد العرب- عندما يتسنّى لها ذلك). والغرب متشدّد نحو أي نزعة انفصاليّة في كياناته لكنه سخيّ جداً في توزيع أقاليم ومحافظات في الكيانات العربيّة، إذا أدّى ذلك إلى تفتيت وتجزئة العالم العربي مهما كان الثمن (إن خلق كيان جنوب السودان كان كارثة إنسانيّة هائلة لكن المشروع كان إسرائيليّاً-أميركيّاً مشتركاً). الحكومة المركزيّة في واشنطن شنّت حملة وحشيّة ضد الانفصال الجنوبي في الحرب الأهليّة الأميركيّة، والجنرال شيرمان قاد حملات حرق وإبادة في الجنوب (في جورجيا وغيرها) من دون أي مسوّغ عسكري، وكان مقصده ثني الأجيال المقبلة عن مجرّد التفكير في معاودة حلم الانفصال. وأميركا هي المثال الذي يلهج بحمده دعاة الانفصال في عالمنا العربي. لا، القيادة البرزانيّة تريد الانفصال وتريد أيضاً التحالف مع أعداء العرب. أن وجود تحالفات حاليّة بين عرب وبين إسرائيل لا يعطي لا «الأقليّات» ولا «الأكثريّات» حق التحالف مع العدوّ (ومنطق الأقليّات والأكثريّات هو منطق القيادات الحاليّة للأقليّات والأكثريّات في غياب هويّات جامعة). إن حزب البعث (في فرعيْه) ظلم الأكراد، كما ظلمهم الأتراك والفرس عبر التاريخ.
وتتحمّل قيادات «وحدات حماية الشعب» المسؤوليّة في تعبيرها عن أساها من خذلان أميركي لثقتها المطلقة، وللمرة العاشرة بالوعود الأميركيّة للأكراد. وتنظيم «وحدات حماية الشعب» وضع آماله بالمحتل الأميركي وهو الآن يدفع ثمن هذا الخيار. الشعب الكردي وقياداته ليسوا مُسيّرين. و«قوات سوريا الديموقراطيّة» ليست إلا «وحدات حماية الشعب» باسم آخر يوحي بالتعدديّة العرقيّة الكاذبة. الأمر افتضح في مؤتمر في مؤسّسة أسبن في ولاية كولورادو في عام ٢٠١٧ عندما اعترف الجنرال الأميركي، ريموند توماس، بأنه هو الذي أطلقَ اعتباطاً اسم «قوات سوريا الديموقراطيّة» على «وحدات حماية الشعب» للتخفيف من الشكوك التركيّة حول ارتباط «الوحدات» بحزب العمّال الكردستاني المكروه من الحكومة التركيّة. ضحك الجنرال توماس وهو يروي تلك الخدعة، التي انطلت (بأمر عمليّات أميركي) في الإعلام العربي الذي لا يزال يتحدّث عن «قسد» على أنها تنظيم شامل وتعدّدي يجمع (مثل حلقات الدبكة) بين عرب وأكراد ومن ابتاعته قوات الاحتلال الأميركي. إن المحاولات الأميركيّة والخليجيّة لاستغلال معاناة الشعب السوري لم تتوقّف يوماً، وإن انتقلت من طوْر إلى طور، كما أن روسيا تحقّق من خلال تدخّلها في سوريا ما يروق لها من مصالح لا علاقة لها بمصلحة الشعب السوري. وهي تفعل ذلك، مع مراعاة فائقة لمصالح دولة العدوّ التي تتمتّع بتأييد فريد في عدونها، من الطرف السوري والأميركي.
القيادة الكرديّة (اليساريّة، على ما يُقال لنا) تنتحب على انسحاب المحتل الأميركي وتهدّد بالتواصل مع النظام السوري. هنا مرّة أخرى، تظهر قيادة سياسيّة كرديّة بصورة انتهازيّة تتعامل فيها مع أطراف متنازعة من دون أي التزام بمبادئ معيّنة. وباتت القيادة الكرديّة في سوريا تربط مصالحها السياسيّة ببقاء الاحتلال الأميركي، كما أن القيادة البرزانيّة في العراق كانت تفضّل بقاء الاحتلال الأميركي إلى ما لا نهاية. لكن ما طبيعة المشروعيّة السياسيّة لهذه الأطراف كلّها في الصراع السوري (من النظام إلى المعارضات، العربيّة والكرديّة) إذا كان وجودها يرتبط بتدخلات خارجيّة من أطراف ليست بالضرورة متعاطفة مع الشعب العربي؟
إن مشروع استمرار الاحتلال الأميركي لبلادنا يستمرّ. ومشروع الترويج له بأفواه وأياد محليّة يتعاظم. الصحافة الأميركيّة تزخر هذه الأيام بمقالات لأفغان يطالبون فيها الاحتلال الأميركي بالاستمرار. والمطالبة تجري (كما الاستعمار في القرن التاسع عشر والعشرين) بأبهى الشعارات عن التحرير والمساواة والديمقراطيّة طبعاً. وارتباط الصحافة الأميركيّة البارزة بأجندة أجهزة الاستخبارات يتسرّب (عن قصد وعن جهل وعن تقليد ببغائي وليس بالمجّان دائماً) في الصحافة العربيّة وعلى مواقع التواصل. هؤلاء يشكّلون لوبي الحرب الدائمة ضد ترامب. ولأن الرجل بذيء ومبتذل وسوقي وجاهل ونزق ونرجسي، فإن معارضة كلّ ما يفعله يكون سهلاً، حتى عندما تكون مواقفه هي الصائبة، كما هي في الانسحاب من العراق.
ويظهر التناقض في المعارضة لقرار ترامب. نفس الذين روّجوا وسوّقوا لـ«الجيش السوري الحرّ» يكيلون له الاتهامات بارتكاب جرائم حرب (في زي ما أسمته تريكا بـ«الجيش الوطني»). المراسلون والمراسلات الغربيّات في بيروت كانوا أوّل مَن تبنّى «الجيش السوري الحر» وكتب المقالات الطوال عن ديموقراطيّته وإنسانيّته ونسويّته. تغيّر الأمر بعد التدخّل التركي الأخير (والتدخّل التركي في سوريا كان يحظى بتأييد وتعاطف في الغرب من قبل) وأصبحت «واشنطن بوست» تقول عنه أنه «لا يُعتمد عليه» و«مجنون». هذا «الجيش» كان يُعوَّل عليه لتحرير سوريا، وكان الساسة في أميركا، أبرزهم جون مكين (الذي قال عنه وائل غنيم مؤخراً إنه يكنّ له كل الاحترام)، وهو من عتاة كارهي العرب والمسلمين من ليكوديي واشنطن، يتقاطرون إلى شمال سوريا للقاء قادة «الجيش السوري الحرّ». نفس هؤلاء الساسة باتوا يصفون عناصره بمجرمي الحرب.
يصعب على دعاة أميركا في بلادنا الاعتراف بذلك: أميركا تلقّت هزيمة شنيعة في العراق وفي أفغانستان. ويصعب على الهيئات السياسيّة والإعلاميّة السائدة في واشنطن تقبّل فكرة هزيمة أميركا. قد يكون ترامب وحيداً في أنه اعترف بهزيمة أميركا في العراق مبكّراً، وهو لا يريد إلحاق هزائم أخرى جديدة بها. لكن كما أن للنصر الاستعماري أبناءه، فإن للهزيمة الأميركيّة في الشرق الأوسط أيتامَها.

* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)