في 1 أيلول 1920 أعلن الجنرال هنري غورو، المفوّض السامي الفرنسي، الحاكم الفعلي للبنان وسوريا يومذاك، محاطاً بممثّلي طوائف لبنان وإقطاعاته، ومن على درج «قصر الصنوبر»، مقرّه العام، قيام «دولة لبنان الكبير». وفي 1 أيلول 2019، وصل إلى لبنان المفوض السامي الجديد والناظر العام، المكلّف بمؤتمر «سيدر للدّين»، بيار دوكان، محمّلاً بتعليمات إضافية وبأدوات كشف الأعطال (سكانر)، لمعرفة سبب تأخر الدولة اللبنانية عن تأمين شروط ذلك المؤتمر، ولاستكشاف أنواع الخطط الموضوعة لذلك وكيفية تطبيقها. صال وجال وتكلم واجتمع وصرّح وأثنى ونقد...، مع تلك الضحكة الاستعلائية الموروثة من أجداده، وهو يتنقل من مقر إلى آخر. هي مئة عام بالتمام والكمال مرّت على الحدث الأول، مع فارق ليس بسيطاً؛ فدولة الانتداب آنذاك كانت إحدى قيادات العالم، لا بل كانت الطرف الآخر في «الثنائية» التي حكمت العالم بعد الحرب العالمية الأولى وصولاً إلى الثانية. أمّا اليوم، فنكاد لا نجد أثراً يُعتدّ به لسياسة فرنسيّة فاعلة وواضحة على الصعيد الدولي، لا بل أحياناً نجدها تتصدّى لأدوار وظيفية في خدمة ذلك «اليانكي» المتغطرس والمتحدّر من أصول أوروبية، لا يخفيها شكله. هو قرن من الزمان مضى، منذ أن نطق ذلك «المُنتَدِب» بقراره مزهواً ومحاطاً بعمائم وتيجان وربطات عنق البورجوازيات المحلية «المتمدّنة» والمنتقلة، بفعل التبعية السياسية، من «الطربوش العثماني» إلى الوافدين - المستعمرين الجدد. جاء ذلك القرار-الإعلان، لتثبيت اتفاقية «سايكس – بيكو» بكل مندرجاتها؛ إسقاط الدولة-الأمة، التي تمثلت بالسلطنة المنهارة بعد أكثر من 450 عاماً على موقعة مرج دابق؛ وبالمناسبة، كان لأجداد اللبنانيين دور في تلك الموقعة، لكن، من فوق أعلى التلة المشرفة على المعركة، حينذاك انتظر الوفد اللبناني نتائج المعركة كي ينحاز إلى المنتصر، بغضّ النظر من سيكون، وهي للأسف عادة متأصلة، ولا تزال متوارثة حتى يومنا هذا.
لم يكن يدور في خلد المجتمعين آنذاك تحت فيء الصنوبر البيروتي، أنهم يصفقون لصفقة تقسيم بلادهم وتفتيتها، ولقيام دولة الوعد المشؤوم، ولبداية استعمار مستجد، أكثر تمدّناً وأكثر فاشية؛ مزوّداً بالسلاح والتكنولوجيا والخبرة، وعلى يد دولة ذلك الطاووس، المرتدي بزته العسكرية وبلغته الفرنسية، وهو يعلن ذلك «الكبير»، ويمنحه صفة الرعاية والوصاية والتعامل بالرفق معه، نظراً إلى هشاشة تركيبته، القائمة على تقسيم منطقة وبلاد كانت متداخلة المصالح والأراضي والعائلات، ليُعلن كياناً مركباً هجيناً من طوائف ومذاهب ووظائف إقطاعية وتوزيع طبقي في تركيبة حكمه. لقد صفّق الحضور «المنوّع والمدروس» لذلك الإعلان، وقفلوا راجعين «منصورين» بدولة مستجدّة اسمها لبنان وبلقب «الكبير»، مثلهم في ذلك مثل أجدادهم، ورثة مرج دابق، عندما عادوا منصورين - لكن ليس بسيوفهم - وبإقطاع محدّد اسمه «جبل لبنان» وبلقب «سلطان البر». فهل هي عادة متوارثة في تلك التركيبة الحاكمة، في هذه البقعة من الأرض، بأن تنتصر دوماً بالغير، وتُمنح لها العطايا والهدايا والألقاب، دونما أدنى سؤال منها عن السبب والأثمان التي ستُدفع؟
إن الإجابة على هذا السؤال لا تتطلّب عناء تفكير، فهي بطبيعتها، تلقائية: «سايكس بيكو»، تلك المعاهدة المشؤومة، لم تكن تجمع كلّ أطرافها، وبالتحديد هؤلاء، من كان سيقع عليهم فعل الفعل؛ لقد كانت بين اثنين والشيطان ثالثهما، لتقسيم البلاد العربية، إرث الرجل المريض الذي رحل عن الدنيا، وها هم ورثته، بالوظيفة، قرّروا تقسيم البلاد العربية وفق حسبة واضحة وحدود مرسومة لمصلحة قوّتين إمبرياليتين انتصرتا في حرب عالمية. كانوا قد وعدوا شتات اليهود بلمّ شملهم، لقاء أموال دفعتها وكالاتهم المنتشرة في أربع جهات الأرض، بكيان مصطنع فصّلوه على المقاس. وأقاموا في لبنان ما أسموه «دولة»، لكن من خلال تجميع مناطق الطوائف الموجودة إلى أجزاء سُلخت من أرض، كانت موصولة بأخرى في منطقة جغرافية متشابهة ومختلطة، وأعني بها بلاد الشام. هكذا قرر من انتصر على الآخر في حرب كانت، بالأساس، «تنفيسة» لأزمة الرأسمالية العالمية المستجدة والمتخمة بفائض الإنتاج، وبحاجة إلى مواد أولية وأسواق إضافية، فما كان منها إلّا بدعة الانتداب على دول وممالك، خرجت لتوها من تحت نير المحتل؛ هو بداية مشروع إمبريالي مستحدث وأنيق حطّ في منطقتنا ولمّا يغادر بعد. فهل كان المصفقون لذلك التأسيس على دراية بكل تلك التفاصيل؟ هل كانوا يعلمون بأن مجرد الإعلان عن قيام الكيانات كان، بحدّ ذاته، ضرباً لحلم تأسيس الدولة-الأمة، المناقضة في جوهرها لمنطقَي، الهيمنة التي مارستها السلطنة العثمانية، والانعزالية التي شكّلها إعلان تأسيس بعض الدول عبر الحدود المصطنعة والمرسومة بخطوط الطوائف والمذاهب والمصالح؟ وللمناسبة، ما كان يخطَّط لسوريا في تلك الفترة مثلاً كان عبارة عن خمسة كيانات بصفاء مذهبي، وهذا ما أسقطه الشعب السوري وبالقوة.
ما تبدّل هو القوى المهيمنة، أما الثابت فهو توارث السياسات والحكّام


نظنّ أن معرفة تلك الأمور لم تكن غائبة عن بال الكثيرين، ممن حضروا ذلك الاحتفال-الإعلان. لكن السؤال الأهم هو: ما الذي جنيناه نحن من ذلك؟ على الأرجح بأن المحصول الناتج منه، والذي نحتفل اليوم بمئوية قيامه، ليس مشجعاً؛ فتطور الأحداث التي توالت والحروب التي تتالت والانقسامات التي ما غابت والأزمات التي سكنت في كل تفاصيل الحياة ونواحيها، ستقدم الجواب وليس من ضرورة لتعدادها وتبيان نتائجها.
لكن ما سبب ذلك الإصرار الدائم عند النخب اللبنانية الحاكمة، لاستجلاب الوصايات؟ ولماذا لا تستطيع كل تلك المنظومات، التي توالت على حكم البلد، أن تجد الحلول للمشاكل المتراكمة والمتوارثة، وتؤسس لبلد قائم على مرتكزات واضحة وثابتة؟ إن مناسبة طرح تلك الأسئلة تعود إلى ما يجري اليوم في لبنان؛ فها هو دوكان يطلّ من نافذة التاريخ مرة جديدة كمفوض سامٍ مشرف على القروض. ألهذا الحدّ وصلت بنا الأمور؟ وذلك «اليانكي» الذي لا يزال يهدد ويتوعد ويحاصر ويمنع ويردع، فيما غالبية سلطاتنا المتنوعة والمتتالية تلهث لأداء فروض الواجب والطاعة له والوقوف عند خاطره لخطب وده، يتزاحمون على دعوات العشاء وشرب «الأنخاب» حتى ولو كانت من على مدمرة حربية، قريناتها، أو ربما هي، من قصفت بيروت ودمشق وبغداد وفلسطين...؟ وتلك الدول «الواعدة» بالمساعدة تضع الشروط التعجيزية، وتُصرّ يومياً على التذكير بما أعطته للحكومات المتعاقبة وتبتز فيه لتصل، في كثير من الأحيان، إلى حدّ الإذلال. ومن خانته الذاكرة فلنذكره بتسليم مفاتيح المدن لضباط المخابرات تقرّباً وتزلفاً، ثم نكرانهم لها حين مالت الرياح الدولية بالاتجاه المعاكس... هذا غيض من فيض تلك الوصايات المستجلبة طوعاً إلى هذا البلد وبطلب من «حكّامه».
أما آن أوان الاستقلال الناجز عن كل تلك الممارسات، والإقلاع عن تلك التجاوزات التي بلغت حدّ العمالة والعمى، والتي ستودي، في نهاية المطاف، بما تبقّى من بلد، نهشته ممارسات حكامه حتى النخاع الشوكي. هل يُعقل أن تبتسم وزيرة أو يضحك مسؤول مزهو بإطراء ذلك الموظف الدولي، ومن الدرجة العاشرة، وهو يثني على إنجاز غير موجود، وإن وُجد فهو أمر بديهي؟ ألهذا الدرك وصلت الأمور بمن تسلّم دفة إدارة البلد بسياساته واقتصاده وماليته؟ أبهذا المستوى من الخفة أصبحت إدارة الشأن العام؟ وزراء ونواب وأصحاب معالٍ ودولة «يحردون» من أجل تعيين موظف ويعطلون البلد ويدفعون به وبأبنائه إلى ما يقارب الحرب الأهلية، وتراهم، وهم يستقبلون موظفاً دولياً، يجلسون كالتلميذ الشاطر وضحكتهم شبراً! وكأن أبواب الجنة قد فُتحت أمامهم. لم تعد المسألة مسألة موقف أو سلوك، بل تتعداها إلى أبعد من ذلك؛ فهل كان في مخطط التقسيم الجغرافي للدول ثمة مواد لم يعلن عنها، وهي المتعلقة بطبيعة النظام وبأشخاصه ومواصفاتهم؟ ربما السؤال بهذه الطريقة يبدو غريباً بعض الشيء، لكن إذا نظرنا في أحداث تلك المئة العام، المنتهية في هذه الأيام، نجد تكاملاً ملحوظاً وبنيوياً في تركيبة تلك الأنظمة ورجالاتها. وهذا إن دلّ على شيء فعلى عطب أساسي في التكوين الهجين لتلك الدول، والقائم على وظائف وأدوار في خدمة مشروع غربي-إمبريالي استعماري قائم على نهب الشعوب وثرواتها وإقامة دول هجينة تابعة وأدوات في أيدي مشغليها، والذين هم عبارة عن كيانات مذهبية أو عائلية موروثة من زمن السلطنة، وغير قادرة، بطبيعتها ووظيفتها، على بناء دول مستقلة أو بنى اقتصادية منتجة. إن ما تبدّل هو القوى المهيمنة، أما الثابت فهو توارث السياسات والحكّام، وإن اختلفت الوجوه في بعض الأحيان، لكن الجوهر، والذي هو التبعية المفرطة لما تقرره مصالح الغرب، يبقى واحداً وراسخاً. وإن حدث، وجاء من حاول «التغميس» من خارج الصحن، وجهد لبناء أسس دولة، أو حاول تغيير الواقع باتجاه اقتصاد منتج وعلى طريق الاكتفاء الذاتي، فعليه يقع الحرم والحصار والحروب. وما تجارب مصر وسوريا والعراق ولبنان... في هذا المجال إلّا دليل ساطع على ذلك، وهكذا دواليك، وها نحن نختم تلك المئوية من الإعلان، والذي ستُقام له الأفراح وتعلّق له الميداليات، ولا نزال نصبّح على الكلام نفسه ونمسي على السلوك ذاته.
إن الفارق بين «دوكان» و«دكّان» هو حرف من حروف العلّة التي أصابت بلدنا، ماضياً وحاضراً. هذا في الشكل، أمّا في المضمون، فالمشتركات عديدة، وليس أهمها، التجارة أو الشطارة أو حتى «البلف». للدكان أصول في التعاطي، هي علاقة تبادلية تحكمها مصالح متعددة لأطرافها. وفي مطلق الأحوال الطرف الأضعف هو المواطن، لأنه في النهاية، هو من سيدفع الثمن، سواء أكان بخساً رخيصاً أو غالياً. أمّا في حالة دوكان، فالأمر متشابه حدّ الإفراط؛ فهو يسوّق وصفات فاشلة، لنظام سياسي واقتصادي فاشل، والنتيجة سيتحملها المواطن مثل الحالة الأولى. فشطارة الغرب مستمدّة من تبعية النظم الملحقة ومن سياساتها المعمول بها وليس من حالة تستند إلى الذكاء. لكن المعضلة تبقى مستمرة، إذ كيف يمكن لذلك الإمبريالي أن يستمر في «سلبطته» تلك لمدة قرن من الزمن؟ وكيف يمكن لتلك النظم الحاكمة التناسل، بالولادة أو بالسلوك، إلى حد «الانغراز» في أرضية الاستمرار في السلطة والحكم؟ لا أظن بأن ثمة جواباً عن تلك المعضلة إلّا القول بأن قوى التغيير الحقيقي لم تفعل ما يجب فعله حتى الآن. فهل من أذن تسمع وفم يرفع الصوت وعقل ينتج ويدين تعملان؟
* عضو المكتب السياسي ومسؤول العلاقات السياسية في الحزب الشيوعي اللبناني