المفاجآت التي أحدثتها الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية المبكرة في تونس يمكن أن نأخذها في اتجاه المؤشرات التي تدلّ على فشل وسقوط الطبقة السياسية والدلائل على ذلك ساطعة. فسقوط مرشح حركة النهضة الشيخ عبد الفتاح مورو بما له من رصيد شخصي مميّز، هو أحد الدلائل على أن نزع الثقة عن الطبقة السياسية لم يميّز بين أطراف السلطة الحاكمة أثناء حكم «الترويكا» ورئاسة منصف المرزوقي وبعده أثناء حكم النهضة ونداء تونس. فجميع أطراف الحكم مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد وبعض الوزراء المترشحين، تلقوا صفعة لم تكن متوقعة بهذا الحجم بناء على معطيات مسبقة بشأن توزّع القوى الانتخابية ولعبة تقاسم الأصوات. لكن هذه الصفعة لم تقتصر على أطراف السلطة وحدها، بل شملت أيضاً أحزاب وتيارات المعارضة السياسية التي تخوض صراعاً تقليدياً على السلطة بين اليمين واليسار حيث وقع مرشّح «الجبهة الشعبية» حمّة الهمامي إلى أدنى مستوى منذ الثورة بنحو 0,7%، بينما حصد الزميل الإعلامي اليساري الصافي سعيد من خارج مجلس النواب والحكومة والطبقة السياسية على تأييد كبير في الانتخابات يناهز أصوات رئيس الحكومة يوسف الشاهد من دون إمكانية لوجستية تُذكر لخوض الرئاسيات.نجاح المتأهل الثاني للجولة المقبلة نبيل القروي لا ينفي القاعدة التي أثبتتها الجولة الأولى بشأن سقوط الطبقة السياسية سواء كانت في السلطة أم في المعارضة، بل يؤكدها. فهو ممثل طبقة المقاولين في حزب «نداء تونس» برئاسة الباجي قايد السبسي الذي كان يجمع «ما هب ودبّ» من جماعات النظام القديم ــ الجديد والذئاب الجدد من المتغوّلين على المال والأعمال الفاسدة. لكن الانتخابات لم ترفعه إلى مصاف الطبقة السياسية بالمعنى السياسي ــ الاقتصادي ــ الاجتماعي المعروف في تونس، بل كشفت تضخّم البؤس في نظام «المرحلة الانتقالية» بعد الثورة الذي استغلّه القروي بمهارة عالية لشراء اقتراع شريحة واسعة من المهمشين الجوعى الذين فقدوا الأمل من الطبقة السياسية في النظام القديم ــ الجديد. فالقروي الموصوف بأنه «إعلامي ورجل أعمال» هو تلميذ بيرلسكوني المعروف بالحوت الإيطالي وبمعيته أسس قناة «نسمة» الترفيهية من أجل التغطية على موقعه المالي في السمسرة «كرجل تسويق» في شركات مايكروسوفت وكولغيتين وبالموليوت هينكل ...إلخ، لكنه عزّز مكانته «الخيرية» بين الجائعين البؤساء عبر «جمعية خليل تونس» في توزيع القوت المسموم على شرائح المتسوّلين الذين سحقهم النظام القديم ــ الجديد ولم يحصدوا من ثورتهم على نظام ابن علي غير تحطيم أسباب المعاش والتسوّل من أجل حفظ البقاء.

«رضا لينين» وتغيير النظام لا تغيير أشكال السلطة
ما يحثّ على البحث والتفكير في نتائج الانتخابات التونسية ليس فشل وسقوط الطبقة السياسية الحاكمة والمعارضة فحسب، فهذا شأن السوسيولوجيين والمختصين بلعبة السلطة. إنما الأهم من سقوط الطبقة السياسية الحاكمة والمعارضة هو أن سقوطها جاء نتيجة رؤاها لما تظنّه تغيير النظام عبر دمقرطة السلطة، بينما تتنافس فيما بينها على السلطة في تغيير أشكال الحكم لإدارة النظام القديم بوسائل ديمقراطية. فالطبقة السياسية في تونس لا تشذّ في هذا الأمر عما هو سائد منذ نهاية ما كان متعارفاً عليه قبل عدة عقود، بأن الثورة الشعبية تهدف إلى تغيير المنظومة الناظمة لمصالح فئات نافذة في الاقتصاد الريعي والاستهلاكي نحو منظومة ناظمة لمصالح وحقوق الفئات والشرائح الاجتماعية الأخرى. وهو أمر مرهون بتغيير أرضية نظام الإنتاج والملكية والعمل وتوزيع الثروة وكذلك المشاركة في القرار السياسي وليس المشاركة في اختيار الممثلين لمحاسبتهم في صناديق الاقتراع.
الأهم من سقوط الطبقة السياسية الحاكمة والمعارضة هو أن سقوطها جاء نتيجة رؤاها لما تظنّه تغيير النظام عبر دمقرطة السلطة بينما تتنافس فيما بينها على السلطة


هذا هو موضوع الخلاف السياسي الذي نشب في أعقاب الثورة لتغيير نظام بن علي بين قطبي اليسار في تونس الشهيد شكري بلعيد من جهة ورضا شهاب المكي الملقب «رضا لينين» من جهة أخرى. فالثائر اليساري رضا الذي درس في جامعة الحقوق والعلوم السياسية وقت الانتفاضة على حكم بورقيبة، أسّس مع عبد المجيد بن قيّاس وسنيّة الشريطي وآخرين «مجموعة تونس الحرّة» بعد الثورة واختلفوا في الرؤية مع يسار شكري بلعيد وحمّة الهمامي و«الحركة الشعبية» بقيادة الشهيد محمد البراهمي، بشأن إشكالية تغيير النظام إذا كانت تتطلّب تغيير أرضية المنظومة الناظمة لمصالح الفئات المتنفّذة أو تتطلّب العمل على دمقرطة الحكم ومؤسسات السلطة من أجل تغيير النظام حين يصل اليسار إلى السلطة ويقوم بتلبية المطالب الشعبية والحقوق التي لا يزال اليسار والحركة القومية يدعوان إليها.
مجموعة «تونس الحرّة» بقيادة رضا شهاب المكي الذي يقول: «نحن مجموعة متضامنة متطوّعة لا نجاح فيها لفرد من دون الجماعة»، تأثرت بنشاطات وأدبيات «حركة العولمة البديلة» التي عمّت أوروبا وأميركا الشمالية وكندا وأميركا الجنوبية أكثر من عشر سنوات في مناهضة العولمة النيوليبرالية (1999 ــ 2010) من أجل بدائل اقتصادية وسياسية وبيئية مختلفة عن المنظومة الرأسمالية ومن أجل عالم تضامني بين الشعوب لوقف الحروب وسيطرة السوق على دور الدولة في «حرية التجارة والاستثمار» ومصالح الشركات متعدّدة الجنسية.... إلخ. وفي سياق الحوار بين هذه القوى في المنتديات الاجتماعية ومنتدى «بورتو إليغري» العالمي، استخلصت «تونس الحرّة» ما تسمّيه «الحوكمة التشاركية» وهي تقتضي على حد تعبيرها «توسيع دائرة الإرادة الشعبية ومشاركتها في إدارة الشأن العام ومراقبة مختلف السلطات التشريعية والتنفيذية والإدارية....»، وهو ما يتبناه قيس سعيّد في إنشاء 265 مجلساً محليّاً يتم انتخاب ممثليه «على قاعدة برنامج لتنمية هذه المحليات والانطلاق من المحلّي نحو المركز على غرار الثورة». فهذه الرؤية تنطلق من بدائل للمنظومة النيوليبرالية القائمة في تونس وفي كل مكان يمكن أن تضعها «الحوكمة التشاركية» موضع التنفيذ في خدمة مصالح وحقوق الإرادة الشعبية في الدواخل والأرياف والمدن والقرى. وفي إطار هذه الرؤية ترى مجموعة «تونس الحرّة» ضرورة البحث عن «تصوّر جديد لمفهوم الدولة والاقتصاد» وأن قوى اليسار الاجتماعي والسياسي هي المؤهلة لاستنباط البدائل في هذه الشؤون الفكرية ــ العملية إذا انتقلت من الدوغمائيات المجرّدة إلى مشروع سياسي ــ مجتمعي «استناداً إلى قانون التاريخ» بحسب قولها.

قيس سعيّد على خطى «لينين تونس»؟
المرشح قيس سعيّد لا ينتمي إلى «مجموعة تونس الحرّة» لكن المجموعة اختارت تبنّيه مبكراً بحكم الصلة القريبة في الحقل القانوني والدستوري، وخاضت حملته في تجميع الفتات المالي لطلب الترشّح وفي الانتقال معه إلى الصلة المباشرة مع الناخبين في الأرياف والولايات النائية للدعوة إلى تغيير أرضية المنظومة الناظمة لمصالح الفئات النافذة والطبقة السياسية وعدم الاكتفاء بالعمل لدمقرطة الحكم والسلطة. وفي المقابل يلتقي قيس سعيّد في الخطوط العريضة مع رؤية «رضا لينين» والمجموعة في نقد ما يسمى «الانتقال الديموقراطي» فهو يقول: «إنه استمرار المنظومة السابقة تحت غطاء جديد»، بل يرى ما تراه المجموعة والكثير من الحركات الاحتجاجية في فرنسا وبعض البلدان الأوروبية «بأن الديمقراطية البرلمانية قد أفلست ونحن اليوم بحاجة إلى مفاهيم جديدة». وفي هذا الموضوع يقول قيس: «الشعوب أصبحت تتحرّك خارج الأطر التقليدية ولم تعد تحتاج إلى برامج بل إلى أدوات تمكّنها من التعبير عن إرادتها، كما أثبتت حركة السترات الصفر في فرنسا». وفي موضوع اتّهامه بأنه إسلامي محافظ معادٍ لحقوق المساواة بين الجنسين في الإرث وغيره، فهو ينطلق من زاوية شاملة تعتقد أن الشعوب تقرّ دساتيرها التي تعيشها بناء على ثقافاتها وأحوال المعاش ولا تحتاج إلى دستور بناء على قيَم تراها الأقلية المجتمعية قيَماً فضلى «فقضاء مستقل خير من ألف دستور» بحسب تعبيره. فهو الخبير الدستوري العليم بمدارس الدستور وتاريخه لا يتبنّى مدرسة مونتسكيو وروّاد «الديمقراطية الأميركية» في رفع الدستور الحديث إلى مصاف كتاب مقدّس لدين جديد، بل يتبنّى مدرسة هيغل الذي يقول في هذا الشأن «الدستور الحقيقي هو الموجود قبل كتابة الدساتير الحديثة. فكل شعب يملك دائماً الدستور المتوافق معه والمتلائم مع ظروفه».

هل تقدّم الإرادة الشعبية بدائل لتغيير النظام؟
الاعتماد على «الحوكمة التشاركية» والإرادة الشعبية قد يكون بديلاً لإفلاس الديمقراطية البرلمانية وفشل المراهنة على دمقرطة السلطة والحكم من أجل تغيير المنظومة الناظمة لمصالح الفئات النافذة المتحكمة بسبُل المعاش وأحوال العمران. لكن البديل لمعضلة إفلاس الديموقراطية البرلمانية ليس كبدائل المعضلات الأخرى الأكثر تعقيداً وصعوبة. فقيس سعيّد يعتقد أن الشعوب لا تحتاج إلى برامج ومشاريع بل إلى أدوات تمكّنها من التعبير عن إرادتها. ولا ريب أنه اعتقاد يعبّر عن استخفاف غير مبرّر بالصراع الشرس بين القوى الاجتماعية من أجل مصالحها وطموحاتها المتناقضة التي تعترض عملية تغيير النظام. فإذا كان المترشح «لا يملك غير أفكار يعرضها على الشعب» فهل تملك المجالس المحلية غير أفكار محلّية تعرضها لصياغتها في برنامج وطني أعمّ من الحسابات المحلية؟ والحقيقة أن استخفاف قيس سعيّد بالمخاطر الحقيقية أبعد من هذه الفكرة. فهو يعتقد على سبيل المثال «أن الاستعمار لا يتسلل إلى الدول العربية عبر الحدود بل عبر عملائه في الداخل»، بينما يتسلل الاستعمار الجديد في المرحلة النيوليبرالية عبر نموذجه الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي.... فحركة «السترات الصفر» التي اجتاحت كل فرنسا، عجزت عن تغيير بعض مظاهر النموذج وافتقدت تعميم الانتفاضة إلى الدول الأوروبية الأخرى لكي يتسنّى لها تحقيق مطالب جزئية. وبناء عليه قد تحتاج الإرادة الشعبية لتغيير النظام في تونس إلى برامج ومشاريع ورؤى لإرادة شعبية في المغرب العربي بأسره وربما أوسع في المحيط الإقليمي.

*باحث لبناني