كانت ولا تزال المادة 95 من الدستور الأكثر إثارة للجدل، والأكثر تعطيلاً لتطبيقها من قبل السلطات المتعاقبة. النص، في متنها، على الطابع المؤقت لاعتماد القيد الطائفي في توزيع المناصب والوظائف العامة، استمر قبل تعديلها بالقانون الدستوري الصادر بتاريخ 21/9/1990، حوالى خمسين عاماً! القانون الدستوري المشار إليه هنا هو ذلك الذي كرّس في الدستور التغييرات التي أدخلها «اتفاق الطائف» على صلاحيات وتوازنات المؤسسات الدستورية. مضمون المادة 95 من الدستور في صيغتها الجديدة إقرار آلية «إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية» يضطلع بها «المجلس المنتخب على أساس المناصفة، بين المسلمين والمسيحيين». وذلك عبر «تشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم، بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء، شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية».مضى على إقرار هذا النص حوالى 30 عاماً، شهدت، بشكل عام، تعطيلاً لمضمون هذه المادة الملزمة التطبيق، كسواها من مواد الدستور (إلا بعض المحاولات الخجولة التي كان معظمها أقرب إلى المناورات السياسية). شارك في هذا التعطيل جميع أفرقاء السلطة بدرجات متفاوتة. شارك في ذلك أيضاً الراعي السوري طيلة فترة إدارته للبلاد بين عام 1989 و2005.
اليوم يعود رئيس الجمهورية العماد ميشال عون إلى هذه المادة من أجل «تفسيرها». وكل تفسير للدستور بحسب القانوني الكبير الراحل إدمون ربّاط هو «تعديل» له، كما أوضح في رده على رئيس مجلس النواب السابق السيد حسين الحسيني (تُراجع مطالعاته في كتاب «الدستور اللبناني أحكامه وتفسيرها للمستشار» كميل منسى). تقدير ربّاط يقع في مكانه تماماً عندما يتعلق الأمر برسالة الرئيس عون. فالعماد عون ناهض «اتفاق الطائف» وخصوصاً بنوده الإصلاحية. تباهى بذلك مراراً وتكراراً متفاخراً بأنه رفض أن «يوقِّع». اليوم يواصل الرئيس عون وفريقه السياسي، عبر ثنائية شعاري «الرئيس القوي» «واستعادة الحقوق»، وجملة مواقف وممارسات متواصلة ومتصاعدة، تجاوز التعطيل إلى محاولة إلغاء البنود الإصلاحية وفي مقدمها تلك، في المادة 95، التي تنص على تشكيل هيئة «إلغاء الطائفية السياسية». في ممارسة الرئيس عون وفريقه، عموماً، وفي مسألة مباريات مجلس الخدمة المدنية المعطلة منذ حوالى خمس سنوات بذريعة عدم التوازن الطائفي بشكل خاص، ما يؤكد بشكل قاطع، أن المطلوب من قبل رئيس البلاد تعديل الدستور وليس مجرد تفسيره بسبب احتمال وجود مجرد التباس في النص.
الحقيقة الساطعة أن النص لا يحتاج إلى «تفسير» كما يطالب الرئيس عون، وهو جاء على الشكل الآتي:
أ - «تمثل الطوائف بصورة عادلة في الوزارة.
ب- تلغى قاعدة التمثيل الطائفي ويعتمد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها، وفيما يعادل الفئة الأولى فيها، وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة مع التقيد بمبدأي الاختصاص والكفاءة».
أخضع هذا النص الصريح والقاطع في وضوحه لسياسة «التفتيش تحت الأظافر». الجملة الواردة في صيغة «وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني» والتي تبرّر استثناء وظائف الفئة الأولى، يجري اللجوء إليها وإقحامها في خارج السياق والمعنى التبريري الذي أضيفت بسببه، من أجل إطاحة نص حاسم وقطعي، بطريقة رغائبية، وإلحاقه بالفقرة «أ» المتعلقة بالتوزيع الطائفي في الوزارة وبالـ «استثناء» المتعلق بوظائف الفئة الأولى...
الأخطر في هذا الأمر، تجاوز تعليق وتأجيل وتعطيل الإصلاحات التي لن يكون لبنان دولة ولو بالمعنى البسيط للكلمة، بدونها، إلى الارتداد على هذه الإصلاحات ومحاولة إلغائها بالكامل. يتواصل هذا النهج موجِّهاً سياسات فريق يحتل الموقع الأول المسؤول في البلاد. الرئيس عون، كرئيس للبلاد، هو الوحيد الذي يقسم على احترام الدستور. وهو كان أعلن في سياق معركته الانتخابية التي تعطّل معها إشغال الموقع الأول في البلاد لحوالى سنتين، أنه موافق على «اتفاق الطائف» الذي هو مصدر تعديلات الدستور لعام 1990 ومصدر إصلاحاته. إن وقائع كثيرة ومتلاحقة تسمح بالقول إن التيار العوني يسعى، ضمن خطة ومسار، إلى استعادة مرحلة الامتيازات مفسراً أهميتها وصفتها كما وصفها ناطقون باسمه في الإعلام والتصريحات، باعتبارها «ضمانات» وليست امتيازات. المسؤولون الكبار في «التيار الوطني الحر» لا يترددون في المباهاة بإنجازاتهم وفي المضي في نفس السياسات. ويتضح الآن أن كل ما نسجه التيار من تحالفات وعلاقات، وما ينظّمه من حملات، وينخرط في صراعات، وما يتخذه من مواقف وسياسات... إنما يصبّ في خدمة أهداف الخطة والمسار المشار إليهما.
لا فائدة من القول إن المأمول كان غير ذلك من قِبل تيار ناشئ وحديث، بأن يغادر ما تبلور وترسّخ من تقاليد قديمة وحتى متخلفة في السياسة اللبنانية، إذ لا بد من التحذير من مخاطر تمادي هذا النهج في إضعاف فرص قيام دولة مواطنة ومساواة بين اللبنانيين. فالدويلات هي التي تحول دون قيام الدولة، والمحاصصة، الطائفية والمذهبية، تحول دون قيام المؤسسات ودون قيامها بدورها، ودون بناء وحدة وطنية حصينة. العكس هو ما يحصل في هذه الأيام. وهو أمر خطير في ظروف صراعات المنطقة وتفشي الحروب والتصدعات داخلها وفيما بينها، وكذلك التدخل الخارجي والعدوانية الأميركية والأطماع الصهيونية.
من نافل القول إن أزمات لبنان الراهنة، الاقتصادية منها بشكل خاص، والناجمة عن النهب والفلتان والفساد وغياب المحاسبة، باتت أكثر خطورة الآن وأبعد من أن يجري التصدي لمعالجتها أو لاحتوائها بما يمنع الإفلاس والانهيار التام.
إن المقاربات التقليدية السابقة، قد أبقت لبنان وطناً هشاً مفككاً وقيد الدرس، ما يتطلب مقاربة وطنية إنقاذية تنهض بها قوى حريصة وعريضة ومتضررة عبر مبادرة موحدة وفعّالة... وفي أقرب وقتٍ ممكن.


* كاتب وسياسي لبناني