التصعيد الإسرائيلي بالنيران على أكثر من جبهة في توقيت واحد غير مسبوق بمستوى اندفاعه وغير اعتيادي بحجم استفزازه. اتساع رقعة العمليات وتزامنها يومئ إلى انزلاق محتمل لحرب إقليمية واسعة تشمل سوريا والعراق ولبنان وغزة، غير أن هذا الاحتمال يبدو في الوقت نفسه شبه مستبعد بالنظر إلى حسابات دولية وإقليمية ماثلة. بين ما هو محتمل للانزلاق والحسابات الماثلة تبدو التصرفات الإسرائيلية أقرب إلى حماقات قوة لا تدرك أنها تملك الرصاصة الأولى لا كل الرصاص، الضربة الأولى لا كل الضربات. لا أحد في الإقليم يريد مثل هذه الحرب خشية كلفتها الإنسانية الباهظة، أو ما قد يترتب عليها من تخريب في البنى الأساسية المنهكة واهتزازات في قدر الاستقرار الداخلي، غير أنه لا يمكن استبعادها أو نفي احتمالاتها. الإسرائيليون أنفسهم لا يريدونها ويعرفون عواقبها الوخيمة على أمنهم ذاته، الذي باسمه قاموا بعمليات التصعيد العسكري.الفكرة الرئيسية في ذلك التصعيد تعود إلى جوهر نظرية الأمن القومي الإسرائيلي، إن الدولة العبرية قادرة على الردع والترويع ودخول معارك متزامنة على أكثر من جبهة لتفكيك إرادة الأطراف الأخرى. وقد عرضت القيادة الإسرائيلية آخر طبعات نظرية أمنها القومي على النحو التالي: أن أجهزة استخباراتها رصدت وتابعت قبل بضعة أسابيع عملية نقل طائرات مسيّرة من طهران إلى دمشق لتحميلها بالمتفجرات قبل توجيهها لمواقع في شمال إسرائيل، تحت إشراف قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني اللواء قاسم سليماني.
هذه نقطة أولى في الرواية الإسرائيلية المشكوك في صحتها أريد بها - كما هي العادة - التأكيد على يقظة الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية وجاهزيتها في جمع المعلومات والاختراق قبل توجيه الضربات العسكرية التي قيل إنها استباقية.
بصياغة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لنظرية الأمن القومي في آخر طبعاتها: «إذا جاء شخص لقتلك، قم واقتله أولاً» مقتبساً التعبير من التلمود بهدف التأثير على اليمين الصهيوني الأكثر تطرفاً.
الجديد هذه المرة الاعتراف الإسرائيلي بما قامت به على عكس عشرات المرات السابقة مما اعتبر تغييراً جوهرياً في مواجهة ما تسمّيه التمركز الإيراني في سوريا. وقد كانت الضربات التي وجهت لمخازن سلاح ومواقع وقيادات في «الحشد الشعبي» بالتوقيت نفسه تطويراً لذات النظرة. حسب المحللين العسكريين الإسرائيليين فإن الهدف من هذه التفجيرات، التي ضربت في العراق وسيادته قبل الحشد وتنظيماته، هو «منع إقامة قواعد صواريخ باليستية في العراق قادرة على ضرب إسرائيل» و«عرقلة شق ممر تهريب بري يسمح بنقل صواريخ وأسلحة إيرانية إلى مخازن حزب الله في بيروت».
نتنياهو يطلب الردع لا الحرب، لكن يظل الانزلاق محتملاً


هذا خيار أمني جديد يجب التوقف عنده بالالتفات والتحليل، وهو يؤشر إلى متغير جوهري في قواعد الاشتباك له انعكاساته على الداخل العراقي ومستويات تماسكه الوطني أمام استباحة أمنه وأجوائه رغم التواجد العسكري الأميركي فوق أراضيه. بصياغة نتنياهو فـ «أنا لا أمنح إيران الحصانة في أي مكان» مشيراً على وجه التحديد إلى سوريا والعراق ولبنان واليمن، دون أن يتطرق إلى إيران نفسها، التي تحصنها قوتها العسكرية من أي عمليات من هذا النوع خشية ردات الفعل والدخول في حرب إقليمية واسعة. المعنى – هنا - أن نتنياهو يطلب الردع لا الحرب، لكن يظل الانزلاق محتملاً. هذه صياغة جديدة عند الحافة لقواعد الاشتباك.
التطور الأخطر في خرق قواعد الاشتباك كان سقوط طائرتي استطلاع إسرائيليتين في الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت، ثانيتهما كانت مفخخة وأدى انفجارها إلى أضرار بالغة في مركز إعلامي تابع لـ «حزب الله». لم يحدث مثل هذا الاختراق منذ عام (2006)، وهو ما استثار غضب زعيم «حزب الله» ملوّحاً بما وصف برد متناسب ومدروس خلال الأيام المقبلة.
لم يكن مستعداً أن يتقبل تحت أية ذريعة العودة إلى ما قبل عام (2000) عندما كان لبنان مستباحاً بالكامل للغارات الإسرائيلية، تأتي وقتما تشاء وتضرب وقتما تشاء دون أي ردع. ولم يكن مستعداً – بنص كلامه – أن يجري على لبنان ما يجري حالياً في العراق من غارات وضربات دون ردّ، معتبراً أن هذا مسار يضرب في صدقية المقاومة واحترامها لنفسها ولبلدها. الإسرائيليون أخذوا تهديدات السيد حسن نصر الله على محمل الجد، أُخليت حواجز في مزارع شبعا واتخذت إجراءات أمنية مشددة في أماكن عديدة تحسّباً لردٍّ ما لا يعرفون متى وكيف وأين؟ فيما هو جديد هذه المرة ما قرره المجلس الأعلى للدفاع في لبنان من أنه من حق اللبنانيين الدفاع عن أنفسهم. هذه رسالة تحذير معلنة أن ما قد يقدم عليه حزب الله من رد سوف يكون محاطاً بسياج من شرعية الدولة وقبولها المسبق.
وفيما اعتبره الإسرائيليون «نكسة أمنية» فإن «ذاكرة الطائرة الأولى» صارت في حوزة خبراء حزب الله، الذي يتكتم حتى الآن ما قد يكون قد حصل عليه من معلومات. السياق الأمني يفسر جانباً من أسباب التصعيد العسكري الإسرائيلي على ثلاث جبهات في وقت واحد، لا كل الجوانب، كما لا يلخص بمفرده المشهد الإسرائيلي قبل أسابيع من انتخابات الكنيست في 17 أيلول /سبتمبر المقبل.
هناك فرضية متواترة وعلى قدر كبير من التماسك تعزو تصرفات نتنياهو إلى اقتراب الانتخابات والوضع الحرج الذي يجد نفسه فيه على خلفية اتهامه مع زوجته بالفساد واحتمالات الزج به في السجن إذا ما خسر هذه الانتخابات، أو لم يتمكن من تشكيل الحكومة الجديدة على النحو الذي حدث بعد الانتخابات الأخيرة ما استدعى حل الكنيست والعودة إلى صناديق الاقتراع. بتعبير حليفه السابق الأكثر تشدداً وخصمه الانتخابي الحالي أفيغدور ليبرمان فإن ما يفعله نتنياهو «حفل ثرثرة في العلاقات العامة الانتخابية».
الأجواء التي لاحقت نتنياهو بالصور والأحاديث بدت أقرب إلى أعمال المسرح من أعمال القتال، فالمجلس الأمني الإسرائيلي يجري اجتماعاته في مخبأ محصن تحت الأرض، كأن الحرب قد قامت وإسرائيل في خطر وجودي والحفاظ على حياته من ضرورات كسب الحرب، ربما يقصد كسب الانتخابات. استخدام ورقة التهديدات الأمنية قاعدة عامة في المواسم الانتخابية الإسرائيلية، لكن نتنياهو أفرط في استخدامها لنفي اتهامات تلاحقه بإضعاف الجيش الإسرائيلي أمام حركة «حماس» في قطاع غزة، وعجزه عن إلحاق هزيمة سياسية بإيران رغم توافر حلفاء إقليميين لم يكن من المتصور أن يقفوا في معسكره.
لهذا السبب أدخل غزة في نطاق عملياته العسكرية، خرق الهدنة وقصف مواقع واشتبك مع مقاتليها، بالإضافة إلى استهداف موقع لـ «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة» في سوريا. المثير في القصة كلها ذلك النزوع الإسرائيلي إلى التصعيد العسكري غير المحسوب، الذي قد يفضي إلى حرب إقليمية لا يمكن استبعادها بالفعل ورد الفعل، فيما تميل إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى نوع من التهدئة مع إيران وفي ملفات إقليمية أخرى مثل الحرب في اليمن قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية بعد عام.
هناك فرضية تتحدث عن صراعات داخل الإدارة الأميركية بشأن إيران والتصعيد العسكري الإسرائيلي، الذي يحظى بدعم معلن من رجال مثل جورج بومبيو وزير الخارجية ومايك بينس نائب الرئيس وجون بولتون مستشار الأمن القومي، فيما لا تخفي مؤسسات أخرى مثل البنتاغون انزعاجها من ضرب العراق حيث يمكن أن يتعرض الضباط والجنود الأميركيون للخطر إذا ما أفلتت الأمور من عقالها، أو دفع الأمور إلى حرب إقليمية ليست في صالح الولايات المتحدة. كما هي العادة في مقامرات السلاح فإن الحسابات الدولية والإقليمية سوف تحكم إلى حد كبير التفاعلات وتضع لها حداً شرط أن تتوافر لها القدرة على لجم هوس التصعيد الإسرائيلي.
* كاتب مصري