يتكرّرُ ذلك كل سنة: حزب «القوّات اللبنانيّة» يقيم احتفالاً مركزيّاً تكريماً لـ«شهداء القوّات اللبنانيّة» في الحرب الأهليّة. وتقيم أحزاب أخرى يمينيّة انعزاليّة احتفالات أخرى مماثلة للمناسبة عينها تعظيماً لذكرى قَتَلَة (لا قتلى، ولا شهداء) الانعزاليّين. يطغى على الثقافة السائدة في لبنان الإطناب في الحديث عن بطولات و«مقاومة» ميليشيات اليمين في الحرب الأهليّة — تلك الميليشيات التي ذاقت الويلات وشارفت على الانهزام الساحق قبل أن ينجدها النظام السوري والكيان الإسرائيلي.
من الحرب اللبنانية (الصورة من الويب)

وسادت أيضاً بعد انتهاء الحرب سرديّة الكتائب والقوّات حول جذور الحرب الأهليّة ومسارها، وهذه السرديّة تبرّئ تلك الميليشيات من أيّ جرائم ارتُكبت، وتلصق بأعدائهم كل جرائم الحرب من دون استثناء. وبناءً على هذه السرديّة، فإن المقاومة الفلسطينيّة كانت هي المعتدية ولم يكن هؤلاء ـــ بمن فيهم ميليشيا سعد حدّاد وأنطوان لحد ـــ إلا مدافعين عن كرامة لبنان. كُتبَ للحرب تاريخٌ جديد شبه رسمي لا يتنطّح لمعارضته أحد، خصوصاً من صف الطرف الآخر من متقاعدي «الحركة الوطنيّة»، الذين يجلسون على أرائكهم لمتابعة البرامج التلفزيونيّة من دون حراك. لو قُيّضَ لهؤلاء لمحَوا تاريخهم من سيرهم الذاتيّة. أذكر قائداً من قادة «الحركة الوطنيّة» في الجنوب: عندما دعاني قبل سنوات إلى إلقاء محاضرة في صور. قلتُ له: أنا أذكرك مسؤولاً عندما كنتُ أنا صبياً يافعاً في صفوف اليسار الثوري. ارتبكَ وقال لي: أرجوكَ ألا تذكر ذلك على الهاتف. لا أريد الحديث في ذلك. قلتُ له: وممَ تخاف؟ ما الذي سيحلّ برجل يعترف بأنه كان من قادة «الحركة الوطنيّة» في زمن الحرب. يهربون من ماضيهم ويلحقون بنقيض ماضيهم في الحاضر. جلُّ هَمِّ هؤلاء إيجاد عناصر لمعارضة المقاومة والقطع مع الماضي.
لكنّ هناك تاريخاً مغايراً للحرب لم يُكتب بعد. هناك نظرة أخرى إلى الحرب لم يُسمح لها بأن تنتشر أو أن تسود. وحقبة سيطرة النظام السوري في لبنان ساعدت وأسهمت في نشر سرديّة الطرف الانعزالي للحرب، ليس فقط بسبب معاداة النظام السوري لياسر عرفات (لأسباب لا علاقة لها بمعارضة جورج حبش له) بل لأن النظام السوري يتّفق مع التأريخ الانعزالي لمرحلة حرب السنتين، ١٩٧٥-٧٦. يتفق الطرفان على أن «الحركة الوطنيّة» والمقاومة الفلسطينيّة كانتا تنويان القضاء على «المسيحيّين»، وهذه فرضية شنيعة، خصوصاً أن المتاريس الطائفيّة كانت منصوبة من جهة واحدة يومها — في الطرف الانعزالي وحده — فيما كان التحالف اللبناني ــ الفلسطيني يضم ممثّلين عن مختلف الطوائف، وكان مشروعه يلامس العلمنة (لكن طائفيّة كمال جنبلاط واعتراضات رجال الدين المسلمين، سنّة وشيعة، حرمت مشروع «الحركة الوطنيّة» العلمنة).
سنة بعد سنة، والقوات اللبنانيّة والكتائب يحتفلون بذكريات الحرب ويمجّدون نضالات مقاتليهم. ونحن، الذين كنّا أنفاراً — صبيةً وشباباً — في صف «الحركة الوطنيّة» والمقاومة الفلسطينيّة نراقب المشهد بحنق مكبوت — مكبوت لأن الذين قادوا «الحركة الوطنيّة» يومها إما رحلوا عن الدنيا — بعد أن تنصّلَ معظمهم من برنامج المرحلة وشعاراتها — أو هم أحياء صامتون أو منضوون في صف الفريق الانعزالي الذي بات يرتدي ألبسة «محترمة» اكتساها في مهرجان ١٤ آذار الطائفي. سنةً بعد سنة، نشاهد — نحن الذين كنّا في معسكر الأعداء (وليس من حرج في وصف الصراع مع الانعزاليّين بالعداء وليس الخصومة، لأنهم كانوا في خندق جيش الاحتلال الإسرائيلي، ولأنهم أشعلوا الحرب وأجّجوا نيرانها على مدى سنوات) — تكريم مجرمي حرب وتبجيلهم، وليس هناك مَن يردّ من الطرف الآخر. أليس معيباً أن أحداً من قادة «الحركة الوطنيّة» الأحياء لا يتقدّم ليدافع عن حبيب الشرتوني وعن نبيل العلم؟ لولا هذان الرجلان لقبع كل قادة «الحركة الوطنيّة» في السجون في حكم بشير الجميّل. لو أنهم يقرّون بذلك.
أين قادة «الحركة الوطنيّة» الأحياء، وبعض الراحلين ماتوا بعد أن نبذوا طروحاتهم وتنكّروا لتضحيات الشهداء ولسند المقاومة الفلسطينيّة؟ أين الذين تسلّقوا على تضحيات الآلاف من اللبنانيّين والفلسطينيّين كي يهنأ لهم العيش الرغيد؟ لا شكّ في أن المقاومة الفلسطينيّة في لبنان لاقت جحوداً ما بعده جحود من قبل حلفائها السابقين: هي التي سلّحت ودرّبت حركة «أمل»، وعندما اشتدّ ساعد الأخيرة رمتها في حرب المخيّمات الوحشيّة التي لم يُكتب تاريخها بعد. وأكثر مَن تبرّأ من المقاومة الفلسطينيّة وأنكرها قبل صياح الديك وبعده هم قادة ميليشيات «الحركة الوطنيّة» الذين يدينون بوجودهم وزعاماتهم للمقاومة الفلسطينيّة. خذ حالة وليد جنبلاط، الذي بشّرَ بعد ساعات فقط من اغتيال الحريري بصلح بين شارون ومحمود عبّاس. هذا الذي أنقذته المقاومة الفلسطينيّة من هزائم عسكريّة بات يصف الذين أنقذوه وساندوه (خصوصاً في «الجبهة الشعبيّة ـــ القيادة العامّة») بـ«الإرهابيّين». ماذا كانت زعامة جنبلاط عندما ورثها من أبيه؟ وهل كان له أن يعزّز نفوذه ويقوّي زعامته الطائفيّة من دون دعم مباشر (بكل الأنواع) من المقاومة الفلسطينيّة؟
قادة «الحركة الوطنيّة» الأحياء — أو الأكثريّة الساحقة منهم — لماذا أصابهم بالبكم؟ لماذا هم يخافون استذكار دور «الحركة الوطنيّة» ونضالاتها ولا يتركون مناسبة إلا ويتنكّرون لماضيهم؟ صحيح، لعب رفيق الحريري دوراً كبيراً في الاستحواذ بالمال (إلا إذا كنت مقتنعاً بأن الحريري جذبهم بسحر الشخصيّة وطراوة اللسان) على قطاع هائل من المثقّفين والفنّانين والكتّاب، والكثير منهم أتى من خلفيّة الحركة الوطنيّة والمقاومة الفلسطينيّة. الانتقال إلى مضرب الحريري يتطلّب تحوّلاً جذريّاً في الاقتناع السياسيّ والخطاب. وقد ابتكر هؤلاء أساليب متعدّدة في تسويغ النقلة النوعيّة والكميّة: فمن قائل إنه لا يسار ولا يمين بعد اليوم، وإن الحريري ومحمد بن سلمان يسارٌ كما أن حنا غريب بات يمينيّاً، إلى قائل إننا في عصر متغيّر وإن حل المشاكل والقضاء على الظلم الرأسمالي لا يحتاج إلى اليسار بل يمكن للدولة الرأسماليّة عينها أن تحلّ كل هذه المشاكل (هذه توليفة عبد الكريم مرّوة، مثلاً، وهو انتقل من اليسار الستاليني المتحجّر الموالي بخنوع لموسكو — بالرغم من مزاعم عن ثورة أحدثها الحزب في عام ١٩٦٨ في الديموقراطيّة وفي الاستقلال عن موسكو فيما كان موظّفون في السفارة السوفياتيّة يسيّرون قادة الأحزاب الشيوعيّة في المشرق العربي — إلى اليمين السعودي)، إلى قائل إن رفيق الحريري جسّدَ في زمانه تجليّاً لأبي ذرّ الغفاري وماركس معاً، وإن مصلحة الطبقة العمّاليّة تقتضي الفناء فيه (كما يفنى الصوفي في الله) — وقد أبدع في التوليفة الأخيرة محمد كشلي الذي عمل مستشاراً للحريري في شؤون ضرب الحركة العماليّة وقصم ظهرها.
مقاتلو «الحركة الوطنيّة» منعوا إقامة كانتونات طائفيّة كما هم منعوا إقامة جمهوريّة إسرائيليّة في لبنان


قادة «الحركة الوطنيّة» اللبنانيّة يراقبون إهانة نضالات الآلاف من الأحياء والشهداء الذين دافعوا عن لبنان بوجه هجمة إسرائيليّة وهم لا يحرّكون ساكناً. لا، معظمهم أصبح منضوياً إلى المشروع اليميني المعادي لكل المقاومات. وبلغت الوقاحة بالبعض من القادة أن يقدّم اعتذاره عن دوره في الماضي وعن فضائل الحركة. هؤلاء الخانعون الذين راكموا الثروات من التجارة بالقضيّة الفلسطينيّة انسحبوا منها بمجرّد أن سحب ياسر عرفات دولاراته من بيروت في صيف ١٩٨٢. بعض هؤلاء لم يذكر فلسطين بمجرّد أن غادرت ثروات «منظمّة التحرير» لبنان. لا، الأنكى من ذلك أن البعض من قادة الحركة الوطنيّة اللبنانيّة سرق ممتلكات «لمنظمّة التحرير» في لبنان. هذا فصل لم تُروَ قصّته بعد. أعدّت «منظمّة التحرير» نفسها للخروج القسري من لبنان في صيف ١٩٨٢، فقامت بتسجيل مصالح تجاريّة وعقارات باسم حلفاء لبنانيّين لها، لكنّ هؤلاء رفضوا، بعد الطلب المتكرِّر إليهم، إرجاع ما حفظوه كأمانة للمنظمّة. وبعض هؤلاء الأثرياء من التجارة بالثورة الفلسطينيّة أصبح نائباً ووزيراً وزعيماً مهمّاً يقصده المراجعون. عندما تمرّون قرب منازلهم المنيفة، تذكّروا أن تلك الأملاك مسروقة من «منظمّة التحرير» الفلسطينيّة.
للحركة الوطنيّة الفلسطينيّة والمقاومة الفلسطينيّة شهداء في كل أنحاء لبنان. لم يعد يُذكر من نضالات التحالف اللبناني ــ الفلسطيني الوطني إلا «مجزرة» الدامور، في إشارة إلى معركة الدامور التي سقط فيها أبرياء وارتُكبت فيها جرائم وسرق بعض الأهالي في بيروت بساتين الموز. هناك من يذكر الدامور كل يوم، وهناك من لخّص كل تضحيات المقاومة الفلسطينيّة في لبنان بمعركة الدامور، كأنها كانت الجبهة الوحيدة في لبنان. لكن ليس هناك من يذكر التهجير القسري الطائفي والسياسي والمجازر على أيدي الكتائب والقوّات في حارة الغوارنة والكرنتينا وتل الزعتر وجسر الباشا والنبعة وضبيّة وحي بيضون. نعلم مَن أراد محو السجلّ الإجرامي للانعزاليّين، لكن نعلم أيضاً أن قادة الحركة الوطنيّة — أو بعضهم كي لا نعمّم — أسهموا في هذه المَحو.
وعندما تحتفل القوّات اللبنانيّة كل عام بشهدائها، فهي تحتفل بمجرمي حرب. هي تحتفل بالقتَلَة الطائفيّين الذين ابتكروا أسلوب الخطف على الهويّة والذين كانوا يقطعون، من باب التسلية، الأعضاء التناسليّة للمسلمين والفلسطينيّين ويجمعونها في براميل قمامة. هؤلاء الذين ابتكروا سحل ضحاياهم وجرّهم في سيّارات بعد ارتكاب المجازر (للأسف، قام بعض الفصائل في الحركة الوطنيّة بالسحل، ومنها ميلشيا الاتحاد الاشتراكي العربي، الموالية للنظام الليبي في معركة الفنادق). شهداء «القوّات» هم الذين ابتدعوا جريمة القصف العشوائي على الأحياء السكنيّة، وهم الذين كانوا أوّل من نقل تجربة الصهاينة — مُرشديهم ومعلّميهم ومدرّبيهم ومموّليهم — في التطهير العرقي والطائفي: ليس هناك من قادة «الحركة الوطنيّة» الصامتين الغارقين في عدّ نقودهم ومراكمة ثرواتهم مَن يذكّر بطرد الشيعة والفلسطينيّين والسنّة من أحياء بيروت الشرقيّة. لا، وبلغ احتكار الخطاب الانعزالي لسرديّة الحرب الأهليّة أن هؤلاء المجرمين، أو من بقي حيّاً منهم أو مَن يسير على خطى دمائهم، باتوا يفرضون مقولتهم أن «مقاومتهم» حمت لبنان من مؤامرة التوطين. الذين يقولون ذلك عن شعب فلسطين لم يعرفوا الشعب الفلسطيني ولم يتعرّفوا على رجاله ونسائه. هؤلاء كانوا جيراناً للمخيّمات الفلسطينيّة في بيروت الشرقيّة، لكنهم لم يدخلوها قطّ، إلا يوم ارتكابهم للمجازر فيها. تستطيع أن تقول الكثير (من منطق يساري معارض للتسوية مع إسرائيل) عن ياسر عرفات، وتستطيع أن تنتقد سوء إدارته لـ«منظمّة التحرير» ولساحة الصراع مع إسرائيل في لبنان، لكنّ أحداً لا يمكن أن يتّهم عرفات بأنه سعى للتوطين في لبنان. لو أن عرفات سعى يوماً للتوطين، لما حاربته الإدارة الأميركيّة، ولما حارب العدوّ الإسرائيلي القوّات الفلسطينيّة في لبنان. لو أن عرفات قبل بالتوطين، لهطلت عليه مليارات غربيّة (وخليجيّة بإمرة أميركيّة). لم يقبل عرفات بالتوطين، وهذا كان سبب صراع الغرب وإسرائيل ضدّه في لبنان، أي إن السرديّة الانعزاليّة عن الحرب كانت — ولا تزال — مبنيّة على أكاذيب وأباطيل.
وينسى الناس أن المتصارعين في لبنان تمثّلوا في حوارات على مرّ سنوات الحرب: كانت هناك «هيئة الحوار الوطني» في عام ١٩٧٥ (وتمثّلت فيها «الحركة الوطنيّة» كما تمثّلت فيها القوى الانعزاليّة، وكانت الهيئة من إعداد عبد الحليم خدّام — هذا الذي يستحقّ المحاكمة على هندسته لزمن الحرب في لبنان)، وكان هناك طاولات الحوار في جنيف ولوزان في ١٩٨٣ و١٩٨٤. والخلاف بين المتصارعين لم يكن يومها على التوطين وفرضية التوطين، وقد خرجت قوّات «منظمّة التحرير» من لبنان في عام ١٩٨٢، والحرب استمرّت بعدها لسنوات وزاد استعارها وضراوتها. ولم تغز القوّات اللبنانيّة شرق صيدا أو جبل لبنان لمحاربة التوطين. إن الصراع الأساسي كان بين لبنانيّين حول النظام السياسي والسياسة الخارجيّة، ولجان الحوار تركّزت حول سبل إصلاح النظام أو المحافظة عليه — كما كانت أجندة القوى الانعزاليّة في لبنان. كان صراخهم حول هويّة لبنان وحول صلاحيّات رئيس الجمهوريّة وحول سياسات لبنان الخارجيّة والاقتصاديّة. لم يكن لأي من هذا علاقة بمحاربة التوطين المزعوم (وقد نال شعار محاربة التوطين الباطل مصداقيّة أكثر عندما اعتنقته قوى شيعيّة طائفيّة رجعيّة، من كامل الأسعد إلى محمد مهدي شمس الدين وعبد الأمير قبلان وحركة «أمل» في مراحل أواخر السبعينيّات وأوائل التسعينيّات). حمل الشعب الفلسطيني السلاح في لبنان تحديداً لمحاربة مشروع التوطين وللعمل على عودته إلى وطنه الأم، أي إن كل فرضيّة «القوّات» عن الحرب مزوّرة. مقاتلو القوّات ماتوا وهم يقتلون مسلمين لأنهم مسلمين، أو مسيحيّين لأنهم مسيحيّين لا يماشونهم في الانعزاليّة والصهيونيّة، أو دروزاً بسبب كراهيتهم العقائديّة (أي الانعزاليّين) لهم، أو هم قتلوا مَن هم في اليسار لأنهم — أي القواتيّين — يمينيّون رجعيّون تلقّوا الدعم والتمويل من الشرق والغرب لحروبهم ضد اليسار. لم تكن حروب هؤلاء ضد توطين مزعوم.
مقابل الاحتفال السنوي الطقوسي بعيد مجرمي حرب «القوّات اللبنانيّة»، يسود صمت مطبق في مناطق لبنان حول شهداء لنا في «الحركة الوطنيّة اللبنانيّة» والمقاومة الفلسطينيّة. وفيما كان قادة «الحركة الوطنيّة» يكنزون الذهب والفضّة من مصادر متعدّدة (خصوصاً ليبيا التي كانت تمنح هباتها للتنظيمات وللأمناء العامين، الذين كانوا يتلقّون مبلغاً شهريّاً مقطوعاً بعشرات الآلاف من الدولارات) كان مقاتلو «الحركة الوطنيّة» والمقاومة الفلسطينيّة منتشرين في جنوب لبنان يستعدّون للتصدّي لعدوان إسرائيل. وكان هؤلاء يفتقرون إلى الإعداد والتخطيط الذي يتّصف به عمل المقاومة اليوم، لكن هذه مسؤوليّة القيادة لا مسؤوليّة العناصر. هؤلاء المقاتلون هم الذين منعوا قوّات الكتائب والأحرار وحرّاس الأرز والتنظيم من غزو بيروت الغربيّة في ١٩٧٦، عندما كانت الخطة تهدف إلى الاستيلاء على المصرف المركزي وفرض سيطرة الكتائب على كل محيط راس بيروت. «القوّات المشتركة» هي التي جمّدت عمل الجيش الفئوي الانعزالي المتعاون مع إسرائيل يومها، وهي التي ولّدت التجربة الخلاّقة في «جيش لبنان العربي». و«جيش لبنان العربي» لم يكن إلا عصياناً من مؤيّدي المقاومة الفلسطينيّة والحركة الوطنيّة في داخل الجيش الخاضع لقيادة انعزاليّة صهيونيّة طائفيّة في حينه.
مقاتلو «الحركة الوطنيّة»، قبل أن تتفرّق بعد رحيل سندها المقاومة الفلسطينيّة في ١٩٨٢، كانوا يحاربون تقسيم لبنان، ويحاربون الفرز الطائفي في لبنان، ويحاربون أيضاً سيطرة النظام السوري في عام ١٩٧٦ (عندما استنجدت «الكتائب» بالجيش السوري)، وضد الاحتلال الإسرائيلي الذي رعى الانعزاليّين طيلة سنوات الحرب. صحيح أن أحزاباً طائفيّة اخترقت صفوف الحركة الوطنيّة، وصحيح أيضاً أن ممارسات قبيحة طبعت سلوك عدد من التنظيمات فيها (خصوصاً تلك التي كانت تحظى بدعم النظام السوري وياسر عرفات والنظام العراقي والليبي)، لكن المنهج العام للحركة وعناصر جذبها كان رفض الطائفيّة في لبنان. ينسى البعض أن الحركة الوطنيّة قامت بتشكيل حراسة لحماية الجالية اليهوديّة في لبنان حتى ١٩٨٢، ولم تتعرّض الجالية لمخاطر وتهديدات إلاّ بعد رحيل المقاومة الفلسطينيّة عن لبنان. مقاتلو «الحركة الوطنيّة» منعوا إقامة كانتونات طائفيّة في لبنان، كما هم منعوا إقامة جمهوريّة إسرائيليّة في لبنان، إن بشخص بشير الجميّل أو بشخص أخيه. ثم إن مقاتلي «الحركة الوطنيّة» والمقاومة الفلسطينيّة قدّموا تجربة فريدة من التلاحم القومي والأممي النادر: كانت المقاومة تحمي اللبنانيّين كما أن اللبنانيّين كانوا يحمون المقاومة، كما حموها في حرب النظام اللبناني ضد المخيّمات في ١٩٧٣، عندما لقّنوا الجيش الفئوي الانعزالي درساً بليغاً.
قادة «الحركة الوطنيّة» المتقاعدون المنضوون في صفوف المصارف والعقارات وحاشيات الأمراء والملوك والشيوخ وزعماء الطوائف منصرفون عن تذكّر شهداء الحركة الذين رفعوهم بدمائهم حيث هم. هؤلاء الذين تاجروا بحياتهم عندما أجّروا خدمات ميليشياتهم للنظام الليبي في حربه في تشاد. قادة «الحركة الوطنيّة» لا يتذكّرونها إلا في معرض نبذ شعاراتها وأهدافها عندما يحاولون المزايدة على «حزب الله» الذي قدّم تجربة مقاومة ضد إسرائيل لا تحتمل المزايدة من أحد — لا من الجيوش العربيّة ولا من تجربة المقاومة والحركة الوطنيّة في سنوات الحرب. أصبح هؤلاء الوطنيّون المتقاعدون — وبعضهم لم تطأ قدماه أرض الجنوب — واعظين في شأن مقاومة إسرائيل، وفيهم من كان عرّابَ اتفاقيّات أوسلو المشينة.
لم تكن «الحركة الوطنيّة» تجربة فذّة. كانت معرض تنازع بين القيادة الطائفيّة لكمال جنبلاط وسيطرة ياسر عرفات بسقفه التسووي الذي طبع صراعه مع إسرائيل ومع أذيالها في لبنان، كما أن الأنظمة العربيّة كانت تفتح لها دكاكين في داخل الحركة. و«الحركة الوطنيّة» كانت إصلاحيّة لم تحتمل الضرورة الثوريّة التي كان يمكن أن تقضي مبكراً على مشروع «الكتائب» في بداية الحرب. كما أن الحركة لم تكن موحّدة، وثبتَ أن رئيسها كان أوّل من أنكرها بمجرّد أن غزت إسرائيل لبنان وحلّ شمعون بيريز ضيفاً عليه. لكن على الذين يقطنون القصور، والذين شيّدوا لأنفسهم منازل فاخرة في بيروت وقلاعاً لهم في القرى كي يبهروا فيها أقاربهم وأزلامهم، أن يتذكّروا أنه لولا شهداء «الحركة الوطنيّة» لما حلّت الثروات عليهم. واحدٌ ترك النضال كي يدير فندقاً في فرنسا، وآخر يقبل أن يكون فرداً في حاشية صاحب مليارات، وآخر يدور على شاشات النظام السعودي كي يذمّ اليسار ويختلق لنفسه تاريخاً يتناقض مع كل كلمة كتبها.
لا يمكن أن تعتمد على قادة «الحركة الوطنيّة» كي يكرّموا شهداء «الحركة الوطنيّة». هؤلاء تجّار يتعاملون بالربح والخسارة، والمقايضة بما غلا ثمنه أو رخص. هؤلاء يفرحون لو أن مجرمي حرب الطرف الانعزالي حنَّوا عليهم بإيماءة أو التفاتة، أو لو أنهم عقدوا شال ثورة بوش حول أعناقهم. لكن نحن الذين سقط لنا رفاق أعزّاء في حروب ضدّ إسرائيل أو ضد ميليشياتها في لبنان، ماذا نحن فاعلون لتكريم شهدائنا؟ لماذا لا نتفق، نحن الذين لم نتنكّر لتاريخ «الحركة الوطنيّة» والمقاومة الفلسطينيّة، على تكريس يوم في السنة على الأقل، لا لتكريم الشهداء فقط بل للدفع بسيرة مغايرة عن الحرب، غير تلك التي قدّمها محسن إبراهيم في اعتذاره الشهير عندما قدّم صك براءة بحق مجرمي الحرب الذين قتلوا رفاقنا ومثّلوا بجثث الأبرياء؟ لماذا لا نقيم نصباً للشهداء المجهولين ـــ المعروفين في «الحركة الوطنيّة» والمقاومة الفلسطينيّة؟ ما الذي يمنع؟ أليس هذا واجبٌ صغير منا لعائلات رفاقنا الشهداء؟ إذا كان لـ«القوّات» يوم واحد في السنة لتكريم مجرميهم، فلتكن كل أيام السنة تكريماً منّا للشهداء الذين، بحقّ، دافعوا عن وطنَيْن، لبنان وفلسطين.

* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)