هل من صلة بين «نظرية» البجعة السوداء، وما جرى وما يجري في سوريا؟ قبل الإجابة عن ذلك، أروي ما حصل بين ملكة بريطانيا إليزابيت والاقتصاديين في كلية لندن للاقتصاد (وهي من أشهر وأرقى الأكاديميات الاقتصادية في العالم)، فبعد أزمة 2008 (الأزمة المالية، الائتمانية ـــ الاقتصادية، التي بدأت في الولايات المتحدة، وامتدّت تداعياتها إلى أنحاء العالم)، قامت الملكة بزيارة ذلك الصرح الأكاديمي الاقتصادي العريق، وسألت الاقتصاديين والمفكّرين فيه سؤالاً محدّداً، وهو: لماذا لم يتنبأ علماء الاقتصاد بالأزمة؟
بعد ستة أشهر من تلقّيهم هذا السؤال، كانت الإجابة ما خلاصته: «إن الفشل في التنبؤ بتوقيت الأزمة وحجمها وعنفها وفي تلافيها له العديد من الأسباب، لكنّه كان في الأساس فشلاً في الفكرة والخيال، من جانب العديد من الأشخاص، الأذكياء في بريطانيا ومختلف أنحاء العالم، هؤلاء الذين عجزوا عن إدراك المخاطر التي تواجه النظام المالي والاقتصادي ككل». نعم إن الأصل في القدرة على التنبؤ بالمستقبل واستشرافه وتحديد الآثار والنتائج لسياسات معيّنة هو «فكر وخيال» (الأشخاص) الذين يساعدون أو يعدّون السياسات ويصنعونها وينفّذونها، وبالتحديد قادة المرحلة ومن يساعدهم ويشور عليهم وينصحهم، ويقدّم لهم المعلومات والبيانات والمعطيات الصحيحة، التي تساعد على وضع السياسات من خلال مجموعة من السيناريوات، مع بيان النتائج المتوقّعة لكلّ منها، إنّهم رجال الفكر الذين يتمتّعون بخيالٍ خصبٍ ونزيه، بمعنى العطاء اللامتناهي... والبعيد عن المصالح والأنانية، ويتوقف ذلك كله بالطبع على مدى استعداد أصحاب القرار لسماع ومناقشة ما يقدّمه رجال الفكر والخيال.
نعود الآن إلى الموضوع، أي علاقة «البجعة السوداء» بالأزمة السورية، ما يفرض علينا (وهذا حق القارئ) أن نقصّ عليه «حكاية» البجعة السوداء.
يعتبر مفهوم «البجعة السوداء» أحد المداخل النظرية في التفكير في حالة عدم اليقين، ونقوّم هذه الفكرة على أساس أن جميع البجع في العالم لونه أبيض، واحتمال وجود بجع لونه أسود أمر مستبعد، وأصبح هذا المفهوم يستخدم للإشارة إلى أحداث تتمتع بثلاث ميّزات:
أولاً: أنها تقع خارج حدود التوقّعات الطبيعية، لأنّه تاريخياً لا يوجد شيء يشير إلى إمكانية وقوعها.
ثانياً: في حال وقوعها يكون لها أثر شديد التطرّف.
ثالثاً: أنّه رغم السمة الأولى، فإن الطبيعة البشرية تجعلنا نقبل فكرة احتمال وقوع هذا الحدث، بعد أن تصبح قابلةً للتنبؤ ويمكن تفسيرها.
وقد ابتدع مفهوم البجعة السوداء الأكاديمي نسيم نيكولاس طالب الذي ألّف كتاباً بعنوان البجعة السوداء نشر عام 2007، حيث رأى أن «ما هو متوقّع عدم حدوثه بشدة هو بجع أسود، وأن وقوع حدث غير متوقّع حدوثه بصورة كبيرة يعادل عدم وقوع حدث متوقّع حدوثه بشدة»، وبالتالي فإن فكرة البجع الأسود متعلّقة بفكرة الندرة والأثر المتطرّف والتنبؤ بأثرٍ رجعي، أي الاعتقاد بالقدرة على التنبؤ بحدث البجعة السوداء بعد وقوعه.
وتعود فكرة البجعة السوداء لدى نسيم إلى ما قبل هجمات أيلول 2001، في نيويورك وواشنطن، فقد ألّف كتاباً بعنوان «خدعتني العشوائية»، نشر قبل تلك الهجمات بأسبوع، وتضمّن الكتاب مناقشة لاحتمال أن تصطدم طائرة بالمبنى الموجود فيه مكتبه، عندها سارع العديد من الإعلاميين والباحثين إلى سؤاله كيف تنبأ بذلك الحدث ـــ أي بالهجمات على مبنيي نيويورك التجاريين ـــ فكانت إجابته قاطعة: إنني لم أتنبأ وإنما كان هذا عن طريق المصادفة، ولا أملك وحياً إلهياً. ولعلّ هذا ما جعل نسيم يسعى إلى تفسير عدم القدرة على التنبؤ والخروج بمفهوم البجع الأسود، ثم يوسّع هذا المفهوم باتجاه تفسير «ثورات» المنطقة العربية، فقد نشر مع مارك بليت مقالاً في مجلة «فورن آفير» عدد أيار ـــ حزيران 2011، عندما كان العالم لا يزال متفاجئاً بثورتي تونس ومصر، قالا فيه «إن الثورات في المنطقة مثلها مثل الأزمة المالية العالمية، حيث تم استبعاد حدوثها، وكلاهما نوع من أنواع البجع الأسود»، بمعنى عدم القدرة على التنبؤ بمثل هذه الأحداث. وبالعودة إلى مفهوم البجع الأسود، حسب نسيم طالب، فإنّه يفسّر عدم القدرة على التنبؤ بالبجع الأسود بثلاثة أسباب رئيسية:
السبب الأول: يتعلّق بأن البجع الأسود بطبيعته غير قابل للتنبؤ، فالمطلوب هو التكيّف مع وجوده.
السبب الثاني: يتعلّق بأن القادة ينزعون إلى التركيز على ما يعرفونه، وعلى تفاصيل ما يعرفونه وليس على ما تعنيه التفاصيل من قواعد عامة. فعلى سبيل المثال، ما تعلّمته الولايات المتحدة بعد أحداث أيلول 2001، هو تفاصيل خاصة بكيفية تجنب الإرهاب الإسلامي، وتجنّب بناء بنايات شديدة الارتفاع. ولم يدرك المسؤولون أن بعض الأحداث تقع خارج نطاق ما يمكن التنبؤ به، بسبب ديناميكيات ذاتية، وبالتالي فإنّ عدم القدرة على تعلّم القواعد العامة كفيل بعدم القدرة على توقّع البجع الأسود.
السبب الثالث: يتعلّق بالبيئة المحيطة. فعلى سبيل المثال، إن كنت تعيش في منطقةٍ ما، وإمكانية حصول أحداث كبيرة بها أمر نادر، فسيكون هناك حكم مبدئي، يقلل من احتمال وقوع أحداثٍ متطرّفة، وستعتقد أنها أكثر قدرةً وأقل احتمالاً، والمشكلة ـــ وفقاً لنسيم ـــ تكمن في أنّه بمجرّد تطوير نظرية ما، فإن احتمال تغيّر طريقة تفكيرنا محدود، ويُبرز نسيم هنا حالة التأثر بديناميكيتين على كيفية تفكيرنا، وهما التحيّز والانحراف، وبالتالي النزوع إلى عدم التخلّي عن رأي ما طوّره، وذلك بسبب التعامل مع الأفكار كممتلكات. وهاتان الديناميكيتان، أي التحيّز والانحراف، مسؤولتان عن حالة من القصور في الطريقة التي تتلقى بها الأحداث وتفسيرها، وفي الطريقة التي نتصرّف بها على أساسها. وفقاً لهذا السياق، هل من الممكن تفسير أحداث سوريا وكوارثها الأخيرة من خلال نظرية البجعة السوداء؟ وبالتالي الفشل في الفكر والخيال، هل كان المطالبون بالحرية والخبز والكرامة في جولاتهم المطلبية الأولى يتصوّرون أن «البجعة السوداء» تنتظرهم في نهاية المنعطف لتعصف بهذه المطالبات، وتحوّلها إلى دماء ودمار؟ هل كانت القيادة السياسية السورية تتوقّع أنها تستطيع مواجهة تلك المطالبات أمنياً، ومن ثم يُسدل الستار عمّا حدث؟ كيف لم يتوقّع «المحلّلون الاستراتيجيون» في الدولة وخارجها، إمكانية تطوّر الأحداث، ووصولاً إلى ما وصلت إليه، وكيف لا يتوقّعون إمكانية «خطف» المتآمرين لحركة الاحتجاج واستغلال ما حصل لحرف الحركة عن مسارها السلمي؟
كيف لم يتوقّع «عقلاء المعارضة» ووطنيتها إمكانية تورّطهم في مواقف تقود إلى التحوّل الحاصل من الأحداث؟ إذا سلّمنا بأن ما جرى ويجري في سوريا ثمة أمور نعرفها وأخرى لا نعرفها، وهذا مؤكّد، فإن غالبية الشعب في سوريا عاشت الأحداث التي مرّت على مدى الأيام في حالة من عدم اليقين، قد تقود بهذا الحجم أو ذاك، فمما نعرفه ـــ مع غالبية الشعب ـــ أن الولايات المتحدة ـــ ومن معها وخاصة الصهيونية ـــ تريد تدمير سوريا دولةً وشعباً وجيشاً ومؤسسات، ومما ندركه أيضاً أن المطلوب وصول البلاد «كوطن» إلى حدّ الإنهاك، ومن ثم إجباره على التسليم والانسحاب لصالح «عصابات مسلّحة ومنظّمات تكفيرية» مما صنعته الاستخبارات المركزية والأوروبية والخليجية والتركية من معارضات مختلفة، ومكوّنات متعدّدة من داخل سوريا وخارجها تحت عناوين مختلفة ورايات جهادية مختلفة، مستغلّة في ذلك أوضاعاً اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية، أسهمت أيضاً في صنعها لتكون قاعدة الانطلاق للهدف الذي عملت من أجله، منذ حصول سوريا على الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية. والهدف أيضاً القضاء على الجيش السوري، وعلى سوريا كدولة وكيان، لأن ذلك سوف يزيح هذا الشعب «المشاكس والمشاغب» عن طريق ما يفرض طريق مشروع الشرق الأوسط الكبير والجديد والواسع، والتمهيد لإنهاء القضية الفلسطينية، وتسهيل عملية اجتثاث الفكر القومي العربي، والتخلّص نهائياً من المقاومة ومنطقها، وممانعتها للمشروع الأميركي ـــ الغربي ـــ الصهيوني. هذا كلّه معروف، فقد كتب عنه الكثير وتحدّث عنه العديد من السياسيين والمفكرين والمثقفين، كما أن أصحاب المشروع أنفسهم لم يتأخروا عن الإعلان عن أهدافهم الخفية. لكن هذا الجانب من المعرفة لا يكفي وحده التفسير بما حدث، لأنّ له جوانب أخرى مكملة، تتمثل في دور المجتمع العسكري والمالي والصناعي، الذي تسيطر عليه الشركات المتعدّدة الجنسيات، ولهذا المجتمع مصالح لا يتورّع عن التعبير عنها في إشعال نار الحروب لمساعدة الاقتصادات الرأسمالية، وعلى رأسها الرأسمالية الاحتكارية ـــ الأميركية الصهيونية، في استعادة أنفاسها وحلّ مشكلاتها وتجاوز أزماتها، مستخدماً في ذلك وكلاءه وممثليه في جميع البلدان. ليس هذا فحسب، فإننا نعرف تطلّعات الشركات النفطية والغازية العالمية لاستكشاف واستثمار النفط والغاز في البر والبحر، كما نعرف تطلّعات شركات الغاز القطرية لإمرار الغاز القطري عبر سوريا إلى أوروبا، تماماً كما نعرف أهمية بيع الماء التركي إلى دول الخليج، مروراً بسوريا، وما يمكن أن يحقق ذلك لإسرائيل.
ونحن ندرك أيضاً ما يجري على صعيد النظام العالمي، من تراجعٍ في هيمنة الولايات المتحدة، ومن صعودٍ لقوى عالمية أخرى في روسيا والصين والهند والبرازيل، وغيرها من قوى لم تعد تناسبها تلك الهيمنة غير العادلة للقطب الواحد. ونعرف أيضاً موقع المنطقة العربية، وفي قلبها سوريا من ذلك كلّه.
نعم، نعرف ذلك كلّه، وأكثر، لكن ما لا نعرفه تماماً، ونعلمه علم اليقين، ما الذي يحقّقه حكّام الغرب لشعوبهم من تفتيت وتفكيك وتدميرٍ بلد كسوريا؟ فإذا عرفنا أن مزاج الرأي العام الغربي ومصالح الرأسمالية العالمية والصهيونية، يمكن أن تشكّل عاملاً مساعداً ودافعاً نحو إشاعة أجواء الفوضى وزعزعة أوضاع المنطقة العربية لدوافع قد تكون عنصرية أو مادية، فإنّ الذي لا يمكن تفسيره إلا بتردد وبعض الشك، هو في موقف حكامٍ عرب لدول عربية في الخليج وسواه، فما الذي يمكن أن يجنيه حكّام السعودية وقطر والإمارات، من عوائد مادية أو معنوية أو سياسية أو اقتصادية، من تدمير وتفتيت وتفكيك سوريا؟ ما الذي يحقّقه لهؤلاء تشريد مئات ألوف السوريين بعد تشريدهم من ديارهم وتوزّعهم بين الداخل والخارج في مخيّمات أو تجمّعات سكنية لا تحقق الحد الأدنى من إنسانية الإنسان؟ ألا يخطر ببال هؤلاء ما يمكن أن يصيبهم من تداعيات الأوضاع التي أسهموا في صنعها في سوريا؟
لكن يظلّ السؤال الأهم وهو ما يتعلّق بالسوريين والسلطة والشعب، كيف أدّت السياسات الاقتصادية والسياسية والممارسات الأمنية إلى الوصول إلى الحد الذي أدى إلى ظهور مجتمع المخاطر الذي هدّد ويهدّد السلم الاجتماعي، من دون أن يدرك المسؤولون ذلك؟ كيف يقبل ـــ أي مسؤول ـــ أن تصل الأمور في بلاده إلى ذلك الحد الذي وصلت إليه، من دون أن يدرك أن بلاده مقبلة على تطوّراتٍ تهدّد واقعه لأجيال قادمة؟ كيف لا يدرك المسؤول أي مسؤول أن المساس بكرامة الناس وخبزهم وحريّتهم سيؤدي إلى توليد أجواء السخط والتذمرّ والرغبة في الانعتاق؟ كيف لا يقرأ المسؤول أي مسؤول حقيقة ما جرى في تونس ومصر وأن بلاده ليست بعيدة عما يجري؟ كيف يقبل المسؤول أي مسؤول فتح باب الاستيراد على مصراعيه من دون أن يحسب أن لذلك تأثيراً على أسواقه ومعامله وورشات الألوف من الحرفيين. وأن ذلك سيؤدي إلى قذف ألوف العاطلين الجدد إلى سوق عمل لا أفق له؟
كيف يمكن لمسؤولٍ، أي مسؤول، أن يتصوّر أن النصائح والمشورة المقدّمة إليه من المؤسسات الدولية وبيوتات الخبرة الأجنبية والدول الأوروبية بالانفتاح الاقتصادي والانخراط بالعولمة والالتحاق بالاقتصاد العالمي «قبل تمكين اقتصاده» هي نصائح ومشورة مقدّمة إليه لوجه الله ولمصلحة بلده وشعبه؟ كيف يتصوّر ذلك المسؤول أن اقتصاده إذا ما اتبع تلك النصائح سوف يصمد أمام الصدمات الخارجية، ويحقق لشعبه التنمية والنهوض؟
كيف لهذا المسؤول أن يعتقد أن الغرب ووصفاته الإصلاحية يريد الخير لبلده وشعبه؟ كيف يمكنه أن يتصوّر ذلك المسؤول أن خبيراً أجنبياً يريد له ولشعبه وبلده أن يتقدّم وينهض عندما يقدم له دراساته ونصائحه، ثم يرمي في سلّة المهملات ما يقدّم له من آراء الخبراء الوطنيين الذين يريدون لبلدهم وشعبهم الخير والتقدّم؟
كيف لا يتوقّع المسؤول، أي مسؤول أن غضّ النظر عن نشاط الجماعات الوهابية والتكفيرية سيقود إلى ما آل إليه الواقع المأسوي الذي يعيشه المجتمع السوري اليوم؟ وكيف لا يرى ذلك المسؤول الخيط الذي يربط ما بين الفساد وثقافة التكفير وممارسات رجال ونساء الأعمال والبيروقراطية المتخلّفة، وبين مخطّطات الخارج التدميرية، وأنّ هؤلاء هم المستفيدون من خراب سوريا وتدمير اقتصادها والمتربّصون لإعادة إعمارها؟ كيف لا يرى ذلك «المعارض الهمام» أن إنهاك أو إضعاف الجيش السوري هو مطلبٌ أميركي صهيوني؟ وكيف «لمعارضٍ وطني» أن يقبل بتدمير البنى التحتية التي هي عنوان الاستقلال الاقتصادي؟ وكيف له أن يقبل بتشريد ملايين السوريين واقتلاعهم من بيوتهم وإلقائهم في الشوارع والمخيّمات؟ وكيف له أن ينام «قرير العين» ونساء وأطفال سوريا يهانون في أرجاء العالم؟ كيف يمكن لإنسانٍ أي إنسان أن يستمر في إنكار الواقع ومتغيّراته ويرفض أن يستمع إلى غير ما يريد سماعه؟
من كان يتصوّر أن ينفجر «الاستقرار» الذي كانت تنعم به سوريا على هذا النحو، فيتحوّل الماء الراكد إلى أمواج طاغية؟
من كان يتصوّر من السوريين أن تكون بينهم خلايا نائمة تنهض من سباتها على وقع حركة الاحتجاجات المطلبية، نتوقّع ذلك التدمير الهائل ونمارس أشنع أنواع العنف والقتل تحت عناوين استدعتها من التاريخ البعيد لإمارات تكفيرية ودول ظلامية؟
ما كان يتوقع أن يحصل ذلك كلّه في سوريا كوطن ودولة؟ إنّها البجعة السوداء، وإنّه الفشل في الفكر والخيال؟
* باحث اقتصادي