مؤرّخو المؤسسات الحاكمة في الغرب يحدّدون أول أيام أيلول عام 1939 تاريخًا لاندلاع الحرب العالمية الثانية عندما اجتاح الجيش الألماني النازي بولونيا إثر نزاع دبلوماسي طويل بخصوص مدينة دانتسِغ (حاليًا: غْدَانسك في بولونيا) التي كانت تحت سلطة «عصبة الأمم». لكن علينا في هذا المقام تذكر كلمات لينين عندما قرأ بنود «صلح باريس» حيث قال: هذا إذلال لألمانيا ووصفة لاندلاع حرب عالمية جديدة. ومن المعلوم أن لندن هي التي حددت بنود ذلك «الصلح» الذي كان يهدف إلى إذلال ألمانيا ومنع تطورها إلى قوة اقتصادية تنافسها وتهدد هيمنتها على القارة الأوروبية. لكن إذا نظرنا إلى أمر اندلاع الحرب من منظور تاريخي، يعتمد الحقائق كافة ذات الصلة، فهل يمكن حقًا قبول ذلك التأريخ الرسمي التضليلي!لنعد قرونًا إلى الوراء ونذكر بأن من غير الممكن فهم العلاقات الحالية بين الأمم والقوميات الأوروبية ودولها، شرقًا وغربًا، من دون العودة إلى تاريخها الدموي، أي أنه تاريخ حروب بينها: حروب بين لتوانيا وأوكرانيا وبولونيا وروسيا وغيرها. حروب شهدت فظاعات غير مسبوقة، مع أنها هي نفسها على جانب كبير من الوحشية والهمجية والبشاعة.
وإذا عدنا قليلاً إلى الوراء، نتذكر صراع الأوروبيين وذبح بعضهم بعضًا في الحرب العالمية الأولى التي أطلق عليها وقتها «الحرب التي ستقضي على الحروب كافة» وأطلق على صلح باريس صفة «سلام ما بعده سلام» الذي كان الوصفة «المثالية» للحرب القادمة بعده.
بالمناسبة، حروب بعض الأوروبيين ضد بعضهم بعضًا استمرت حتى تحت الاحتلال النازي وحتى بعد انتهاء الحرب رسميًا. فعلى سبيل المثال، قام بولونيو بلدة يِدفابنِ (Jedwabne) في عام 1941 بحرق أكثر من ألف أشكناز شكلوا نصفها الآخر، أحياءً في الجرن، إضافة إلى تعاون بولونيين كثر مع قوات الاحتلال النازي في مطاردة المواطنين الأشكناز وتسليمهم لها. ومن المعروف أن الحلفاء عملوا على تدمير مدن فرنسية، سقط خلالها عشرات آلاف المدنيين قتلى وجرحى، ودمّروا معامل وخطوط سكك حديدية وغيرها من أعمدة اقتصاد البلاد حليفتهم في الحرب بذريعة محاربة النازية؛ ربما هذا ما يشرح موقف ديغول من لندن وواشنطن.
أما فظائع أوكرانيين ضد بولونيين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية فموثقة، وثمة فيلم بولوني جديد عن تلك الجرائم أثار حفيظة أوكرانيا. يضاف إلى ذلك سماح السلطات العسكرية السوفياتية للأشكناز بأخذ عشرات آلاف من أسرى الحرب من معسكراتها لقتلهم، وهذا أيضًا موثق. ويضاف إلى ذلك ما ذكرناه عن ترك آيزنهاور نحو مليوني أسير حرب ألماني يتضورون جوعًا في معسكرات الاعتقال الأميركية، وغير ذلك الكثير الكثير.
صلح باريس، كما يسمى، فرض على ألمانيا التخلي عن بعض أراضيها ومنها إقليم دَنتسيغ الآنف الذكر، مع أن 97% من سكانه كانوا من الألمان وأعربوا عن رغبتهم في الانضمام إلى وطنهم الأم، ووضع سكان مدن وبلدات ألمانية تحت سلطة بولونيا التي استحالت بعد فترة دكتاتورية عسكرية تعيش من كراهية الألمان وتحرّض عليهم، وتشجع على قتلهم. لكن العقلية الاستعمارية المريضة لبريطانيا صممت على وضع فتائل اندلاع حروب جديدة في أوروبا في «صلح باريس»، تمامًا كما فعلت في مشرقنا عندما زرعت كيان العدو الصهيوني، وفي كل نقطة في هذا العالم كان لها كلمة فيه.
بعض المؤرخين يقولون إن برلين حاولت بكل الطرق الوصول إلى حل في دَنتسِيغ مع فرصوفيا يأخذ في الاعتبار رغبات أهلها، لكن من دون فائدة، إذ إن لندن منحت الأخيرة شيكاً على بياض لاستفزاز ألمانيا ودفعها إلى المبادرة بأعمال حربية. فعلى سبيل المثال، قبل وزير الخارجية البولندي جوزيف بِك عرضًا قدمته لندن في 30 آذار 1939 لإعطاء ضمان غير مشروط لاستقلال بولندا ووافقت فيه على خوض الحرب حليفة لبولندا إذا قررت الأخيرة أن الحرب كانت ضرورية، ومن دون أي التزام مقابل ذلك التعهد. المؤرخون علقوا على هذا التعهد بالقول: إن لندن تركت لأول مرة في التاريخ قرارًا بشأن خوض حرب خارج حدود الدولة لأمة أخرى. فعلى سبيل المثال، وصف الدبلوماسي البريطاني سير روي دنمن ضمان الحرب لبولندا بأنه «التعهد الأكثر تهورًا الذي قدمته الحكومة البريطانية على الإطلاق. لقد وضع القرار بشأن السلام أو الحرب في أوروبا في أيدي دكتاتورية عسكرية متهورة وعنيفة ومتبجحة. المؤرخ البريطاني نِيال فِرغسن كتب أن ضمان الحرب لبولندا «ربط مصير بريطانيا بمصير نظام كان بكل المعايير معادياً للديموقراطية ولليهود مثل ألمانيا النازية». أما المؤرخ العسكري الإنكليزي لِدِل هارت فقال إن الضمان البولندي «وضع مصير بريطانيا في أيدي حكام بولندا، وهم رجال قدراتهم العقلية مريبة للغاية وغير مستقرة».
صحيح أن بريطانيا وفرنسا أعلنتا الحرب على ألمانيا بعد غزوها بولونيا، إلا أنهما لم تحرّكا قواتهما للدفاع عن بولونيا التي سقطت عاصمتها بأيدي القوات النازية الغازية بعد ستة أيام من بدء القتال! ومن المعروف أن إعلان فرنسا الحرب على ألمانيا وغزوها أراضي الرايخ الثالث في عام 1939، لم يقابله أي رد فعل من برلين، ولم تبادر لغزو فرنسا إلا في 5 حزيران من العام التالي حيث احتلت بعد نحو أسبوع باريس التي لم تقاوم. قبل ذلك، بدأت فرنسا في 7 أيلول 1939 هجومًا على إقليم السار الواقع في غربي الرايخ الثالث (أي الإمبراطورية الثالثة؛ الأولى كانت الإمبراطورية الرومانية المقدسة للأمة الجرمانية 800-1806 ت س، والثانية الإمبراطورية الألمانية 1871-1918) بتقدم من خط ماجينو حشدت له 98 فرقة و2500 دبابة في مواجهة قوة ألمانية تتكون من 43 فرقة (32 منهم احتياط) ومن دون دبابات. تقدمت الوحدات الفرنسية حتى وصلت إلى خط زيغفريد الألماني المقابل لخط ماجينو، لكن القائد الأعلى الفرنسي أصدر أمرًا في 17 أيلول بسحب القوات الفرنسية إلى مواقعها الأولية الذي تم بتاريخ 17 تشرين الأول من العام نفسه.
هدف هذا العرض السريع التنبيه إلى بعض الحقائق التاريخية ذات الصلة وليس إلى تبرئة أي من الدول الأوروبية الاستعمارية من طبيعتها العنصرية والوحشية المعادية للإنسانية ولا إلى التقليل من مسؤولية أي طرف.
ملاحظة أخيرة، قرأت أن المؤرخ الفرنسي فرناند برودل كتب رسالة الدكتوراه بعنوانLa Méditerranée et le Monde Méditerranéen à l'époque de Philippe II/ البحر المتوسط وعالمه في عصر فيليب الثاني» في ثلاثة مجلدات إبان اعتقاله في السجن النازي بعد أسره في الحرب، فكم من سجين عربي أو إفريقي كتب أي عمل في سجون فرنسا أو بريطانيا!