هناك عالمان في الحديث عن واقع المواجهة بين لبنان وإسرائيل: العالم الحقيقي والعالم الذي تنسجه أجهزة الدعاية الإسرائيليّة وتنشره وتروّج له وسائل الإعلام العربيّة المتحالفة مع الصهيونيّة. ردُّ «حزب الله» على الاعتداء الإسرائيلي لم يعجبْ إعلام النظام القطري والسعودي: قالوا إن الردّ محدود للغاية. هذا مفهومٌ لأن للنظامين تاريخاً طويلاً من الحروب المفتوحة مع إسرائيل وهم لا يقبلون بأقلّ من الحرب الشاملة. لكن لو كان ردُّ «حزب الله» أكبر مما كان، لكان نفس هؤلاء قد انتقدوا الحزب على جرِّ لبنان إلى حرب، ولو لم يردّ الحزب، لقالوا إن الحزبَ مهادنٌ نحو العدوّ. جريدة «الشرق الأوسط» (وهي من أولى الجرائد التي باشرت بضخ الصهيونيّة في العالم العربي بعد الغزوة الأميركيّة الأولى للخليج) تواكب آراء الناس في جنوب لبنان. والذين تعثر عليهم سناء الجاك في جنوب لبنان ضاقوا ذرعاً بـ «حزب الله»، بحسب ما يسرّون بانتظام لجريدة محمد بن سلمان. فالناس ضاقوا ذرعاً بـ «حزب الله» وهي لا تنشد إلا السلام مع إسرائيل. لكن قد يشكّك البعض برواية «الشرق الأوسط»، خصوصاً أن ما تذكره عن أهواء الناس يتناقض مع نتائج الانتخابات النيابيّة منذ أوائل التسعينيّات. لكن لا تشكّكوا: فالجريدة تورد أسماءهم الأولى فقط، وواحد اسمه عبّاس وآخر اسمه حسين. أليس اسم عبّاس وحسين دليل على صدق إخبار «الشرق الأوسط»؟ وتستطيع أن تتجاهل آراء الناس في الجنوب في دعم المقاومة وأن تُهمل نتائج الانتخابات التي لم تُشكّك بها حتى حكومة أميركا التي تشنّ حرباً على «حزب الله». ما قيمة الأرقام والاستطلاعات أمام نوايا الأمير؟ والكاتب راشد عيسى (في جريدة النظام القطري، «القدس العربي») وجد حلّاً لكيفيّة إجراء استطلاع دقيق لآراء أهل الجنوب: هو قال إن آراء «المثقّفين» (الشيعة الجنوبيّون على مواقع التواصل الاجتماعي) هي التي تعبّر عن حقيقة أهواء أهل الجنوب، لا آراء الناس العاديّين. قُضيَ الأمر.و«حزب الله» يقود حركة مقاومة وهو مكبَّل اليديْن، إذ أنه قرّرَ بعد اغتيال الحريري أن يماشي في إدارته للصراع مع إسرائيل مسارَ الديموقراطيّة اللبنانيّة — على خوائها. لكن لو خضعت المقاومات للاسفتاءات والخيارات الاقتراعيّة لما تحرّرت أرض محتلّة قطّ على مرّ التاريخ. والحزب قبلَ التعايش مع فريق يجاهر بمعارضته لتحرير الأرض اللبنانيّة وبرغبته في حصر قرار الحرب والسلم في لبنان بيد إسرائيل وحدها — هي التي احتكرت هذا القرار منذ عام ١٩٤٨، وقبل عقود من ولادة «حزب الله». والفريق المعادي لـ «حزب الله» يشكّلُ عنصراً أساسيّاً في محاربة خيار المقاومة، وهو عنصر فعّال في الاستغلال الغربي للمساحة الديمقراطيّة في أي بلد عربي لتسخيرها لصالحه (هل تجرؤ أميركا مثلاً على العمل الدؤوب داخل دولة الاحتلال الإسرائيلي لتدعيم طرف على حساب طرف آخر؟).
والعالم الذي خلقه إعلام الخليج وإعلام الغرب لواقع المواجهة مع إسرائيل لا يعترف بحقائق. هو يُخضع الحقائق لضرورات الدعاية السياسيّة. وعليه، فمهما اعترفت إسرائيل وإعلام الغرب بإذلال جيش الاحتلال، فإن إعلام معاداة المقاومة يصرّ على أن النصر حالفَ إسرائيل في ٢٠٠٦ وأن «حزب الله» هو الذي هُزم. ويصرّ هؤلاء على أن انسحاب إسرائيل الذليل في ٢٠٠٦ كان بسبب عطف وحنان الصهاينة نحو أهل جنوب لبنان، ليس إلّا. ودوري شمعون (والده كان وثيق الصلة بحكومة العدوّ في كل سنوات الحرب) أصرّ بعد حرب تمّوز على أن إسرائيل كان بمقدورها أن تنتصر وتحسم المعركة لكنها لم ترِد الحرب بوحشيّة. لكن ما تفسير ارتداع العدوّ منذ ٢٠٠٦ إذا كان «حزب الله» قد هُزم؟ عشنا مراحل المقاومة الفلسطينيّة والحركة الوطنيّة في لبنان وكانت كل مواجهة عسكريّة مع إسرائيل تنتهي من دون ارتداع للعدو، وتتكرّر الغزوات والهجمات الصهيونيّة في كل لبنان.
كان ملفتاً في الأيّام الماضية الإكثار من الحديث المُلحّ عن استراتيجيّة دفاعيّة للبنان في الوقت الذي واجهت فيه المقاومة عدوان إسرائيل وردعته عن الردّ كما كان العرف في الماضي. أي أن الذين يدعون إلى استراتيجيّة دفاعيّة بديلة عن المقاومة— أي النهج الوحيد الذي وقى لبنان منذ إنشاء دولة إسرائيل — إنما هم يدعون إلى التخلّي عن استراتجيّة دفاعيّة للبنان والعودة بلبنان إلى الماضي. لكن هؤلاء ينطقون باسم الاستراتيجيّة الدفاعيّة التي اختارتها إسرائيل للبنان، والتي تعمل الإدارات الأميركيّة المتعاقبة منذ ٢٠٠٦ على فرضها على لبنان. وعناصر هذه الاستراتيجيّة متعدّدة لكن مترابطة في ما بينها.
ويتحدّث أعداء المقاومة (وهؤلاء هم أعداء المقاومة وليسوا أعداء «حزب الله» فقط لأنهم ضد نهج وخيار المقاومة قبل أن يكونوا أعداء «حزب الله»، إذ أن عقيدة صبحي الطفيلي الأكثر تطرّفاً من عقيدة الحزب لا تزعجهم لأنه لا يشكّل حالة مقاومة تزعج إسرائيل وأميركا وحلفاءهما العرب) عن الاستراتيجيّة الدفاعيّة كأنها مشروع عصف فكري، يلتقي فيه أهل السياسة ويطلعون بعد طول تفكير بـ«استراتيجيّة دفاعيّة»، كما تطلع صحف لبنان بأخبار منذ السبعينيّات عن عباقرة ومشعوذين لبنانيّين «اخترعوا» علاجاً للسرطان. وطروحات الاستراتيجيّة الدفاعيّة التي طرحها المحاورون اللبنانيّون في طاولات الحوار تصلح سيناريوهات لفيلم كوميدي. تعلم أن الجهد كوميدي هزلي عندما يشارك فيه ميشال سليمان. والحديث عن اجتراح استراتيجيّة دفاعيّة للبنان يزرع فكرة أن الأمر هو مسألة جهد ذهني فقط، للخروج بخطّة محكمة (أين منها خطة أمين الحافظ في تحرير فلسطين «في أربعة أيّام» فقط).
وتسخيف الدفاع عن لبنان هو جزء من خطة التحامل على المقاومة من أجل تقويضها. والكل مدعوّ للمساهمة في استراتيجيّة الدفاع كما أن فعاليّة المقاومة لم تكن بناء على تجربة تراكميّة طويلة مخضّبة بالدماء والتضحيات. وبطرس حرب له خطّة للدفاع عن لبنان مع أن تجربته العسكريّة لم تتعدَّ أشهراً عندما قاد ميلشيا «لواء تنّورين» قبل أن تندثر تحت خطط بشير الجميّل لفرض ديكتاتوريّته في بيروت الشرقيّة والمناطق. أما ميشال سليمان فأعدّ خطة بديلة عن استراتيجيّة المقاومة المعقّدة وهي تتضمّن وصفاً لما حدث في العديسة في ٢٠١٠ عندما أطلق جنود لبنانيّون النار على جنود للعدوّ بعد أن اخترقوا «الخط» بين لبنان وفلسطين. أي أن حادثة إطلاق نار بسلاح فردي (وفي حق مشروع للدفاع عن النفس والحدود) تحوّلت في عقل ميشال سليمان العسكري إلى استراتيجيّة بديلة عن المقاومة. لكن المشهد الهزلي يُتوَّج عندما يشارك سمير جعجع و«القوّات» في النقاش: أي أن للذين تربّوا ونشأوا وتدرّبوا وتشرّبوا الصهيونيّة على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي الحقَّ في المساهمة في نقاش الاستراتيجيّة. الواجب الوطني يقول بأن مصلحة لبنان هي في انتهاج نقيض ما يقترحه جعجع وكل من تربّى في حضن الاحتلال الإسرائيلي.
الاستخفاف بالدفاع عن لبنان بلغ حدّاً شجّع فيه الصحافيّين في المساهمة في النقاش الجاري. حتى ساطع نور الدين له خطّة متكاملة للدفاع عن لبنان. يقول ناشر موقع «المدن» (والموقع، بعد أن استُدعي نور الدين إلى دولة الإمارات حيث كان ابنه موقوفاً بسبب موقع والده، نجح في التوفيق بين الطاعة العمياء للنظام القطري والطاعة العمياء للنظام الإماراتي بالرغم مما بينهما من خلاف، وفي هذا مهارة مهنيّة تُحسب لنور الدين) إن البديل عن مقاومة إسرائيل هو العودة إلى حكومة فؤاد السنيورة وتوكيلها هي مهمة «المواجهة المباشرة مع العدوّ بكل الوسائل العسكريّة والأمنيّة والديبلوماسيّة» (لماذا لم يذكر الوسائل الموسيقيّة، يا ترى؟) والطريف في كلام نور الدين — أو أكثره طرافة لما في كلامه من زخم في الطرافة — أنه يتحدّث عن المقاومة على أنها عصا سحريّة، تنقلها من يد إلى يد والحكم يكون على حاملها في تسلّم الأمانة. أي أن «المقاومة» هي عمل لفظي مجرّد ويمكن نقله بسهولة من فم إلى آخر. لكن السنيورة تعهّد أمام الشعب اللبناني بعد عدوان ٢٠٠٦ أنه سيحرّر مزارع شبعا بـ«المقاومة الديبلوماسيّة» وما زلنا ننتظر دموعه لإعلان تحقيق النصر المبين. (والسنيورة ظهر على شاشة خليجيّة تمتهن ذمّ المقاومات بعد ساعات فقط من ردّ حزب الله كي يعلن بطلان المقاومة وضرورة البحث في الاستراتيجيّة الدفاعيّة).
ما تريده أميركا هو إقناع عدد كبير من اللبنانيّين أن خيار احتكار الجيش للدفاع عن لبنان هو خيار واقعي وفعّال


يجهد خصوم «حزب الله» الممتهنون (تفنيد خطب نصر الله بات مهنة لها مردود مالي كبير، شرقاً وغرباً، ولهذا يتنطّح كثيرون إلى الرد بالورقة والقلم على كل خطاب له، كما كانت أبواق طغاة الخليج تردّ على جمال عبد الناصر في جريدة «الحياة» في الستينيّات) في إيجاد حجج ضدّ مقاومة العدوان بالمطلق. ساطع نور الدين مثلاً يعيب على «حزب الله» ردّه على عدوان إسرائيل، لأن ذلك يدخل في نطاق عمليّات الثأر بين القبائل والعشائر. أي أن نور الدين يريد من المقاومة، ومن لبنان ككلّ، الترفّع عن الردّ على العدوان والاحتلال لأن خلافَ ذلك تكريسٌ لـ«فكرة الثأر القبلي». ويريد نور الدين من العرب الاتّعاظ من تجارب الغرب: ها هي الولايات المتحدة التي لم تردّ على تفجيرات ١١ أيلول بغزو أفغانستان أو العراق أو إعلان حرب عالميّة ضد الإرهاب، لأن أميركا — على نقيض حزب الله — لا تتحرّك بمنطق الثأر القبلي.
لكن حداثيّة نور الدين لم تتجلَّ عندما هتف وليد جنبلاط، وهتف معه قادة حركة ١٤ آذار الموغلة في الحداثة: «بدنا التار، بدنا التار، من لحّود، ومن بشّار». لكن الثأر في عقيدة ١٤ آذار كانت ما بعد حداثويّة ولهذا لم يعترض نور الدين عليها. والكلام الذي يبالغ على النمط الاستشراقي في نسب الظواهر السياسيّة الحديثة (الدفاع عن الوطن والقوميّة والحزبيّة، هذه كلّها ظواهر سياسيّة حديثة، لا قديمة) إلى عصر البداوة والعصب القبلي هو منطق استشراقي تقليمي تنميطي. لكن مدرسة «النقد الذاتي بعد الهزيمة» (التي أشاعَها العظم وشرابي وأدونيس وغيرهم بعد هزيمة ١٩٦٧) لم تكن أكثر من لبوس يساري مزيّف لاستشراق رافائيل باتاي المبتذل. ويفصل هؤلاء قطعيّاً بين الغرب الذي تخطّى المفاهيم البالية التي يشكو منها هؤلاء، وبين الشرق الغارق في الجهالة والظلمات. وأميركا تستحق التنويه في سجلّ «غينيس» (ما سبب الانشغال العربي بها، كأن تكبير حجم المنقوشة أو طبق التبّولة يُعدُّ إنجازاً حضاريّاً تزهو به الأممُ؟) في قيامها بعمليّة انتقام لم يشهدها التاريخ من قبل بعد ١١ أيلول: وقد انتشرت مقالات وكتب هنا عن غريزة الانتفام الأميركيّة التي سادت بعد تفجيرات أيلول.

خيارات أميركا الجديدة
تدرك الحكومة الأميركيّة أن خيار دفع جمهور «حزب الله» وحركة «أمل» إلى التخلّي عن خيار المقاومة لم يعد مجدياً. أُنفقت أموال طائلة منذ ٢٠٠٥ على دعم شخصيّات وحركات بديلة للثنائي الشيعي ولم يكن نصيبها إلا الفشل الذريع (وأميركا تحسب سياساتها بمعيار المصرفي: ما الطائل من دفع الملايين مقابل أن يحوز معارضو «حزب الله» الشيعة على ١٪ أو ٢٪ من الأصوات؟) ولهذا فإن لإسرائيل وأميركا خيارات جديدة. لديهما استراتيجيّة دفاعيّة للبنان. وهذه الاستراتيجيّة تعتمد على العناصر الآتية:
1) دفع قطاع سياسي لبناني للمجاهرة بخطة إسرائيل لتقويض منطق المقاومة. وهذا الفريق هو الذي يروّج لفكرة أن «حزب الله» — لا إسرائيل — يشكّل خطراً على لبنان واللبنانيّين. وتقول صديقة في هذا الصدد إن هؤلاء يعمدون بذلك إلى إعطاء إسرائيل الذريعة والحجّة لارتكاب مجازر ضد مدنيّين لبنانيّين، لأن هؤلاء يلومون «حزب الله» على ما تقوم — وما ستقوم به —إسرائيل. أي أن الدفاع عن لبنان لا يستقيم إلا في الاستسلام التام لعدوان واحتلال إسرائيل — أي نفس منطق شارل حلو في قوّة لبنان في ضعفه (كان هذا الشعار كاذباً في عهد شارل حلو، إذ كان له جانب آخر، وهو التنسيق والتشارك سرّاً مع إسرائيل في الحرب على المقاومة وتبادل المعلومات عنها).
2) الخطة الأميركيّة مستمرّة وهي لا تعتمد حقيقة على دعم الجيش اللبناني بقدر ما هي تعتمد على المبالغة في قدرات الجيش من دون تدعيم هذه القدرات. لا تنفكّ الإدارات الأميركيّة المتعاقبة تعطي أرقاماً خياليّة عن حجم الدعم الأميركي للجيش منذ اغتيال الحريري (لكن أليس مشبوهاً أن الدعم الكبير هذا لم يبدأ إلا بعد اغتيال الحريري؟)، وتصل الأرقام الأميركيّة إلى أقل من ملياريْن بقليل، وهذه المبالغة تعتمد الخداع في تقدير قيمة المعدّات المستعمَلة للجيش لكن بعد احتساب سعرها جديداً، وبعد زيادة قيمتها الفعليّة لإبهار اللبنانيّين. (وهناك ثكنات أميركيّة في دول الخليج تتخصّص في إخضاع المركبات العسكريّة الأميركيّة لـ«حدادة وبويا» بعد انتهاء مدة صلاحيّتها في الميدان من أجل منحها على أنها جديد للجيوش «الحليفة» في الشرق الأوسط).
وتتخذ هذه المبالغة في قوّة الجيش أشكالاً كثيرة، منها هذه الاحتفالات المسرحيّة كلّما وصلت سيّارات أو مركبات أميركيّة للجيش، مع أن هذه المساعدات لم تزِد مقدار ذرّة واحدة في قوّة لبنان في مواجهة إسرائيل. وهنا الخطورة، أن أميركا تريد للجيش أن يحمي لبنان مع علمها أن الجيش غير معدّ أو مجهّز لحماية لبنان، لأنها هي لا تسمح بذلك (لقد شارك جوزيف عون في عمليّة الخداع هذه عندما زعم في مقابلة مع نقولا ناصيف أن أميركا لا تمانع في اقتناء الجيش لأيّ سلاح وإنما المانع هو مالي محض. ومن المعروف أن أميركا مانعت وتمانع منذ عقود اقتناء الجيش اللبناني لأي سلاح يمكن أن يزعج إسرائيل). ويشارك جوزيف عون أيضاً في تقويض حجّة المقاومة عندما يكرّر حديثه عن «جهوزيّة تامّة» للجيش في مواجهة أي عدوان خارجي أو داخلي. حسناً، أين كان هذا الجيش عندما أطلق العدوّ عشرات القذائف على لبنان قبل أيّام، وأين كان الجيش عندما أنزل العدوّ مسيّرات على الضاحية الجنوبيّة؟ أين كانت الجهوزيّة التامّة؟ على قائد الجيش أن يعلم أن الجيش في أي مواجهة مقبلة سيُقيَّم بناء على وعود أطلقها هو للشعب. كما أن وزير الدفاع أطلق وعداً قبل يوم واحد من القصف الإسرائيلي أن الجيش سيشارك مباشرة عند أي عمل عدواني إسرائيلي —وهو لم يشارك في اليوم التالي. ونذكر أن الياس المرّ (الذي قبّحه التاريخ وإلى الأبد — وعن حق — في تسريبات وثائق «ويكليكس») كان قد وعد في أوّل يوم لعدوان تمّوز أن الجيش سيلقّن إسرائيل درساً لن تنساه، قبل أن يختفي هو وميشال سليمان عن السمع، ويتركا مهمّة الاستبسال في الدفاع عن لبنان لشباب متطوّعين.
ما تريده أميركا — وما تنجح فيه — هو في إقناع عدد كبير من اللبنانيّين أن خيار احتكار الجيش للدفاع عن لبنان هو خيار واقعي وفعّال، خيار العودة إلى جيش زمن شارل حلو، خصوصاً أن تراخياً قد أصاب الجيش في عقيدته الوطنيّة بعد مغادرة إميل لحّود لقيادة الجيش ورئاسة الجمهوريّة. وأميركا هي التي كانت قد أصرّت على مشاركة الجيش الرمزيّة في معركة جرود عرسال (بعد أن كانت هي وفرقاؤها التابعون المحليّون قد عطّلوا مشاركة الجيش في ٢٠١٤ في عرسال عندما كان الرهان قائماً على قدرة المعارضة السوريّة المسلّحة على إسقاط النظام السوري). وقد بولغ في دور الجيش في دحر الفصائل المتطرّفة في «فجر الجرود» لأن أميركا أرادت إبراز دور الجيش على حساب دور «حزب الله» الأقوى في تلك المعارك على الحدود الشرقيّة.
أي أن أميركا تريد الشيء وعكسه: هي تريد من الجيش ان يكون القوّة المسلّحة الوحيدة في لبنان لكن مع إصرارها على تعطيل أي تسليح جدّي له. والكلام الأميركي عن ضرورة الاحتكار الفيبري للقوّة يتناقض مع تسليح أميركا للميليشيات في كل العالم العربي — لكن أميركا لا تسلّح إلا الميليشيات التي لا تزعج إسرائيل ولا تزعج المصالح الأميركيّة. ولو أن المقاومة سلّمت سلاحها، فعندها لا ينحصر السلاح بيد الجيش فقط، لأن ميليشيات الطوائف لا تزال مزدهرة كما رأينا من صولات وجولات وزير التربية اللبنانيّة في عاليه وضواحيها، وفي موقعة البساتين. أي أن أميركا لا تمانع وجود الميليشيات المسلّحة اللبنانيّة باستثناء تلك الوحيدة التي حمت لبنان وحدوده بالفعل.
وتقوم أجهزة دعاية محليّة بتعظيم دور الجيش وتصغير حجم الانتصارات الهائلة لـ«حزب الله» في مواجهة إسرائيل. وفي هذا الصدد، برزت سرديّات ١٤ آذاريّة متجدّدة تبالغ أيّما مبالغة في دور «جمّول» (وأنا أقرب منها أيديولوجيّاً بأميال مقابل المسافة التي تبعدني عن أيديولوجيّة «حزب الله») وكل هذا فقط من أجل تدمير الهالة التي كسبها «حزب الله» — باستحقاق كبير — بسبب تراكم معاركه وتضحياته ضد احتلال وعدوان إسرائيل. وهناك مقولة أن الحزب احتكر المقاومة بالاتفاق مع النظام السوري، لكن اليسار انهار بصورة ذريعة في ١٩٨٢ وهجر بعض الشيوعيّين في الجنوب تنظيماتهم نحو «أمل» وحتى نحو «حزب الله». وإذا كان النظام السوري منع اليسار من المقاومة (حين كان جورج حاوي يقيم المآدب لمسؤولي المخابرات السوريّة في لبنان) فما الذي منع «اليسار الديموقراطي» من المقاومة في ٢٠٠٦؟ ومن المعلوم أن مقاومين من الحزب الشيوعي شاركوا — وإن بصورة متواضعة— في المقاومة في ٢٠٠٦. ثم إذا كان «حزب الله» لا يشكّل خطراً ضد إسرائيل، فلماذا تعتبر مراكز دراسات العدوّ أن الحزب هو الخطر الأكبر عليها، ولماذا يتكرّر التهويل الصهيوني — الإسرائيلي والغربي— حول أخطار «حزب الله»؟ هذا التهويل يتناقض مع دعاية النظام السعودي والقطري عن اتفاقات تحت الطاولة بين إسرائيل «وحزب الله».
أما الردع المتبادل بين إسرائيل وبين «حزب الله» فهو يشكّل حالة من الدفاع لم يسبق لبنان لها أيّ من دول المواجهة على مرّ الصراع العربي - الإسرائيلي. كانت إسرائيل ترى أن لا موانعَ أمام اعتداءاتها المتكرّرة على لبنان. والمتقاعدون من قادة الحركة الوطنيّة اللبنانيّة يفتون اليوم في أخطاء وحدود مقاومة «حزب الله» كأن تجربة مقاومتهم (عندما كانت قوّات الثورة الفلسطينيّة في تصرّفهم، وعندما كان المال والسلاح يأتيهم من المعسكر الشيوعي ومن النظام الليبي والعراقي والسوري والجزائري واليمني) كانت أفعل من تجربة الحزب. وهل استطاعت قوى الثورة والحركة الوطنيّة فرض معادلة ردع كما فُرضت بعد ٢٠٠٦؟ ينعم لبنان (كل لبنان لأن فوائد المقاومة تعود بالنفع على الجميع في الوطن، حتى على معارضي المقاومة والمتعاونين مع الاحتلال) بالقدرة على ردع إسرائيل للمرّة الأولى في تاريخ الدول العربيّة. والذين يريدون تقويض هذه القدرة وبحماس شديد، في أي خندق يضعون أنفسهم؟
* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)