بثّت قناة «الجزيرة» القطرية، الأحد ١٤ تموز/ يوليو ٢٠١٩، فيلماً وثائقياً عن البحرين بعنوان «اللاعبون بالنار»، ضمن حلقات البرنامج الاستقصائي «ما خفي أعظم»، الذي يقدّمه تامر المسحال. استند الوثائقي إلى تسجيل مرئي لعُضوين سابقين في تنظيم «القاعدة» – فرع البحرين، تم تصويره في تموز/ يوليو ٢٠١١، وبقي طيّ الكتمان نحو ثمان سنوات، حتى سُرّب لـ«الجزيرة»، من قِبل جهة لم تكشف القناة عن هويتها. كما بث الوثائقي مقابلات مع ضابِطَين ومستشار مُنشقين عن النظام، عكست آراءهم ما خفي من علاقات بين الحكم البحريني ومتطرفي «القاعدة»، والانشقاقات - الضّيقة لكن المعبّرة - في جهازه العسكري، وتحديات القصر في إدارة العائلات السّنية، وحربه المستندة إلى نظرية تجفيف الينابيع مع المجتمع الشيعي.
الحقبة المرصودة
يُغطي الوثائقي سنوات حكم الملك حمد، الذي اعتلى كرسي الإمارة في آذار/ مارس ١٩٩٩، وأعلن نفسه ملكاً في ٢٠٠١. ويمكن اعتباره تقييماً للعهد الملكي، الذي دُشّن بمصالحة وطنية واعدة (شباط/ فبراير ٢٠٠١)، وعلاقات مُبشرة مع الدوحة بعد حلّ الخلاف الحدودي معها (آذار/ مارس ٢٠٠١).
لكن، بعد نَحو عقدين من ذلك، آلت الأمور إلى ارتهان كامل للسعودية، وحماس للمساهمة في حصار غير معهود ضد الجار القطري، وريادة في التطبيع مع إسرائيل، وتنامي الحضور العسكري الأجنبي في الجزر، ودين عام يناهز ثمانين في المئة من الناتج المحلي، وتحديات معيشية تواجه قطاعات واسعة من المواطنين (ثلث القوى العاملة تتقاضى راتباً في حدود ألف دولار أو أقل) وطغيان التجنيس، وشيوع الطائفية، وإرباك في العلاقة مع «الإخوان المسلمين»، وشرخ في الثقة بين أبرز العائلات البحرينية والحكم، أفرزت هجرة إلى قطر، وقطيعة كاملة بين القصر والمعارضة، وحرب علنية وغير مسبوقة ضد مختلف القطاعات الشيعية.

أبطال الوثائقي
جميع أبطال وثائقي «اللاعبون بالنار» من الموالين:
1. محمد صالح، أحد قيادات تنظيم «القاعدة» – فرع البحرين. وقد أقر، في تسجيله المرئي، بوجود علاقة غير مُعلنة بين الأجهزة الرسمية البحرينية والتنظيم الإرهابي، نُسجت، منذ ٢٠٠٣، عبر ضباط أمن الدولة، بمبادرة من السلطات العليا في البلاد. كما كشف الرجل عن تكليفه من قِبل السلطات البحرينية بتنفيذ عمليات اغتيال لمعارضين، والبدء بتصفية القيادي عبدالوهاب حسين، الذي يتمتع بثلاث خصال: الصلابة، التصور النظري، والشعبية. صالح مقيم حالياً في المنامة، ولم يتعرّض للمساءلة بعد بث الوثائقي، بل ظهر على تلفزيون البحرين مؤكداً صحة الفيديو الذي عرضته «الجزيرة»، مبرّراً تسجيله في سياق مناكفة الحكومة في حال تم اعتقاله أو أيّ من زملائه القاعديين.
2. القيادي القاعدي هشام البلوشي، الذي قتلته السلطات الإيرانية في ٢٠١٥، باعتباره أحد قادة «أنصار الفرقان»، التي تبنّت عمليات إرهابية عدة ضد الحرس الثوري لإيراني. اعترف البلوشي، في تسجيله المرئي، بأن السلطات البحرينية زوّدته باللوجستيات المطلوبة، من مال وسلاح، لتنفيذ أعمال قتل على الضفة الغربية من الخليج. وقد اعتدنا صُراخاً من المنامة بأن طهران تتدخل في شؤونها، بيد أن تصريح البلوشي يقدم تصوّراً آخر.
3. الضابط السابق في الجيش البحريني ياسر الجلاهمة. وأُجريت المقابلة معه في الدوحة، مقر هجرته منذ ٢٠١٣. أفاد الجلاهمة بأنه قاد سرِيّة مكونة من ٧٠٠ مجنّد، مدججين بالسلاح، ومدعومين بالطائرات العمومية، لفض الاعتصام السلمي في دوار اللؤلؤة، في ١٦ آذار/ مارس ٢٠١١، بعد يوم واحد من إعلان حالة الطوارئ، ودخول القوات السعودية الإماراتية إلى الجزر. القائد العسكري شهد بأن المُعتصمين في الدوار كانوا عزّلاً من السلاح، وقد تفرّق أغلبهم دون أي مواجهة تذكر مع القوات الأمنيّة، لكن الأخيرة وضعت أسلحة في مقر الاحتشاد، وقامت بتصوريها، وادّعت أنها تخصّ المعتصمين.
وسبق أن أبرز تقرير «اللجنة المستقلة لتقصي الحقائق» (المعروف بتقرير بسيوني) الصادر في تشرين الثاني/ نوفمبر ٢٠١١، سلمية الحشود في دوار اللؤلؤة، بيد أن إفادة قادمة من قلب المؤسسة العسكرية لها وزن خاص، وتعدّ شهادة حاسمة تعزز سردية المعارضة، التي تتلقى الضربات العنيفة، وتردّ بإصدار البيانات ورفع شعار السلمية.
4. الضابط السابق في الجيش البحريني محمد البوفلاسة، الذي انضم إلى المتظاهرين في ٢٠١١، واتَّهم الحكومة بالإرهاب، وسحق المحتجين، وإطلاق النار عليهم، واستخدام المواطنين ورقة ضدّ حركة الدوار، وبعد الفتك بالحركة المطلبية، عملت الحكومة جاهدة لتشتيت الحركة الموالية.
5. صلاح البندر، المستشار السابق لحكومة البحرين، الذي أكد قيام القصر بالتحكم بالعملية الانتخابية، والعمل على خلق فتنة شيعية ـــــ سنية، ووضع خطط سريّة لتسعيرها، وتنفيذ مخطط هيكلي بغية عزل المناطق السكنية الشيعية في كنتونات. وقد أنهى الرجل، وهو سوداني الأصل، مقابلته بالتحذير من تحول البحرين إلى «دارفور» أخرى.

التخادم: الفرضية المثبتة والهواجس المتبادلة
أثبتت اعترافات محمد صالح الافتراض الذي ظلّ غير مؤكد طويلاً، عن وجود تنسيق ما بين تنظيم «القاعدة» والطبقة الحاكمة البحرينية. جرى التواصل بين الطرفين في صيف ٢٠٠٣، بعد أشهر قليلة من احتلال واشنطن للعراق، مع تصاعد القلق الأميركي من نمو تنظيم «القاعدة» وأخواته، وفزع المنامة والإقليم الخليجي من «الصعود الشيعي» في بغداد، إثر السقوط المدوي لنظام صدام حسين.
حاول كلّ من تنظيم «القاعدة» الطموح، حينها، والنظام البحريني القلق، استثمار الآخر، لكن الشكوك ظلّت متبادلة. والسؤال الذي شغل المنامة تمثّل في إمكانية توجيه سلاح المتطرفين إلى صدور المعارضين، وإقناعه بعدم استهداف المصالح الأميركية، والمنشآت الحكومية.
كما أمِلت السلطة في استخدام «القاعدة» لتسعير المعركة الطائفية في البلاد، والدفع بالبحرين في أتون الصراع الإقليمي، والتخويف من نموذج «الخراب العراقي»، وأنه على «القاعدة» وعموم الموالين القيام بعمليات استباقية لمنع ذلك.
حاول كل من تنظيم «القاعدة» الطموح والنظام البحريني القلق استثمار الآخر


رعاية حكومة المنامة للعناصر القاعدية لم يهدّئ المخاوف الأميركية من فرضية تعرّض منشآتها للتهديد. لذا طلبت واشنطن تكراراً من المنامة اعتقال أشخاص معيّنين، فيما بادرت الحكومة إلى اعتقال مجموعات مصنّفة ضمن قوائم المتطرفين.
تدرك واشنطن، كما المنامة، أن خروج التنظيم المُتطرف عن الخط المرسوم له احتمال قائم. وصحيح أن سقوط برج التجارة العالمي في نيويورك (٢٠٠١) على يد القاعديين، يمكن عدّهُ عَرَض جانبي لانهيار الاتحاد السوفياتي، الذي أُنهك في أفغانستان، على يد التحالف الأميركي السعودي والمجاهدين الأفغان حينها، لكن ذلك لم يقلّل من مرارة الهجوم الدموي على قلب أميركا.
بالنسبة إلى محمد صالح، المُكلّف بعملية الاغتيال، فقد أعمته حماسته حتى عن التفكير في أسباب امتناع حكومة المنامة عن مدّه بالسلاح، وقد قاده ذلك إلى الوقوع في أسر الرياض بضعة أشهر، قبل أن يتدخل الملك حمد للإفراج عنه، ووعده بتعويضه عن ظروف الاعتقال.
ورغم أن بعض أشكال التخادم استمرّت بين «القاعدة» والمنامة، وقد غذّته، بعد ٢٠١١، التطورات في البحرين وسوريا واليمن، فإن الملاحقات الأمنية لم تهدأ ضد المتشددين من ذوي الخلفيات القاعدية أو الداعشية.
وتُظهر تسجيلات صالح والبلوشي، التي صُوّرت في ذروة «الربيع العربي» (صيف ٢٠١١)، بأن المُتطرفين كانوا يضعون في اعتبارهم نظرة القصر الذي يعطي أولوية للعلاقات مع واشنطن على ما عداها، وإنه قد يستخدم أعضاء «القاعدة» للفتك بـ«ربيع البحرين» ولخلط الأوراق في بلدان أخرى في المنطقة، ثم يفتك بها.

التجنيس والهجرة
جدّد وثائقي «الجزيرة» القلق الذي ينتاب الحكم البحريني إزاء هجرة عائلات مقرّبة من أسرة آل خليفة الحاكمة إلى قطر.
حديث الضابط الجلاهمة والآخرين، عن أسرار الدولة البحرينية، يطرح أسئلة عن حجم المعلومات التي باتت في حوزة الدوحة جرّاء هجرة أشخاص كانوا في موقع المسؤولية. ولا يقلل من ذلك احتفاظ الدوحة بتلك المعلومات، وعدم بثّها للملأ عبر قناة «الجزيرة» أو غيرها. ولا يمكن فصل الهجرة عن التجنيس الذي يؤدي إلى تدنّي مكانة الأسر التي تعدّ نفسها عريقة وقبليّة، في العديد من الحالات المرصودة.
في ما يخص الضابط ياسر الجلاهمة، فقد هاجر إلى قطر في ٢٠١٣ – بحسب السردية التي يرويها للكاتب مصدر مقرب من المهاجرين - على خلفية مشادة جرت بينه وبين مُجند مُجنس يعمل تحت أمرته في الجيش البحريني، حيث قرر الجلاهمة، وفق صلاحياته، إيداع المجنس في السجن حتى يحين وقت إحالته على التحقيق. تفاجأ الجلاهمة بصدور أمر من قيادة أعلى منه بالإفراج عن المجنّد، بالنظر إلى حاجة الجيش إلى عدم إثارة المجنسين في ظل الصراع مع المعارضة، كما برر المسؤولون حينها. شعر الجلاهمة بالإهانة فقرر الانشقاق عن الجيش، والهجرة إلى قطر.
تلك القصة جرت على نحو شبيه مع رئيس مجلس بلدية الجنوبية علي المهندي، الذي يرى أنه أسيء له من قِبل عضو بلدي مُجنّس، ولم يجد «البحريني الأصلي» – كما يَعتبر المهندي نفسه - له مناصراً. وإلى جانب اعتبارات أخرى، يمكن ربط هجرة النائب السابق حمد المهندي وشقيقه رئيس مجلس بلدية الجنوبية إلى قطر، وكذا تمرد الضابط محمد البوفلاسة على مسألة التجنيس. وبعكس آبائهم الذين كانوا مُجنّدين معزولين، يتبوأ أبناء المجنّسين، مع مرور الوقت، مكانة تزداد عُلواً في التراتبية الاجتماعية، والتركيبة العسكرية والأمنية والمدنية والقضائية والمجالس المنتخبة، وتتنامى قدراتهم المالية وحضورهم التجاري. ويريد القصر فرض هذه المعادلة بالإكراه على المواطنين، في ظل تعاطف الإقليم والغرب مع هذا المسلك الذي يحول البحرين إلى بلد غير الذي ألفناه وعرفناه. وإذا استمر هذا النهج، قد يتمكن الحكم من تحقيق مراده، في هندسة بحرين جديدة، يكون المجنسون أحد أهم عناصرها، ويُذوّب المواطنون وسط المجنسين والعمال الأجانب، وتتكرس الثورة الاقتصادية في يد أطراف بعينها، وتوجيه الجغرافيا الصغيرة للجزر لخدمة هذه التوجهات.
ويعكُس التجنيس نوعاً من عدم ثقة العائلة الحاكمة في النخبة المحيطة بها، ما يدفع الحكم إلى وضع مجنّسين في مواقع مهمة، إضافة إلى الأثر الأبعد للتجنيس في إحداث خلل ديمغرافي في الجزر، يطيح بالأغلبية السكّانية الموجودة حالياً.
شملت الهجرة إلى قطر، بعد ٢٠١١، أفراداً وأسراً بكاملها، تجّاراً ونواباً وعسكريين، من عائلات البوعينين، الرميحي، المهندي، الكواري، المسلّم، والجلاهمة وغيرهم من الأسر التي تصنّف تقليدياً على أنها قبلية مثل آل خليفة.
وتعتقد حكومة البحرين أنها أوقفت ما تعتبره «نزيف» تجنيس قطر لمواطنين يفترض أنهم موالون للحكم، بعد إثارة الموضوع خليجياً، في ظل الأزمة الأولى مع الدوحة قبل نحو خمس سنوات (٢٠١٤).
تقليدياً، يقف سنّة البحرين موقفاً إيجابياً من هجرة أقرانهم إلى الدوحة باعتبار البلدان الخليجية كياناً واحداً، والعلاقة بين الدوحة والمنامة ذات خصوصية أسرية. بيد أن العائلات السنية البحرينية لزمت الصمت إزاء الموضوع، بعد هجوم الحكومة على المهاجرين، في ٢٠١٤. (انظر مقالي: «ما وراء الهجرة السنية من البحرين إلى قطر»، «الأخبار»، 5 أيلول / سبتمبر 2014).
ولا تعرض الدوحة الجنسية على البحرينيين بالمبدأ، إلا أنها تقول إنه يمكن النظر في مدى الحق في التجنس لأشخاص يثبت لهم جذور، من ناحية الأب، في شبه جزيرة قطر. لكن ليس من المبالغة القول إنه لو فتحت قطر باب تجنيس البحرينيين على مصراعيه، لاصطف الآلاف لنيلها، نظراً للتدهور الحاصل في البحرين أمنياً وسكّانياً.
* كاتب وصحافي من البحرين