أحدثَ الصدور المدوّي لكتاب توماس بيكيتي الجديد «رأس المال والإيديولوجيا» (بروشيه - أيلول 2019)، جدلاً محتدماً في الصحافة العالمية والفرنسية على وجه التحديد، حيث دفع الجهل ببعض الصحافيين إلى إطلاق أحكام أخلاقية بحقّ الكاتب، وصلت إلى حدّ الاشتباه بأنّه مصاب بـ«لوثة» الأفكار الشيوعية. إلا أنّ هذا الجهل المدقع لدى بعض الأبواق الإعلامية للعقيدة النيوليبرالية لا يغيّر شيئاً في أهمية عمل بيكيتي، الموثّق بدقّة والمُتاح لعموم الناس، إذ يسعى الكاتب في عمله الجديد إلى حثّ الجميع على مناقشة سُبُل تخطّي الرأسمالية. ففي هذه الدراسة التي تتناول تاريخ اللامساواة في العالم وانتصار السردية «المناقضة تماماً لمنطق المساواة» منذ أواخر الثمانينيات، يكشف الكاتب زيف الإيديولوجيا الرأسمالية، التي يرفعها البعض إلى مقام العلم، مذكّراً، عن حق، بوجود بدائل، وبأنّ النقاشات الفكرية قادرة على إنتاج توافق حول حلّ بديل من شأنه المساهمة في إحداث التغيير. فبحسب الكاتب «الأسواق والمضاربات، والأرباح والأجور، ورأس المال والدين، والعمالة الماهرة وغير الماهرة، والمواطنون والأجانب، والملاذات الضريبية والمنافسة، ليست مفاهيم قائمة بذاتها، بل هي مركّبات اجتماعية وتاريخية تعتمد بالكامل على النظام القانوني والضريبي والتعليمي والسياسي الذي ننشئه بإرادتنا». لذا، فإنّ تاريخ اللامساواة هو أولاً تاريخ إنتاج الخطابات التي تبرّر التفاوتات في الثروة. فعبر التوصّل إلى قراءة جديدة للتجارب التاريخية واعتماد نهج يجمع بين مجالات واختصاصات متعدّدة، يمكن البحث عن نماذج بديلة أو «رسم ملامح نظام اشتراكي تشاركي جديد للقرن الواحد والعشرين»، بحسب تعبير بيكيتي.في الواقع، بالعودة إلى التاريخ الفرنسي، من النظام القديم وصولاً إلى القرن التاسع عشر، ومروراً بالطبع بالثورة الفرنسية، التي كرّست مفهوم الملكية بمعناه الحديث، يُجري الكاتب مراجعة مضنية للمسار التصاعدي للامساواة، الذي لا يبدأ بالانحدار سوى في عام 1914، لكي يتسارع في ثلاثينيات القرن المنصرم إثر الهزّات السياسية الكبرى، التي وفّرت بيئة مؤاتية لفرض ضرائب تصاعدية على الدخل والميراث. وتمثّل الأثر الأوضح لذلك في إعادة توزيع الملكية وتعزيز المساواة، وهو ما عجزت الثورة الفرنسية عن تحقيقه. وللمفارقة، يذكّر الكاتب بأنّ الولايات المتحدة، قبل أن تتحوّل إلى مركز «النهضة الليبرالية»، كانت هي من ابتكر مفهوم الضريبة التصاعدية بشدّة في القرن العشرين، أي «في حقبة العصر المذهّب (1865-1900) والتراكم المالي الكبير في بداية القرن العشرين»، إذ كانت الولايات المتحدة «تخشى بالفعل من فكرة التحوّل في يوم من الأيام إلى دولة تسود فيها اللامساواة كما في أوروبا القديمة، التي كان يُنظَر إليها آنذاك على أنها أوليغارشية ومناقضة للروحية الديموقراطية الأميركية». وقد بلغت هذه الضرائب التصاعدية الحديثة والواسعة النطاق نسبة 75 في المئة على المداخيل الأعلى بين عام 1950 وأواخر الثمانينيات.
يعود سبب ضعف التحالفات الداعمة للمساواة إلى تحوّل بنية الصراع السياسي من صراع «طبقي» إلى صراع «نخبوي»


ولكن منذ عهد الرئيس الأميركي رونالد ريغان، أدّى الإيمان الشديد بنظرية «المنفعة للجميع» (trickle-down economics) – التي تقيم علاقة سببية وهمية بين الحدّ من الضرائب على المداخيل الأعلى وبين تحفيز النمو – إلى خفض معدل الضرائب إلى مستوى متوسط يبلغ 35 في المئة خلال الفترة الممتدّة بين عامَي 1990 و2018. يثبت بيكيتي إذاً، بالأرقام، أنّ النمو خلال هذه المرحلة تراجع إلى نصف ما كان عليه في السابق، إذ انخفض نمو حصّة الفرد من العائدات الوطنية في الولايات المتّحدة من 2.2 في المئة سنوياً كمعدل متوسط بين عامَي 1950 و1990 إلى 1.1 في المئة سنوياً بين عامَي 1990 و2018. إلا أنّ هذا التشخيص لفشل النموذج الاقتصادي الأميركي والإفقار المتزايد للـ50 في المئة الأكثر فقراً من الشعب، الذين يعانون من تضاؤل حصّتهم من إجمالي العائدات ومن الركود في المداخيل الحقيقية وتراجع القدرة الشرائية، مقارنة بالسبعينيات، لم يؤدِّ إلى النظر جدياً في الخيارات البديلة الممكنة.
ما زال الخطاب الأيديولوجي المهيمن، «ثمرة الجهل والفصل بين المعارف، الذي ساهم إلى حدّ بعيد في تغذية النزعة القَدَرية والتموضعات الهويّاتية الحالية»، يطغى على النقاشات العامة، على حساب المعرفة العلمية الحقيقية المستندة إلى وقائع موثّقة.
بالنسبة إلى بيكيتي، هذا الواقع هو أيضاً نتاج فشل التحالفات السياسية التي تشكّلت في منصف القرن العشرين بهدف الحدّ من اللامساواة، والتي باءت جهودها بالفشل. فيذكّر الكاتب بأنّ شروط إعادة توزيع الثروة وفق النمط الاجتماعي الديموقراطي، بمعناه الواسع، التي فُرضت خلال تلك الفترة، لا يمكن حصرها بالبعد المؤسّسي أو الانتخابي أو الحزبي، بل إنّ هذه الشروط كانت فكرية وإيديولوجية في المقام الأوّل. ويلاحظ بيكيتي، مذكّراً بأهمية النموذج السوفياتي المضاد لفرض برنامج طموح على الأحزاب المحافظة، أنّ «التحالفات الفكرية، القائمة على برامج تهدف إلى الحدّ من اللامساواة وإلى إحداث تحوّلات عميقة في النظام القانوني والضريبي والاجتماعي، التي فُرضَت على مختلف القوى السياسية خلال الفترة الممتدّة بين ثلاثينيات وثمانينيات القرن الماضي، لم تكن تستند إلى استراتيجيات تعبوية فحسب، بل إلى إشراك قسم كبير من الجسم الاجتماعي (مثل النقابات والناشطين ووسائل الإعلام والمفكّرين)، كما كانت تهدف إلى تغيير الإيديولوجيا المهيمنة برمّتها، التي كانت طوال القرن التاسع عشر قائمة على العقيدة شبه المقدّسة لاقتصاد السوق واللامساواة والملكية».
بالنسبة إلى بيكيتي، يعود سبب ضعف التحالفات الداعمة للمساواة إلى تحوّل بنية الصراع السياسي من صراع «طبقي» في الفترة الممتدّة بين الخمسينيات والثمانينيات إلى صراع «نخبوي» بعد تلك الفترة، وإلى عجز هذه القوى عن «التفكير في إعادة توزيع الثروة والضرائب التصاعدية وتنظيمهما على المستوى الوطني، وأخيراً إلى صعوبة إقامة رابط بين مسألة اللامساواة وتنوّع الجذور القارية والعرقية والإثنية-الدينية». في المقابل، يرفض الكاتب النزعة القَدَرية، ويدعو إلى بناء أسس «الملكية العادلة، والتعليم العادل، والحدود العادلة»، عبر إطالة أمد التجارب التاريخية والأدوات المؤسسية الناجحة. يسلّط بيكيتي الضوء على طرحَيْن أساسيَّيْن لنبذ الإيديولوجيا التي تقدّس الملكية وتؤدّي إلى إعادة إنتاج أسباب اللامساواة، وبالتالي لـ«تخطّي الرأسمالية». يتمثّل البديل الأوّل، الذي تمّت تجربته في السويد وألمانيا – بعد مواجهات ونضالات اجتماعية عديدة – في إرساء نظام قائم على الملكية الاجتماعية، مستوحى من نظام الإدارة المشتركة للشركات، الذي يسمح بتشارك السلطة بشكل متساوٍ بين المساهمين والمُستخدَمين. ويهدف ذلك إلى إحداث تحوّل في كيفية تمثيل الملكية، كما جرى في ألمانيا، حيث تمّ الانتقال من تمثيل محافظ يعود إلى القرن التاسع عشر إلى رؤية أكثر اجتماعية مكرّسة في الدستور. أمّا الطرح الثاني فيتمحور حول اعتماد نظام الضريبة التصاعدية على المداخيل والأملاك مجدداً، أو ما يُعرَف بـ«النظام الضريبي الأكثر تشدّداً تجاه المداخيل والأملاك الكبيرة والأكثر ليونة تجاه المداخيل الأدنى»، وذلك بالاستناد إلى التجربة الأميركية في القرن العشرين، وهو ما يعني عملياً إنشاء ملكية مؤقتة عبر تصفية الأملاك الكبيرة.
صحيح أنّ باب النقاش ما زال مفتوحاً حول مدى فعالية البدائل المقترحة، إلّا أنّ كتاب بيكيتي يفكّك الأسطورة القائلة إنّ الرأسمالية النيوليبرالية هي الأفق الوحيد للإنسانية الذي لا يمكن تخطّيه، لا بل إنه يعيد النظر في تطوّر الأُطُر الاجتماعية لتشكّل الهيئات التمثيلية والأحكام القيمية الاجتماعية وترجمتها المؤسسية المرتبطة بكلّ سياق تاريخي-اجتماعي. نظراً إلى أنّ الموقف من الظواهر الاجتماعية والانتماء إلى نظريات معيّنة والمؤسسات المختارة ليس موقفاً مجرّداً من التأثيرات الإيديولوجية، لا يمكن إذاً اعتبار تاريخ اللامساواة كتاريخ اقتصادي أو تقني صرف، بل يجب النظر إليه كتاريخ إيديولوجي وسياسي بكلّ ما للكلمة من معنى. فبعد أن تمّ تجاهل البحث في مسألة اللامساواة لسنين طويلة نتيجة الإيمان الشديد بإيديولوجيا «ما من بديل» (There is no alternative)*، بات من الممكن اليوم التخلّي عن هذا الإيمان لصالح «نظام جديد وفئات نحدّدها بأنفسنا».

* شعار كانت تستخدمه رئيسة الوزراء البريطانية المحافظة مارغريت ثاتشر للقول إنّ اقتصاد السوق هو النظام الاقتصادي الوحيد القابل للاستمرار