لا شكّ في أنّ تونس تتصدّر جبهة تماسك مؤسسات الدولة في التزامها بالأحكام والعمليات الدستورية أثناء المرحلة الانتقالية التي تخوضها منذ 2011. وعلى أهمية هذا المسار، فهو مسار فتيّ لا يزال عالقاً بالشخصيات الكاريزماتية بدل البرامج. لقد تمّ قبول 26 طلب ترشح في الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها لعام 2019، وعلى الرغم من كثرة العدد، فإنّ المعركة الأساسية ستكون على الأرجح بين سرديّتين عاطفيّتين أو تيارين في الحكم والتنظيم: الأوّل هو سردية الولاء للرئيس المتوفى الباجي قايد السبسي وحزبه المحسوب على التقدمية والمشاعر البورقيبية، والثاني هو سردية «الإسلام السياسي المعتدل» والممثل في من يسانده حزب النّهضة، سواء علناً في مرشّحها الصوري، عبد الفتاح مورو، أو خفية في أحصنة طروادة التّي حضّرتها للعرس الانتخابي. بعد وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي، بدأت مؤسسات الدولة الإجراءات القانونيّة اللازمة لانتقال السلطة، حسب الفصل 84 من الدستور، على أنَّه «في حالة تقديم رئيس الجمهورية استقالته أو الوفاة أو العجز الدائم، فإِنّ على المحكمة الدستوريّة أن تجتمع فوراً، وتُقِرَّ الشغور النهائي في منصب رئيس الجمهوريّة، وتبلّغ ذلك إلى رئيس مجلس نوّاب الشعب الذي يتولّى فوراً مهام رئيس الجمهورية بصفة مؤقّتة لمدة أدناها خمسة وأربعين يوماً وأقصاها تسعين يوماً». وبالتالي، تمّ إعلان الانتخابات المبكّرة التي ستحصل في 15 أيلول/سبتمبر، لكي لا نستنفد الوقت، خصوصاً أنّ الانتخابات النيابية هي على الأبواب أيضاً. ساهم التوقيت السريع للانتخابات في إرباك المنتخبين، كما أنّه أعطى حظوظاً أكبر للمرشحين الجاهزين أو أولئك الموجودين أساساً في أجهزة الدولة.
تمّ قبول 26 طلب ترشّح من بينهم بعض المهرّجين، وبعض رجال دولة مثل رئيس الحكومة الحالي، يوسف الشاهد، ووزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي ورئيسي الحكومة السابقين مهدي جمعة وحمادي الجبالي، ونائب رئيس البرلمان عبد الفتاح مورو، بالإضافة إلى رئيس المجلس التأسيسي السابق مصطفى بن جعفر، ومديرة الديوان الرئاسي السابقة سلمى اللومي، ما يعكس صراعاً جلياً بين ممثلي أجهزة ومؤسسات الدولة حول هذا المنصب، وآخرين رجال أعمال مثل نبيل القروي صاحب قناة «نسمة» والذي توجد برقية إيقاف في حقّه حالياً في قضية فساد وتبييض أموال، وبعض اليساريين مثل حمة الهمامي ومنجي الرحوي، ومنهم بعض المستقلين أو من يدّعون ذلك.
تداولت العديد من وسائل الإعلام فكرة أنّ هذه الانتخابات الرئاسية التونسية فريدة من نوعها في كونها الأولى التي يقرّر فيها «النهضة» الدفع بمرشّحه عبد الفتاح مورو إلى الرئاسة. إذا نظرنا ملياً في تاريخ تونس مع علمانية الدولة، يبدو لنا أنّ حزب «النهضة» لن يجازف بوضع كلّ آماله على مرشّح يبدو كأنّه التراث الإسلامي المجسد لما قد يثيره ذلك من استنفار في جماهير تعودت على مدنية الدولة. وبالتالي، دفع «النهضة» بمرشّح صوريّ للرئاسة سيمكّننا من تقييم جاذبية الحزب الفعلية للأشخاص المؤمنين بمشروع الإسلام السياسي، ولكنّ الحزب في الوقت نفسه يساند مرشّحين آخرين لا يُحسبون عليه بالضرورة، كما فعل في الماضي مع المنصف المرزوقي في مناورة سياسية جلبته إلى قصر قرطاج.
الإطار الطاغي على الثقافة الشعبية التّي تأتي بالمرشحين إلى الحكم تبقى قطبية «التقدمية» المصابة بحنين ماضويّ


تمكّن المرزوقي من الصعود إلى الحكم سابقاً لسببين: رصيده في الدفاع عن حقوق الإنسان ظاهراً ودعم حزب «النهضة» له باطناً. أثناء رئاسته، بات واضحاً أنّ المرزوقي يستجيب لمطالب «النهضة» كما أنّه خسر ثقة الكثيرين لمّا تمّ في عهده ترحيل رئيس الوزراء الليبي السابق البغدادي المحمودي المعتقل في تونس إلى ليبيا مع العلم المسبق بممارسات ليبيا في التعذيب. هُزم المرزوقي في انتخابات 2014، وهو يحاول في انتخابات 2019 باستماتة جذب من انتخبوه سابقاً من متعاطفين مع حزب «النهضة». من أول التصريحات التي قام بها لدى إعلان ترشحه، قال المرزوقي إنه سيرمي بقانون المساواة في الميراث في القمامة، فور وصوله إلى الحكم. ولكنّه لن ينجح في إعادة تعبئة الناخبين لصالحه، لأنّه فقد حزب «النهضة» الذي حضّر أحصنة طروادة أخرى، أكثر قرباً من الحكم. منها يوسف الشاهد رئيس الحكومة الحالي.
هناك العديد من الأسباب الداعية للاحتراز من الشاب الذي بدأ مسيرته السياسية في الحكومة في سنّ الأربعين، ما جعله بذلك أصغر رئيس حكومة عرفته تونس. فبالإضافة إلى الامتياز الذي يمثّله وجوده حالياً وتوغّله في أجهزة الدّولة والاستخدام لموارد الدولة في الحملة الانتخابية مقارنة بباقي المترشحين، فإنّه قد اكتسب السلطة تصاعدياً بعد مصادقة حزب «النهضة» عليه. وإن لم يكن الشاهد يُحسب على تيّار الإسلام السياسي، فقد استفاد من فصل نفسه عن حزب «نداء تونس» الذي انتمى إليه أوّلاً رغم ما عناه ذلك من «انعدام الولاء» للباجي قايد السبسي. وكسب بذلك موطئ قدم على مساحة وسطية بين «النداء» و«النهضة» تسهّل دعم الحزب الأخير لترشّحه للرئاسة.
مرشح آخر يملك حظوظاً كبيرة وهو عبد الكريم الزبيدي، وزير الدفاع. إن أخذنا بعين الاعتبار أنّه وريث الباجي قايد السبسي في كونه مرشح حزب «نداء تونس»، وأنّ الباجي قايد السبسي توفي في 25 تموز/ يوليو يوم عيد الجمهورية بكلّ ما حمله ذلك من رمزية، وأنّ وصيته الرمزية كانت في صالح الزبيدي، وأنّ الزبيدي طبيب بالإضافة إلى كونه سياسياً، فإنّ الثقافة الشعبية المتأثرة بعاطفية اللحظة من جهة والناخبين الذين لديهم ولاء للنداء أو للسبسي، سيقومون بانتخاب الزبيدي.
لقد صرح الزبيدي كذلك أنّ حزب «النهضة» في البرلمان بقيادة مورو، مرشحه ونائب رئيس البرلمان، قد أرادوا إخراج السبسي من السلطة عند مرضه، أي تفعيل فصل من الدستور يستدعي تغيير الرئيس في حال مرضه المزمن أو عجزه عن تأدية مهامه. وصرح أنّه كان سيغلق باب البرلمان بدبابتين لكي لا يحصل الأمر، ما أضاف إلى سردية رجل الدولة المحارب للمشاريع الانقلابية التي قد تؤدي إلى الفوضى.
في «حرب العروش» الانتخابية التونسية، لا توجد برامج سياسية واضحة بعد، بل تتمركز المعركة حول أفراد أو شخصيّات، وكاريزمتهم سواء كانت تقليدية أو تقدمية. ستكون الانتخابات الآتية الأولى من نوعها من حيث كثرة المترشحين وتنوعهم، ولكنّ الإطار الطاغي على الثقافة الشعبية التّي تأتي بالمرشحين إلى الحكم تبقى قطبية «التقدمية» المصابة بحنين ماضويّ مزمن إلى أيام بورقيبة على ما فيها من دكتاتورية من جهة، والإسلام «المعتدل» المنادي بالمصالحة مع الهوية والعروبة والإسلام كتراث ومشروع سياسي من جهة ثانية.
* باحثة وكاتبة من تونس