صناعة الثقافة (cultural-industry) مصطلح استخدمه مفكّرو مدرسة فرانكفورت الشهيرة، ولا سيما أدورنو وهوركهايمر، للإشارة إلى الطريقة التي استولت بها المصالح التجارية على الثقافة، وتعبيراً عن الفزع إزاء ما للثقافة الجماهيرية من أثر أو مفعول يعمل على حتّ إدراكنا لما هو قيّم ثقافياً. وهذا يعني تحويل الثقافة في أغلب أشكالها إلى سلعة تخضع لشروط السوق كأيّ سلعة، إنتاجًا وتصديرًا واستيرادًا واستهلاكًا، إلخ. تعتمد الصناعة الحديثة للثقافة على توجيه المجتمعات المستهدَفة إلى ما يُنتَج لا إلى ما تحتاج إليه هذه المجتمعات حقيقةً. وذلك عبر إيهامها بأنّ ما ينتج هو جلّ طموحها وغايتها. ولا يقتصر هذا المفهوم على المنتجات الإلكترونية «الذكية»، والألبسة والأطعمة الجاهزة، وثقافة التقليد، بل بات يتعدّاها إلى أدقّ تفاصيل الحياة وإعادة إنتاجها، كالحب والفرح والحزن والصحة والحرية ومعايير تقويم البشر. وهذا ما صار يعرف بـ«هندسة السلوك البشري»، حيث تعمل صناعة الثقافة الجديدة على تكريس معايير ثابتة للأنماط البشرية، وتحاول أن تجعل العالم صورة واحدة مستنسخة ومكررة تباع فيها المادة الثقافية والفنية معلّبة كأيّ سلعة، شأنها شأن المستهلكين أنفسهم الذين بات بالإمكان أيضاً استبدالهم وبيعهم وشرائهم، وصناعة رأيهم العام وصوغ الواقع وقولبته في أذهانهم.
لم يعد رأس المال، إذاً، يسعى إلى احتكار المنتجات وتسويقها فحسب، بل بات يحتكر العقول ويعمّم التنميط الثقافي والاجتماعي أيضاً. وقد حوّل لهذه الغاية أدوات الثقافة بغالبيتها، من وسائل إعلام ودور نشر ومؤسسات صحافية وسينمائية، إلى متاجر تسويقية تُصاغ الثقافة فيها على المقاس. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ القارة العجوز ذاتها لم تكن بمنأى عن هذا الغزو الذي قادته الولايات المتحدة الأميركية في القرن المنصرم، في «أمركةٍ» للعالم تسلّع الثقافة وتفرغها من عمقها المعرفي والنقدي وتنمطها على نحو موحش.
في كتابه «القرن الأميركي» (1941)، أنبأنا هنري لوك بسيطرة أميركا على العالم عبر «مزيج من القوة الاقتصادية والسيطرة الإعلامية وخلق الأفكار وصناعة الوعي، والرأي العام سيكون هو الجوهر الجذري الجديد للسلطة، سواء داخل البلاد أو خارجها». وهذا ما أكده تقرير صادر عن إحدى لجان الكونغرس الأميركي بعنوان «كسب الحرب الباردة والعمليات الأيديولوجية والسياسة الخارجية»، إذ جاء فيه: «يمكن متابعة مواضيع السياسة الخارجية بالتعامل مباشرة مع الحكومات، وكذلك من خلال استخدام التكنولوجيا الحديثة وتقنيات الاتصالات التي تمكننا من الوصول إلى شرائح كبيرة ومؤثرة من سكّان البلدان الأخرى لإيصال المعلومة إليهم والتأثير في توجهاتهم، وربما في أوقات حساسة لتحفيزهم أيضاً نحو القيام بعمل معين. وحتى جعل هذه المجاميع قادرة على ممارسة ضغوط حاسمة على حكوماتها».
لم يعد رأس المال يسعى إلى احتكار المنتجات وتسويقها فحسب، بل بات يحتكر العقول ويعمّم التنميط الثقافي


لا يخفى على أحد سيطرة وكالة المخابرات الأميركية «سي آي إيه» ــــ منذ مطلع القرن المنصرم ــــ على صناعة معظم الأفلام والبرامج التلفزيونية، بهدف تلميع صورة السياسة الأميركية الداخلية والخارجية، وتدمير كل ما يقف في طريقها، والتحكم بالمجتمعات داخل البلاد وخارجها وعلى المستويين العقلي والعاطفي عموماً. وهو ما ذكرته تريشيا جنكيز، مؤلفة كتاب «دور السي آي إيه في هوليوود». فقد أكدت بالوثائق مدى تدخل الوكالة الاستخبارية في صناعة الأفلام والبرامج التلفزيونية. وقد تكون لجنة كريل في عهد الرئيس ويلسون، المنتخب على أساس برنامج الحياد والسلام، المثال الأوضح على قدرة التحكم بالعقول وتغيير قناعات الرأي العام، حيث أفلحت هذه اللجنة خلال ستة أشهر في تحويل المواطنين المسالمين إلى مواطنين تتملكهم الهستيريا والتعطش للحرب والرغبة في تدمير كل ما هو ألماني وخوض الحرب وإنقاذ العالم. وقد وُصفت هذه الحملة لاحقاً بأنّها «ثورة في فنّ الديموقراطية». ونال ويلسون الذي جرّ بلاده إلى الدخول في حرب عالمية جائزة نوبل للسلام في سنة 1919، مُرسياً أسس تنظيم العقل الجماعي وتصنيع ثقافة الجمهور في العصر الحديث، عبر ماكينة الإعلام الدعائي.
الحقيقة أنَّ المشكلة لم تعد في كشف هذا الأمر وإدراكه، بل في اكتشاف مدى تورطنا في هذه اللعبة القذرة، ومدى غسل أدمغتنا. ونحن نعلم اليوم أنَّ تضليل المصور الفرنسي فليكس بونفيلس (1831-1885) عبر المَنْتَجَة اليدوية لصوره المخادعة عن الشرق الأوسط لم يُكشف إلا بعد مئة عام. ولنا أن نتخيل قدرة الصورة الرقمية بمساعدة بعض برامج الكمبيوترات على التضليل وتزوير الواقع.
نشهد في العصر الحديث امتداداً مهولاً وتفرّداً مرعباً لما بات يعرف بصناعة ثقافة الجماهير أو «جمهرة الثقافة» التي تشكل الآلية الإعلامية الأساس لإنتاج الوعي. فقد حققت ثورة الاتصالات والمعلومات قفزة كبيرة في آليات تشكيل الوعي، واستطاعت بواسطة هذه الآليات أن تسيطر بسهولة أكبر على عملية صوغ الرأي العام المحلي والعالمي. ومن ذلك أنَّ التطور الهائل في آليات صناعة الصورة أدى إلى تهشيم التصور النمطي المعتاد للصورة بصفتها معادلاً موضوعياً للحقيقة. هكذا بات تشكيل الوعي الجماعي وترويض العقل وهزيمته أموراً في غاية السهولة لمن يمتلك هذه الماكينة التي يتحكم بها أقل من خمس مؤسسات في كل أرجاء المعمورة ويدور الباقون في فلكهم. تجدر الإشارة إلى أن هذه المؤسسات كانت قد حققت دخلاً يزيد على 101 مليار دولار في عام 2002، بينما وصل «حد الإنفاق» على الإعلانات في 2004 إلى 260 مليار دولار في أميركا وحدها. يقول هارولد لاسويل: «لا يهم مطلقاً ما يكونه البشر أو ما يعتقدونه، بل ما يمكن أن يُدفعوا لأن يكونوه ويعتقدوه».
لقد بات التمييز بين الحقيقة والخيال، الأخلاق والانحطاط، الجمال والقبح، في ظل هيمنة صناعة الثقافة أمراً محالاً. وهذا ما يدعو إلى إعادة التأكيد على ما أفرزته هذه الصناعة من «ثقافة زائفة» وما يلزمها من أدوات كالمثقفين الزائفين والفنانين الزائفين والمنتجات الزائفة والإعلام الزائف، حيث يُعتبر هذا الأخير العرّاب الأكبر لكلّ ما سبق. وقد حاولت الثقافة الحقيقية بكل طاقتها وقوتها مقاومة ذلك، إلا أن ماكينة الإعلام كانت من الذكاء والقدرة بما يكفي لتذويب كل ما هو حقيقي بما يخدم مصالحها وغاياتها، عبر صهر الحدود بين الثقافة التجارية والثقافة الحقيقية، إلى أن باتت هذه الأخيرة مُسخرةً لخدمة الأولى عوضاً عن أن تكون سبيلاً للارتقاء بالحياة الإنسانية.
في أواخر القرن المنصرم، قال الصحافي الشهير جون سوينتون، رئيس التحرير السابق لصحيفة «نيويورك تايمز»: «هنا، في أميركا، لا توجد صحافة مستقلة، نحن جميعاً عبيد. أنتم تعلمون ذلك وأنا أعلم ذلك، وإذا ما سمحتُ بنشر أخبار صادقة في صحيفتي فسيطردونني من عملي خلال أربع وعشرين ساعة، وستنتهي حياتي الصحافية. على الرجل الأحمق الذي يرغب في كتابة آراء حقيقية أن يبحث عن عمل آخر. إن عمل صحافيي نيويورك هو أن يكذبوا ويضلّلوا، ويشوّهوا الحقيقة، وأن يحرّفوا الوقائع من دون أي خجل. نحن مجرد أدوات، تابعون لرأس المال الذي يقف وراء الكواليس. إننا مجرد دمى، هم يحرّكون الخيوط ونحن نرقص. إنّ وقتنا وذكاءنا، وإمكانياتنا وآراءنا كلّها ملك أناس آخرين. نحن فكرياً كالعاهرات».

* كاتب سوري