نذهب نحن اللبنانيين إلى صناديق الاقتراع دورياً، غالباً، ويمكننا انتقاد الحكومة والسلطة في وسائل الإعلام وممارسة السخرية السياسية، ويمكن لنا أن نتظاهر ونحتج، بحدود ما، ويمكن لنا ممارسة معتقداتنا الدينية، ويمكن لنا استهلاك ما نشاء ما دمنا قادرين على دفع ثمنه، ويمكن لنا أن نكون ما نشاء فكرياً وثقافياً، لكن يبقى أننا غير قادرين على تغيير من يحكموننا، أي إعادة إنتاج السلطة كما تفترض الديموقراطية ببساطة، أو أن «نشارك في الحكم» بحسب ما يصف خالد قباني الديموقراطية. إذاً هذا النظام يتيح لك كل شيء إلا أن تغيّر مراكز السلطة فيه، هو يختار لك مساحة مفبركة من الحرية لتلهو بها، يمنحك القدرة على أن تتوهم أن قواعد اللعبة عادلة، ويمكنك أن تحدث تغييراً من خلالها. هو نظام يقوم على خلطة بديعة من الرجعية والمعاصرة. ربما اختصر غسان تويني وصف نظامنا السياسي بقوله إنه قشرة من الديموقراطية تختبئ خلفها ديكتاتوريات القيادات الطائفية.
البنية الطائفية
في هذا النموذج أدوات القمع في أغلبها غير ظاهرة، هي إما مفاهيم ومعايير وأخلاقيات ذات قوة اجتماعية، أو ممارسات زجرية وتقييدية وعقابية رسمية وغير رسمية بأدوات عنفية وغير عنفية. المفاهيم والمعايير السائدة هذه وليدة البنية الطائفية، نحن لسنا مواطنين ولا أفراداً بل نحن جماعة قبلية هرمية. هذه البنية تزوّد المجتمع بمعايير ومفاهيم تضمن استمرارها، وتعاقب من يخالفها بالنبذ والرفض والعار. كما أن هذه البنية تكرّس أوضاعاً مادية تتيح لتلك الأفكار أن تسود. فهناك منظومة متكاملة تعمل في خدمة كل زعيم، من مثقفين وأكاديميين ورجال دين ومدارس ومنصات إعلامية وفنانين، يضاف إليها جهاز بيروقراطي داخل النظام قابض على الموارد والخدمات، وآخر حزبي مندمج في ذلك البيروقراطي بدرجة أو بأخرى، فذاك الموظف الوهمي ليس إلا عنصراً أو كادراً حزبياً، يقبض راتبه من ضرائبنا ويداوم في واحد من أجهزة ضبط المجتمع وقمعه في هذا التنظيم أو ذاك.
هذه الأفكار وبناها المادية وظيفتها حفظ الوضع القائم عبر خلق كوابح نفسية وعاطفية ذاتية لدى الأفراد وأدوات ضبط داخل المجتمع وجهاز زجر وتطويع حزبي وثم رسمي. أنت حر ما دمت لا تمس بالأمر الواقع، أي لا تتحدى مركز الطائفة وبنيتها. وبمقدار ما تنجح الزعامات في ضبط مجالها الطائفي الداخلي وتوطيد متانة التوافقات في ما بينها، يتمدد النظام الطائفي وينمو ويزداد استقراره. ففي مركز الطائفة هناك الزعيم لا الدين، وحول الزعيم أصحاب رؤوس الأموال (هم الأسرة ورجال أعمال ومقاولون ومسؤولون حزبيون كثيراً ما تجمعهم علاقات مصاهرة) وبعدهم المؤسسة الدينية الرسمية، فالشعارات الدينية توظّف لخدمة المتمولين والمتسلطين، أما الفقراء فلهم الله.
لا يعني ما تقدم أن الطوائف مجرد بدعة مفبركة، بل إن فشل بناء الدولة الحديثة في العالم العربي، بسبب سياسات استعمارية وطبيعة النظام الإقليمي ومن ثم دور النخب المحلية، جعل الناس يجدون في الطوائف بديلاً لتشكيل هوية متماسكة وبناء تضامن اجتماعي لمواجهة التحديات ومخاطر الإبادة، كما في السنوات الأخيرة. كما أن قوى مقاومة تؤمن بالانتماء إلى طوائف من دون أن تضعه في مقابل الانتماءات الأرحب، حققت ما عجزت عنه مشاريع وطنية وقومية في تحرير الأرض واستعادة السيادة وحفظ الحقوق من المحتلين. ليس الانتماء للطوائف مذمّة أو منقصة إلا إذا تحول هذا الانتماء إلى هوية أحادية انعزالية وصراعية في مقابل كل من هم خارج الجماعة. علينا أن نقبل بالمساحة بين الطائفة والطائفية، المُدان هو استغلال زعامات لطوائفها خدمة لمشاريع فئوية مدمرة.

سيطرة بلا عنف
في كل مرة تحاول الاصطدام بمراكز القرار داخل طائفة ما، فإن عملية التنشئة الاجتماعية التي شكّلت ما أنت عليه بدرجة أو أخرى ستتكفل بكبحك. مثلاً، ستسمع صوتاً داخلياً يسألك هل نحن من أفسدنا فقط، ألم يكن ذلك ضرورياً لنا كجماعة؟ (أكمل الباقي من ذهنك). وما يزيد الطين بلّة هو تحيّزاتنا الإدراكية والعصبية كبشر، وهي تحيّزات تلقى تحفيزاً من مصادر خارجية، كالتربية والخطاب والموروثات والأمية والجهل...إلخ. هنا تلقائياً يتعرض أغلبنا للخدر وتتفعل لديه آليات الشك والتبرير حين يكون تيارنا السياسي أو طائفتنا في قفص الاتهام. أما حين يكون المتّهم من الجهة المقابلة، تتحفز لدينا طاقة النقد وصولاً إلى التحامل والافتراء وأداء دور الملائكة: «هم» طائفيون و«نحن» الوطنيون، ثنائيات نتقاذفها مداورة بين حقبة وأخرى، ليس هناك مساحات رمادية في مخيلتنا، نحن مخيّرون بين ملائكة وشياطين فقط، ثم يذهب قادة الطوائف ويعقدون الصفقات ويتبادلون الضحكات.
وما إن تتجاوز كوابحك الذاتية حتى تصطدم بالدائرة الخارجية، أهلك ورب عملك وزملائك ورفاقك وأهل الحي والقرية والمنطقة والطائفة. ماذا لو صرت منبوذاً وغريباً ومتّهماً؟ ماذا لو جرى التشكيك في صدق إيمانك؟ وماذا لو خسرت فرصة الحصول على عمل أو تنفيعة؟ (أكمل الباقي في ذهنك). وكلما كنت أضعف، بالكفاءة والمؤهلات والحماية، تشتد عليك هذه الأسئلة وتراكم شعوراً خفياً متراكماً بالمذلة، وهكذا تصبح الفرد المثالي لهذا النظام. فكما يقول الإمام موسى الصدر «الخطوة الأولى لإصلاح الفرد والمجتمع هي إشعار الإنسان بكرامته»، وعليه، ليستحكم الفساد، ينبغي تحطيم تلك الكرامة.
وليكون المجتمع قادراً على ممارسة الضبط، لا بد من شحنه بمخاوف وحكايا ومصالح متخيلة ومستقبل موعود. وهنا يبرز دور الإيديولوجيا والتعبئة والتحكم في المعلومات. الإيديولوجيا لا غنى عنها، ولكنها كأي شي آخر ينبغي أن تكون لها حدود وإلا ابتلعتك، من دونها لما استطعنا أن نحتمل قتال العدو الإسرائيلي وأن ننتصر عليه. قوة الزعامة هي في أن تبقى متعالية، أن تبدو غير قابلة للمس، وأنها مصدر الخير العام. الشفافية هي الحد الفاصل بين الأسطرة والواقع. فلا ينبغي للجمهور أن يطّلع على الحسابات المصرفية أو العقارية، وإلا تنبّه الجمهور إلى أن الخير العام لا يعدو أن يكون خير أسرة فلان وحاشية علّان.

«نواطير»
حتى اللحظة، لم يصطدم الفرد بممارسة عنفية، وما زال يشاغب ويتمرد، ولكن غالباً ضمن الخطوط الحمراء الرئيسية، ولذا هو يمكن أن يصبح مزعجاً ولكنه ليس مصدر خطر، وقد يتكفل الوقت وعمره وحاجته إلى الاستقرار والأسرة وحالتك الصحية والنفسية بأن يبتلعه اليأس والسخط ويُحيّد. ولكن ماذا لو كسر الفرد كل هذه الكوابح الذاتية والاجتماعية، حينها سيعاني من جهاز الزجر غير الرسمي، سيتعرض لحملات تشويه وافتراء، وسيتلقى تهديدات، وربما يتعرض للأذى الجسدي، ثم يخرج الزعيم ويحدثه عن الحريات والقانون ويستنكر ويدين ما تعرض له من عابثين ومتآمرين وممارسات فردية، ويؤكد حياد الدولة وضرورة حفظ النظام العام. وبعدها يتدخل الجهاز الرسمي، من أمن وقضاء، ليقضي على ما تبقى من طاقته باسم هيبة الدولة والشعب اللبناني والمصالح العليا وحفظ الاستقرار.
وأولئك المعيّنون في الوظائف الرسمية، لا سيما العليا منها، هم في الغالب غير مؤهلين، مطواعون ومطيعون لا يطرحون الأسئلة، وضوابطهم الأخلاقية هشة، هم المكلفون بالمهام القذرة، هم الوصلة الأخيرة مع السرقة أو النهب أو التزوير أو التشويه أو الضرب والهتك والقتل. هؤلاء ينبغي أن يكونوا كذلك حتى يروا في الزعيم والوضع القائم طريقهم الوحيد إلى المكانة والجاه والسلطة، بينما يمكن للشخص الكفوء أن تكون لديه خيارات وطموحات وأن يطرح أسئلة، والزعماء «خلقهم ضيّق» ولا وقت لديهم لترف كهذا. هؤلاء يعوّضون مذلتهم أمام «وليّ نعمتهم» بالطغيان على دافعي الضرائب (أي المواطنين) والتجبّر عليهم.
ونظراً إلى فعالية قنوات الاحتواء داخل الطوائف، لا يحتاج النظام إلى أن يجنح كثيراً نحو العنف، وهنا مصدر قوته. ولزيادة فعالية الاحتواء، يتيح لك النظام هوامش من الحريات التي لا تهدده، فينظّم لك الانتخابات السياسية والنقابية والمحلية، ولا يمنع التظاهر ولا يمنع تشكيل الأحزاب ولا يمنع الاعتراض على قضايا ثقافية أو بيئية أو إدارية أو رياضية. بل سينظّم لك أقطاب اللعبة مباريات دورية في الخصام والتراشق، ويمنحونك شرف المشاركة في المساجلة والشتم والتحدي، وفي اليوم التالي يتقاسمون مشروعاً أو قانوناً أو صفقة أو يتشاركون بغبطة وفخر الفطور أو العشاء مع سفير دولة أو موفد أجنبي لدولة كان الجمهور يظن أن الحاضرين منقسمون حول دورها. سيتيح لك النظام إعلامياً أو محللاً سياسياً «حمش» في القضايا التي لا تهدد بنية النظام، وينال حصة منه على شكل هدايا ومكافآت ورعاية ومنابر مقابل الترويح عن الجمهور أو افتعال قضية أو حرف الأنظار.

السجن الكبير
اللبنانيون سجناء داخل طوائف تختصرها وتهيمن عليها نخب مافيوية، وهذه النخب منتظمة داخل نظام محاصصة، ونظام المحاصصة يخدم مصالح خارجية متباينة تقيد الخيارات المحلية، أي إننا محاصرون ضمن أربعة مجالات هي الطوائف (ككيانات سياسية) والنخب المافيوية ونظام المحاصصة والمصالح الخارجية وضروراتها وتوازناتها. ولذا قوة النظام اللبناني تتوالد من بنيته الطائفية التي تتكفل بالقمع داخل الطوائف من دون حاجة إلى العنف، ومن نخبته القادرة على تعبئة الموارد والهيمنة على الأفكار والتصورات والخطاب، ومن كونه يرعى تقاسم الحصص بين القوى الطائفية، ومن كونه نظاماً مثالياً في العالم الثالث من وجهة نظر قوة الهيمنة العالمية، فلواشنطن نفاذ عبر الطائفيين والفاسدين لتثبيت حد أدنى من المكاسب مهما تدهور حال حلفائها.
من خصائص النظام في لبنان أنه يعمل في بلد صغير جداً ديموغرافياً وجغرافياً، ومع التضخم في أعداد موظفي القطاع العام، خلق النظام لذاته قوة اجتماعية تمتص الأزمات وقادرة على إحداث توازن في الشارع عند الضرورة، إضافة إلى جيش من الموظفين في مشاريع الأحزاب الخاصة وشبكات رجال أعمالها والاقتصاد غير الرسمي. لكن كون لبنان بذاته بلداً صغيراً هي معضلة النظام مستقبلاً ربطاً بشح الموارد والزيادة الديموغرافية وسهولة معرفة ما يجري في مركز البلاد. فالإصلاح بدايته تمكين الناخبين من الاطلاع والمراقبة على عمل السلطات العامة وثروات أفرادها وصفقاتهم، ومن ثم قانون انتخابي يجعلهم مشاركين حقاً في الحكم.
التغيير سيبدأ حين تتفكك واحدة من هذه الدوائر: إما أن تتفكك طوائف رئيسية وتنمو خارجها كتلة مواطنين متماسكة قادرة على فرض نفسها داخل المعادلة، أو حين تعجز النخب عن تجديد قيادتها (كما حالة «تيار المستقبل» و «الحزب التقدمي الاشتراكي» حتى الآن) أو تتراجع موارد المحاصصة بشكل كبير (كما يحصل الآن) وإما أن يصبح للخارج مصلحة في ذلك أو يعجز عن حماية الوضع القائم (قوة المقاومة تمنع ذلك حتى الآن). وحين يتفكك أي من هذه الدوائر سيكون العنف الحاضر الأبرز في الشارع، ليدفع الناس الثمن مرة أخرى إن ارتضوا أن يكونوا وقوداً.

خاتمة
لا يكتمل هذا النقاش من دون فهم الدور الحالي لأبرز قوة اليوم في لبنان، أي «حزب الله»، فأين هو موقعه من هذه الدوائر؟ هو قوة من داخل الطائفة، ولكن مشروعه أكبر منها وكذلك مشروعيته، والطائفة قاعدته ولكن تطلعاته أعم منها، ولذا هو قادر على تجاوزها بحدود ما. وثانياً يعظّم تحدي التجديد لدى النخب التقليدية من خلال طرح فكرة عدالة التمثيل بما يعزز التنوع داخل الطوائف والمذاهب كافة، ويؤدي إلى صعود قوى تتحدى الوضع القائم. وثالثاً، حين يمنع القوى التقليدية من نقل الأزمة إلى الطبقات الفقيرة ويفرض عليها أن تقدم تنازلات جدية إن أرادت الحل، فهو يعمّق أزمة آلة المحاصصة. وأخيراً، قوته تجاه الخارج تضمن حتى الآن رغبة عامة بأن لا ينهار النظام، ولكن ذلك يعني أيضاً تجنيب البلاد ويلات الاقتتال الداخلي.
حتى الآن دور «حزب الله» في مكافحة الفساد هو دفاعي ويرسم خطوطاً حمراً (منع فرض ضرائب على الفقراء، ومنع المس بالرواتب غير المرتفعة، ومنع الهدر) مع ملامح هجومية محدودة كما في ملف وزارة الاتصالات. ومع أن الحزب لم يتبنّ حتى الآن مقاربة إصلاحية راديكالية وشاملة، ولكنه بأدائه الحالي يعمّق أزمة نظام المحاصصة هذا، ويعطّل قدرته على إعادة إنتاج نفسه ويدعم قدرة المتضررين منه على مقاومته.
في لبنان إذاً النظام ليس بحاجة إلى معتقلي رأي ولا إلى سجون سرية ولا إلى فنون التعذيب في أقبية أجهزة الأمن كما يحصل في معظم الدول العربية. لكن، لنتذكر أن هذا البلد الصغير جداً غارق في الديون الباهظة ومشلول سياسياً وانتاجياً ومشوّه بأعلى مستويات التفاوت الاجتماعي والاحتقان الطائفي. ولذا كثر من داخل النظام معلّقون اليوم، إضافة إلى حبال الهواء، بحبل النفط والغاز، إن أمسكوه فربما علينا أن نستعد لسنوات جديدة من النهب والإفقار والمآسي، وإن أفلت منهم فربما لدينا فرصة. هذا كله ليس إلا من القليل الذي يقال، أما الباقي، وإلى أجل مسمّى، أكملوه في أذهانكم.
* أستاذ جامعي