أدرك الرئيس الأميركي دونالد ترامب أكثر من أيّ رئيس أميركي سابق معنى سيادة الدولار في الاقتصاد العالمي. ربما أتاحت له خلفيته في ريادة الأعمال هذا الأمر. بات الدولار منذ مؤتمر «بريتون وودز» عام 1944 أداة التداول العالمية المقبولة ويجري تسعير معظم العملات العالمية ربطاً بها. وقد ازداد الدولار تحرراً بعد فكّ ارتباطه بالذهب وتفلّت واشنطن في سبعينات القرن الماضي من الجزء المتعلق بربطه بالذهب في اتّفاق «بريتون وودز» مع بقاء باقي عملات الدول مربوطة بالدولار. تسلّل الدولار إلى كلّ الاقتصادات نتيجة القوة التي يحملها مدعوماً بالسياسة الأميركية التوسعية والقادرة على التأثير في المجريات السياسية للدول، خصوصاً في ما بات يُعرف بالدول النامية. جاء ذلك مدعوماً في مرحلة ما بعد سقوط جدار برلين بما يسميه جورج قرم بمقدسات النيوليبرالية.
أنجل بوليغان المكسيك

قوّةُ فرض هذه المقدسات تتمظهر في أحد جوانبها بالسلوك الأكاديمي الذي بات لا يعتمد إلّا تدريس قيم السوق المفتوح ورفض الحمائية وتدريس غيرها من مبادئ «العقيدة المقدسة». كما يتجلّى الأمر في جانب آخر يسميه قرم (في كتابه «حكم العالم الجديد») بطبقة الموظفين الذين يبشّرون بالنهج الليبرالي ويدافعون عنه في مواقعهم التي لا توكل إليهم إلّا وفق مقدار ما يقدسّون من قيم هذا النظام.

الليبرالية الهجينة
غير أنّ ترامب نحى منحى جديداً لا بدّ من الالتفات إليه، وهو اللجوء إلى الحمائية (فرض الضرائب على المستوردات) بعد عقود من مناداة النظام الليبرالي منذ اتفاقيات «جات» وصولاً إلى منظمة التجارة العالمية عام 95. إلّا أنّ المثير للاهتمام أنّ أيّاً من الدول الأعضاء في «منظمة التجارة العالمية» لم تكن له ردات فعل عنيفة على ما فعله ترامب أخيراً من فرض رسوم على المعادن والسيارات المستوردة، منعشاً بذلك الصناعة المحلية الأميركية. جلّ ما حصل هو دخول دول ككندا والمكسيك ومجموعة الاتحاد الأوروبي في مفاوضات مع الولايات المتّحدة للتسوية. لم يُشِر أحد إلى مخالفة قوانين «منظمة التجارة» ولا لوّح بعقوبات بوجه واشنطن على غرار ما فعلته فرنسا ضدّ مصر في التسعينات من القرن الماضي على خلفية حماية الحكومة المصرية لقطاع النسيج المصري وهو ما رفضته باريس طلباً للأسواق لتصريف منتجاتها. في الأثناء، لم يعُد الدولار عملة مقابل عملة أخرى بالمفهوم التقليدي للتبادل التجاري. لقد تطوّر الدولار ليغدو سلاحاً لعلّه الأقوى في يد الإدارة الأميركية اليوم، في زمن الحروب بالوكالة.
لم تستطع الصين برغم اقتصادها العملاق أن تتفوّق على الاقتصاد الأميركي بعد، وهي إن استطاعت بعد عقد من الزمن من خلال عجلة إنتاجها الجبّارة، فإنّها لن تستطيع بسهولة فرض الرنمنبي Renminbi كوسيط تجاري نقدي مقبول عالمياً. وما خلا اليورو، وهو الإنجاز الكبير للاتحاد الأوروبي مقابل الغلبة الأميركية، لا توجد أيّ عملة أخرى قادرة على مجاراة الدولار الأميركي. تخيل اليوم قيام صفقة تجارية بين أنغولا والسعودية مثلاً، فعلى الرغم من وجود سعر على الإنترنت للكوانزا مقابل الريال إلّا أن البنوك مجبرة، لعوامل موضوعية، على اعتماد الدولار لتسديد الاعتمادات المستنديّة بين البلدين. ولهذا فإنّ البنك المركزي في أنغولا يدخل طارحاً الدولارات بشكل دوري للبنوك بعد جمع العملة الوطنية من خلال عمليات البيع. يغدو جمع الدولار أصعب في البلاد التي يغلب على طابعها الاستهلاك وعدم التصدير. مثل هذه الدول يمكن شطبها ببساطة من الخارطة الاقتصادية العالمية في ظلّ الرساميل العابرة للقارات والمدعومة بقرار أميركي بمراقبة كلّ التحركات المالية. فالدولار بات وسيلة كالسيارة والطائرة لا تستطيع استعمالها تجارياً إلّا بشروط الولايات المتحدة، وهذا ما لم يحصل سابقاً في أيّ من العملات المقبولة عالمياً.
لم يعد لهذه الدول المستهلكة مرجعية ذاتية في تقييم عملاتها المحلية، على الرغم من وجود أسعار لها، فإنّ هذه الأسعار هي عوامل مساعدة للتجارة لجمع وتحويل المال إلى الخارج بالدولار. وهذا ما يُبقي العملة الأميركية في موقع القوة دوماً، حتّى في ظلّ الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة وأزمنة الاضطراب.
إنّ نموذجاً عالمياً جديداً يسود جرت صياغته بالخطوات العملية وليس التنظير الاقتصادي البحت، خصوصاً مع توفر الإرادة السياسية الأميركية التي تعرف ما يعنيه ربط الاقتصاد العالمي بالدولار (وليس اقتصادات الدول). هذه الإدارة تتعهّد بمعرفة وجهة استخدام كلّ دولار طبعته لا لقيمته الورقية ولا لقيمته السوقية، بل لأنّه أضحى وسيطاً لا ينازع في المبادلات العالمية، ومقبولاً من البنوك والشركات العالمية والتجار. قد يرى البعض هذه النقطة بسيطة، ولكن القيّمين على المصارف العالمية ومن يملكون الثروات يعرفون معنى ألّا تمتلك الدولار أو أن يُمنع عليك حيازة الدولار لسداد استحقاقاتك المالية. هذا الأمر يعني بكلّ بساطة شطبك خارج التاريخ التجاري والقضاء عليك لأنّك لن تملك عملة بديلة مناسبة بالكفاءة نفسها لأعمالك التجارية.

تحييد تأثير النفط
لا يُعدّ ما سلف عامل التقدم التجاري الوحيد للولايات المتحدة، بل إن الأخيرة حرمت النفط العربي من قيمته الاستراتيجية. تبقى للنفط اليوم قيمته السوقية ما دامت الدول المصدرة للنفط على علاقة طيبة بالولايات المتحدة. ولنا في نفط فنزويلا شاهد على ذلك كذلك في النفط الإيراني. أمّا في ما خص النفط العربي فقيمته اليوم قيمة نقدية فقط، لا تؤثر بأيّ شكل في السياسات العالمية، وهذا ما يحتم تأويل الحضور الأميركي العسكري في الخليج بغير ما كان عليه سابقاً من سردية الحفاظ على إمدادات النفط. سارت أميركا باتجاه الوقود الأحفوري وهو خيار استراتيجي يرفع أمام الدول المنتجة للنفط للحفاظ على سعر متدنٍّ لبرميل البترول، فضلاً عن تطويرها وأوروبا للطاقات المختلفة المستقلة عن النفط من طاقة الشمس والرياح والطاقة النووية وغيرها. فعلياً بات النفط العربي خارج المعادلة الاستراتيجية بفعل عاملَي التحول الاقتصادي إلى بدائل الطاقة والعامل السياسي.
تتحكم الولايات المتحدة بمفاصل الاقتصاد العالمي وصياغة النظم التي تراها مناسبة للّحظة السياسية


ضربة محطة أرامكو الأخيرة مثلاً حرّكت السوق لساعات وسرعان ما جرى تداركها حفاظاً على الاستقرار. هذا العامل لو حصل في تسعينات القرن الماضي لحدثت هزة كبرى في أسواق النفط العالمية ما كانت لتهدأ بهذه البساطة. بخلاصة القول لو قدّر للسعودية أن تكون يوماً ما في محور مخالف للولايات المتحدة فلن يكون بإمكانها استخدام النفط في المواجهة كما لن يكون ذلك متاحاً لغيرها كسلاح فعال.

الدبلوماسية الأميركية البراقة
على صعيد السياسة الخارجية لا شكّ أنّ روسيا حققت تقدماً من خلال بوابة الحرب السورية، لكن من الجدير بالذكر أنّها اضطرت إلى استخدام قوّتها العسكرية لفرض دورها على الأرض. هذا الأمر هو ما لا تحتاج واشنطن لفعله لخلق تأثيرات في مصر مثلاً أو للحفاظ على نفوذها في أفغانستان بعد انسحاب معظم قواتها منها. كذلك في العراق فإنّ النفوذ الأميركي لا يمكن أن يعزى إلى بقاء مئات الجنود الأميركيين في بلاد الرافدين مع معارضة «الحشد الشعبي وتهديداته المتكررة. إنّ النفوذ الأميركي له صفة أعمق من الحضور العسكري وهو ما لم تستطع روسيا ولا الصين ولا إيران خلقه على الساحة الدولية.
تسخّر السياسة الخارجية الأميركية البيانات الاستخبارية لحماية مصالحها، فهي تجيد لعبة الابتزاز والتهديد والترغيب. أضف إلى هذه العوامل مواكبة العامل الاقتصادي الطاغي في هذه المرحلة من خلال المصارف المركزية والبنوك العالمية. ولعلّ ما يحصل في لبنان أخيراً نموذجاً غير خفي عن أحد. تُصدر واشنطن قرارها بحق بنك لبناني فتتم تصفيته وفق معايير أميركية صارمة وأكثر. هذه القوة الاقتصادية والعسكرية والأمنية تخلق مكانة للسفير الأميركي تؤهّله لإبداء آرائه بالسياسة الداخلية للدول وإصدار البيانات في دول العالم النامي بدون أن يكون مخالفاً لقوانين بلاده أو عابئاً بقوانين البلاد التي يحضر فيها. هذا ما لا نجده لدى سفراء روسيا أو الصين مثلاً، ونجده إلى حدٍّ ما لدى سفراء فرنسا وبريطانيا إلى بلدان العالم النامي.

الفرد مقابل الجماعة
يأتي هنا الدور الحاسم للنموذج السياسي والاجتماعي الأميركي. فمقابل سيادة الحزب الشيوعي منذ الثورة الماوية في الصين ومقابل تقليب موقع النفوذ في روسيا بيدي الرئيس فلاديمير بوتين كما يشاء، هناك نموذج متين من الممارسة الديموقراطية حيث لا تستطيع أقوى المؤسّسات الأميركية التلاعب بها.
هذا النموذج الأميركي يعتمد داخلياً بالأصل على فرادة الفرد وتقديس حريته وخياراته. فتجد الرئيس الأميركي في موقع المساءلة القانونية والمحاكمة والعزل إن لزم الأمر. وهذا لا يؤثر على بنية الدولة القادرة على استيلاد القيادة. مقابل هذا نجد في عالمنا الإسلامي والعربي نماذج تنعى نفسها مع غياب القائد (الحاكم فرداً كان أم قبيلة)، وتصوّر المجتمع يباباً بعده بحيث لا ينصلح حاله أبداً. كذلك نجد حكماً أبوياً لا تقوى القوانين على المسّ به كما في الصين أو روسيا مثلاً، حيث تذوب إرادة الأفراد لصالح أنظمة هجينة لا هي قانون ولا هي عرف، بل هي ما يمليه الحاكم الأعلى.
النموذج الأميركي هو الذي يعطي الفرد حريته الأكبر في السياسة والتجربة والإبداع العلمي مقابل نماذج من الإنجازات الوهمية، أو الإنجازات المصادرة سلفاً لصالح السلطة والذائبة لصالح الجماعة. ولكي لا نبخس أحداً ما قدّمه، جدير أن نذكر إنجازات الاتحاد السوفياتي في المجال العلمي والتنافس الصناعي والرياضي والإعلامي، غير أنّ ذلك لم يتطوّر ليصبح حالة عالمية، كما أنه لم يتطور في بيئة سياسية صحية ولا في ظلّ مجتمع سار بتؤدة نحو رفاه بنيه.
ففي ذروة التنافس الأميركي السوفياتي في الثمانينات من القرن الماضي، كان المجتمع الأميركي يعيش ظروفاً من الحرية والرفاه الاقتصادي، لا ينكر أحد أنّها أفضل بأشواط من حكم الكي جي بي، ومجالس الحزب الشيوعي. وعلى الرغم من الشعارات المرفوعة العميقة إنسانياً، إلّا أنها لم تتبلور فعلاً لسوءٍ في التنفيذ أو ربّما لأنّها غير قابلة للصرف على أرض الواقع كما تبيّن لاحقاً.

نموذج إسلامي أو عربي؟
لا يعد جُرماً القولُ إن العالمين الإسلامي والعربي لا يملكان الكثير لتقديمه لركب الحضارة البشرية اليوم. فمنذ خسارة السلطنة العثمانية للحرب العالمية الأولى وتفكيكها لم تنعم دول العالم الإسلامي والعربي بنهضة سياسية واقتصادية وعلمية فعلية، ما خلا محطات أُنزلت في مراحل ما بعد مخاض ولادة دول «سايكس-بيكو» والكيانات الإسلامية الأخرى كباكستان مثلاً. تعيش معظم الدول الإسلامية في الشرق ضمن «كوكب القيم الأميركية» في ظلّ هيمنة الشركات الكبرى وسيادة السوق. وإلى يومنا هذا لا توجد دولة إسلامية أو عربية تمتلك نموذجاً يحدوه مشروع لبيان إيجابياته للشعوب المختلفة. اللهم إذا قلنا إيران التي تمتلك بعض المقومات من دون أن تمتلك الرؤية الكاملة والواضحة لنظام عالمي جديد مغاير للنموذج الأميركي. فإلى جانب دعوات «رفض الهيمنة ورفض الاستكبار»، لا نعثر على النموذج الفعلي المطروح. فهل هو نموذج ديني في منطقة التعدد المذهبي في الدين الواحد والتعدد الطائفي بين الأديان من إيران إلى سوريا ولبنان ومصر؟ ومقابل الليبرالية المعدّلة الهجينة، ما هو الطرح الإسلامي لنمط التعاملات التجارية؟ وهل يعدو ما يسمى بالاقتصاد الإسلامي أن يكون صيغة مفبركة للأدوات المالية الرأسمالية بصبغة دينية تريح من يحرّمون الفوائد المالية؟ وهل تستطيع جزيرة اقتصادية العيش بعيداً عن النموذج العالمي للتعاملات المصرفية التي تسود؟
على الصعيد العلمي فإنّ العالمين الإسلامي والعربي من أقلّ المشاركين في الإنتاجات البحثية، كما أنّ الإنتاجات هذه لا تلقى دعم المؤسّسات اللازمة لتحويلها إلى العالمية. أمّا على الصعيد المجتمعي فلا نحتاج إلى قول كثير للدلالة على التأخر الذي يعانيه العالمان الإسلامي والعربي، فقبلة الشباب اليوم هو النموذج الأميركي الهوليوودي (صحيحاً كان أم مضخماً) في التعليم والسلوك المجتمعي والأداء العملي وتأمّل أساليب حياة على غرار الحياة في أميركا وأوروبا، إذ لا يمكننا ببساطة إغفال نماذج حماية المجتمع وخلق فرص العمل وتأمين الطبابة والتعليم في أوروبا وأميركا.

خلاصة
في ظلّ الانكفاء الخارجي الصيني وعدم القدرة الروسية الشاملة، تتحكم الولايات المتحدة بمفاصل الاقتصاد العالمي وصياغة النظم التي تراها مناسبة للّحظة السياسية، غير متجمدة عند قيم اقتصادية دعمتها طويلاً. فهي ستحمي صناعاتها حيث تريد وبدون أصوات معارضة، وستفرض ثمناً على من يتعامل بالدولار وستبقي على سيادتها السياسية من خلال مواطن النفوذ الدبلوماسي والأمني وصوغ القيم العالمية بدون أن يقابلها طرح بديل. هو نموذج يتغلغل عبر السياسة والاقتصاد والدبلوماسية أكثر مما يتغلغل عبر العسكر. وبرغم كل ما تسببه هذه السياسة من خسائر بشرية، فإنّ واشنطن لا ترى فيها سوى «خسائر جانبية» على طريق صياغة العالم الجديد. من هنا تبرز ضرورة بلورة نموذج عملي بديل وجذاب، فكيف وأين هو هذا المشروع؟
*صحافي لبناني