إنّ جوهر وثيقة الوفاق الوطني أو ما عُرف باتفاق الطائف، لم يكن يرمي إلى مأسسة الطائفية في المجتمع اللبناني، وتسخير كلّ مؤسسات الدولة في خدمة الطوائف، بما يُضعف الانتماء الوطني لصالح الممارسات الفئوية أو المذهبية.إنما أراد التخلّص من كل ويلات الحروب وما أسفر عنها من غبن وهجرة وبطالة وتفكك، بمعالجة تدريجية تقود المواطن إلى مرحلة يدرك فيها أهمية المواطنية والروح المدنية لجهة بناء وطن يعيش من خلاله جميع أبنائه تحت مظلة القوانين والدستور دون تمييز، وبشكل يؤمّن الإمكانات لتطبيق الفقرة «ج» من مقدمة الدستور التي تنصّ على أن «إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني يقتضي العمل لتحقيقه وفق خطة مرحليّة»، وعلى هذا النحو جاءت الحلول الإصلاحية للصبغة الطائفية اللبنانية، بعد تعديل المادة 95 من الدستور من خلال فقرتين:
الفقرة الأولى: «على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية....».
الفقرة الثانية: «تُلغى قاعدة التمثيل الطائفي، ويُعتمد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها، وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين دون تخصيص أية وظيفة لأي طائفة مع التقيد بمبدأي الاختصاص والكفاءة».
لا يجب تغليب العقلية الطائفية على النسيج المجتمعي المتكامل


وإن كان هذا النص في غاية الوضوح لجهة دعوة كل السلطات الدستورية إلى العمل على إلغاء الطائفية السياسية في المستقبل، وبالمباشرة، كمرحلة أولى، في اعتماد قاعدة العدالة بين الطوائف بالتوازي مع الالتزام بإلغاء التوازن الطائفي في الوظيفة العامة باستثناء الفئة الأولى، إلا أن هناك من يرى أن المادة 95 من الدستور لا تلغي التمثيل الطائفي في كل الوظائف العامة إلا بعد تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، بهدف تبرير الإبقاء على التوازن الطائفي لكلّ الوظائف العامّة، بذريعة الحفاظ على مقتضيات الوفاق الوطني، بغضّ النظر عن طبيعة المرحلة السياسية، انتقالية أو تأسيسية، رغم أن في هذا النص دلالات تغاير هذه الممارسات، بالتفسير الحقيقي للمادة 95، وفق المفاهيم التالية:
- إن النص الدستوري، السالف ذكره، يُلزم السلطتين التشريعية والتنفيذية بالعمل على تنفيذ برنامج متكامل في سياق خطة زمنية تلي إقراره، من جملتها إلغاء التمثيل الطائفي في الوظائف العامة، وبالتالي لم يشترط، تلازماً، تعطيل إلغاء التوازن الطائفي في حال لم تتشكّل الهيئة الوطنية، تبعاً لخصوصية كلّ مرحلة على حدة، باعتبارهما من الإجراءات التمهيدية لتحقيق الهدف المنشود، بحسب الفقرة «ج» من مقدمة الدستور، وهو إلغاء الطائفية السياسية، لا سيما أن المشرّع عندما يريد تقييد السلطات بعمل ما، يفصح عن ذلك صراحة.
- بحسب الفقرة الثانية من المادة 95، اعتمد المشرع الدستوري مصطلح «المرحلة الانتقالية»، وهو تأكيد على المرحلة التي تسبق ظروف ومقتضيات إلغاء الطائفية السياسية بهدف الوصول إلى الغاية المرجوّة وهي تجاوز التمثيل الطائفي في كل الوظائف والقطاعات دون استثناء إلى حين الانتهاء من المرحلة الانتقالية، وهو ما دفع المشرع إلى تحديد خصائض والتزامات المرحلة الانتقالية التي تتلخص بالقواعد التالية:
أ- «تمثّل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة»:
لما كانت المواد الدستورية لا تقبل التجزئة، أو الانتقائية وفقاً للمصالح السياسية، فإن القبول بمبدأ ضرورة التمثيل الطائفي المتوازن في الوزارة، يعني، حكماً، وجوب تجاوز التمثيل الطائفي في الوظائف العامة، وإلا لماذا الاعتراف بجزء من هذه المادة، وغضّ النظر عن الجزء الآخر من المادة نفسها!
ب- «تلغى قاعدة التمثيل الطائفي، ويعتمد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات الأمنية والعسكرية والمؤسسات العامة والمختلطة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفئة الأولى...»:

• إن المشرع، في هذه الفقرة، عندما يؤكد إلغاء التمثيل الطائفي واعتماد الكفاءة في الوظائف العامة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني، يريد أن يجعل الوظائف العامة، باستثناء الفئة الأولى، مطابقة للوفاق الوطني وليست مشروطه به، لأنها لم تأت في سياق الشرطية، بل في سياق «الهدفية»، والفرق واضح ما بين السياقين، إفصاحاً من المشترع على أنّ التخلص من التمثيل الطائفي مستفاد حكماً من إرادة كل المكونات السياسية التي تحتكر التمثيل الشعبي والسياسي، وذلك كحدّ أدنى، في مرحلة انتقالية، بعد الحروب والرواسب الطائفية، والتي جرت ترجمتها في اتفاق الطائف، علاوة على أن ليس من المنطقي أن يقتضي الوفاق الوطني، على سبيل المثال لا الحصر، بمخالفة المادة 7 من الدستور التي تؤكد المساواة بين اللبنانيين لجهة الحقوق والواجبات، أو على مخالفة المادة 12 من الدستور لجهة عدم التمييز إلا من حيث الجدارة والاستحقاق في تولّي الوظائف العامة، باعتبار أن الدستور لم يُشِر، من قريب أو من بعيد، إلى المقصود بمقتضيات الوفاق، ما يوجب التساؤل التالي: كيف يمكن أن نضع الوظائف العامة، ولو باستثناء الفئة الأولى، تحت قيد الوفاق وهو لم تتحدد في خانته أي توضيح أو تفصيل، في حين أن هناك فقرات واضحة وصريحة تخرج الوظيفة العامة من نطاق الطائفية، سواء في المادة نفسها أو في المادتين 12، 7، ولو أننا في صدد مرحلة مؤقتة وانتقالية، بدليل أن المشرع عاد واستثنى وظائف الفئة الأولى من نطاق الاختصاص والكفاءة، تأكيداً على أنها من متممات البنى الطائفية الراسخة في المجتمع اللبناني، والتي يتطلب الخروج منها لحظة انتهاء المرحلة الانتقالية، سواء توافر الوفاق أم لا، خصوصاً أن العيش المشترك، الوارد في متن مقدمة الدستور وكذلك في مضمون رسالة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بشأن طلبه في تفسير المادة 95 من الدستور، لا يستقيم بإقصاء بعض اللبنانيين، الذين خضعوا لمباريات مجلس الخدمة المدنية، من الوظيفة العامة، وهو تعطيل واضح للوفاق الوطني لم يقصده المشترع إطلاقاً، إنما القصد كان حاكماً في العلاقات المجتمعية بين اللبنانيين على مختلف شرائحهم وانتماءاتهم.
- المطالبة بإلغاء الطائفية السياسية دون تطبيق شروط المرحلة الانتقالية، بما فيها إلغاء التوازن الطائفي في الوظائف العامة، يعني التفافاً صارخاً على المادة 95 واتفاق الطائف على حد سواء، لأن درجة الإلزام واضحة ولا لبس فيها.
لذلك، واستناداً إلى هذه المفاهيم، لا يجب تغليب العقلية الطائفية على النسيج المجتمعي المتكامل، ما يخالف الغاية التي من أجلها تم وضع وثيقة الوفاق الوطني، لأن من شأن تعطيل نتائج مباريات مجلس الخدمة المدنية أن يورث الشحناء بين اللبنانيين، ويحول دون خلق مجتمع سليم تغلب فيه الروح المدنية والانتماء الوطني السليم على الانتماءات الأخرى، علاوة على ارتفاع معدلات البطالة والهجرة بدرجة مخيفة جداً، فهل سيتفادى المجلس النيابي هذا الخطر الجسيم، عبر تفسير المادة 95 من الدستور وفق معناها الصحيح ويلزم الحكومة بتطبيقه؟
* باحث في القانون الدستوري