أوردت مواقع صحافية بتاريخ 09/07/2019، أنّ مصادرَ مصريّة رسمية كشفت عن احتجاز السلطات المصرية ناقلة عملاقة ترفع العلم الأوكراني كانت تحمل نفطاً إيرانياً، لدى مرورها من قناة السويس قبل نحو 10 أيام. وبالتزامن، احتجز مشاة البحرية الملكية البريطانية في الرابع من تموز الماضي، ناقلة ترفع علم بنما جنوب جبل طارق، تحمل نفطاً خاماً مصدره جزيرة خَرْج الإيرانية، بحجة أنّ السفينة تخرق العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على سوريا منذ عام 2011. وأكّد القائم بأعمال وزير الخارجية الإسباني جوسيب بوريل أنّ احتجاز الناقلة العملاقة جاء بناء على طلب من الولايات المتحدة لبريطانيا... وكانت قضية مشابهة قد أُثيرت أوائل شهر نيسان الماضي، ربطاً بالأزمة الحادة التي شهدها السوق السوري نتيجة نقص المحروقات، حين تضاربت الأنباء يومها بشأن منع السلطات المصرية مرور الناقلات المحمّلة بالنفط الإيراني المتّجهة إلى سوريا عبر قناة السويس، ما بين تصريحات منسوبة لرئيس الحكومة السورية عماد خميس، ونفي الحكومة المصرية للأمر...الوقائع المشار إليها تشترك وتتفاعل معها دول عدّة، فالممر المائي المتمثل بقناة السويس هو ممرّ دولي له طبيعته القانونية في حرية العبور للسفن مختلفة الجنسيات والاستخدامات، وتمارس مصر السيادة عليه، ويتصل بذلك قبول مصر العمل بالعقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة على سوريا، شأنها شأن العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة على الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ما يهمّنا في هذه المعالجة هو تحليل الموقف المصري، على ضوء تفعيل العقوبات على البلدين، وهل في ذلك تغيّر ما في السياسة الخارجية المصرية ومغادرة لموقع الحذر من الانخراط بالصراعات الدائرة في المنطقة، بما يوصف بسياسة «الكمون الإستراتيجي» القائمة على النهوض الداخلي والاستفادة القصوى من الظروف والمعطيات الخارجية لتأمين الداخل، ريثما تتهيّأ الظروف المناسبة العسكرية والاقتصادية والسياسية للإقليم المصري، للعب دور أكثر فاعلية في المنطقة وفق المكانة التي اكتسبتها مصر بعد تحقيق أهداف الكمون الإستراتيجي.
إذا جاز لنا القياس على تجاهل النظام المصري المعتاد للجمهورية الإسلامية ورفضه إقامة علاقات سياسية واقتصادية تناسب حجم البلدين وإعادة الاتصال عبر السفارة المعتمَدة في كلا البلدين، فإنّ الجديد هو منع عبور النفط الإيراني قناة السويس، بعدما كان ذلك متاحاً من خلال غضّ النظر المصري والتساهل بشروط مرور ناقلات غير معلومة المصدر والمآل للتحايل على العقوبات، والذي لم يعد يمرّ على الجانب الأميركي، خاصّة بعدما انسحبت الإدارة الأميركية من الاتفاق النووي وفرضها عقوبات جديدة وشديدة على إيران، واعتماد التشدد نفسه في حصار سوريا، والنظام المصري في هذا الإطار لا يسعه إلا الاستجابة للضغوط الأميركية لتطبيق العقوبات، طالما أنّ المعني بالأمر ـ إيران ـ لا يمثّل شريكاً سياسياً أو اقتصادياً لمصر ولا تربطه علاقات ثنائيّة معتدٌّ بها، وسابقاً كان النظام المصري قد استجاب للضغوط الأميركية بما هو أشد مضاضة عليه عندما قطع علاقاته بكوريا الشمالية، وهي علاقات ممتدّة إلى سنين طويلة منذ عهد جمال عبد الناصر.
تتضح الفكرة أكثر بأنّ مصر تريد مكانة مستقلة في المنطقة وقائدة


والسؤال الذي يفرض نفسه هنا، هل نشهد تغيراً في السياسة المصرية الخارجية تجاه الإقليم السوري؟ وعلى فرض وجود هذا التغيّر فهل هو متّفق عليه؟ بمعنى أنّ الدوائر المصريّة الضيقة التي يخرج القرار منها ـ الرئيس عبد الفتاح السيسي وأجهزة المخابرات ودوائر الأمن القومي التابعة له ـ أبرمت أو ساومت على موقف مصر من سوريا بالتخلّي عن الدولة السورية القائمة وجيشها، أو قبلت الانخراط في أحلاف عسكرية لمواجهة إيران، مقابل استمرار الدعم في ملفات أخرى تفوق كثيراً بأهميتها الموقف من سوريا وإيران، مثل تسهيل تحوّل مصر إلى مركز لتجارة الغاز والطاقة وتحجيم المنافسين في هذا القطاع كتركيا والتعهّد بمواجهة تحركاتها المناوئة في قبرص مثلاً، أو أنّ الأمر لا يعدو كونه تطبيقاً للعقوبات الدولية المفروضة على البلدين، وطالما أنّ أزمة الطاقة في السوق السورية وجدت متنفّساً لها عبر استيراد حاجاتها من لبنان؟ وبالتالي لن يضير مصر أن تسلّف السعودية والولايات المتحدة موقفاً مضاداً تجاه طهران...
الترجيح الأقرب إلى المنطق، يشير إلى الاحتمال الثاني، لا سيّما أنّ السلوك المصري ضمن الحلف السعودي الإماراتي، يدل على وجهة السياسة الخارجية المصرية تجاه الملفَين الإيراني والسوري، والسلوك المصري تجاه السفن التي تحمل نفطاً إيرانياً، هو تطوّر طبيعي ومن ضمن أوراق الضغط الأميركي على إيران، وهو إعلان تضامني مع السعودية والإمارات على ما تعرضت له ناقلتا نفط سعوديتان في 13 أيار 2019 بالقرب من إمارة الفجيرة واتّهام إيران بالوقوف وراءها. لكنّ تمايز المواقف المصرية عن مواقف شريكتيها في التحالف السعودية والإمارات، وعدم انخراطها في خطوات عسكرية خارج السياسة المصرية المعتادة ومقتضيات الأمن القومي المباشر (الصراع الدائر في ليبيا وحماية باب المندب)، منذ حرب اليمن في الستينات لا يزال موجوداً، وله خلفيات أبعد من تجنّب الاستنزاف المالي في ظلّ عملية إصلاح اقتصادية شاملة، منها ممانعة مصر أن تكون تحت راية دولة عربية أو إسلامية وأن تبدو بمظهر التابع السياسي، مضافاً إلى التبعية الاقتصادية للإمارات والسعودية، وهو أمر يزعج حكّام الخليج، ويعتبرون الالتزامات السياسية المصرية تجاههم ليست كافية ولا تعادل الدعم الاقتصادي المقدّم من قبلهم، وتخرج بين الفينة والأخرى تعليقات نخبوية ذات صلة بالقصور الملكية، تعتبر التصريحات المصرية بدعم الخليج «مواقف مطاطة»، وتطالب بحلف مصري سعودي لتعديل المشهد العربي في مواجهة إيران. خالد الدخيل مثلاً تساءل في تغريدة على تويتر: «ما موقف مصر من دور إيران؟ منذ صيف ٢٠١٣ لم يصدر موقف مصري واضح من هذا الموضوع. تتفادى مصر ذكر إيران في تصريحاتها. تكرر تصريحات مطاطة مثل «أمن الخليج من أمن مصر». ما مصلحتها من ذلك؟ هل تقبل مصر أن تجعل إيران أو غيرها ميليشيات طائفية رافعة لدورها تتدخل بواسطتها في دول عربية؟».
يعود هذا الامتعاض إلى نظرة مصر لنفسها بأنها مستقلّة بسياساتها الخارجية، ولا تُملى عليها طريقة التعامل مع الدول الأخرى، وذات تمايز عن بقية الأنظمة العربية والخليجية بوزنها الذي يسمح لها بتحالف مباشر مع الولايات المتحدة في ضمان أمن المنطقة، وعلاقاتها بها «علاقات ثنائية استراتيجية عميقة ساهمت لأكثر من أربعة عقود في تعزيز الاستقرار والسلام في المنطقة»، كما يرى وزير الخارجية سامح شكري، فيما نظيره الأميركي مايكل بومبيو يعتبر مصر «شريكاً ثابتاً في المنطقة»، وهي «شراكة استراتيجية طويلة الأمد وبالغة الأهمية بين بلدينا، وضرورية دائماً»، كما جاء في تصريحاته أثناء زيارته القاهرة في العاشر من كانون الثاني 2019، وهي بالتالي أكبر من أن تباشر أموراً ظرفية بنفسها، وتترك لغيرها مهمّة المواجهة اليومية، على ضوء شعور الرضا الذي يغمرها بأنّها تنسّق مع القوة العظمى بشأن إيران...
تتّضح الفكرة أكثر بأنّ مصر تريد مكانة مستقلة في المنطقة وقائدة، عندما نرى أنها لم تقُم فعلياً بأعمال حربية عسكرية تحت راية عربية أو إسلامية أخرى، هي دعت لإنشاء قوة عربية مشتركة لحفظ وصيانة الأمن القومي العربي، وجرى طرحها في جامعة الدول العربية التي وافقت عليها في 29 آذار 2015، وعقدت اجتماعات عدّة بين أركان جيوش القوة المقترحة، لكنّ المشروع شهد تراجعاً سعودياً عن المضي قدماً به، على خلفية تحديد مهام القوة ومتى تستجيب لتفعيل مهامها ومن العدو الذي سوف تواجهه؟ وأعلنت الرياض عن «التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب»، في 15 كانون الأول 2015، بهدف «محاربة الإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره أيّاً كان مذهبه وتسميته»، حسب بيان إعلان التحالف الذي يضم 40 دولة مسلمة دون إيران، ويملك غرفة عمليات مشتركة مقرها الرياض. ومن ثمّ دفعت الإدارة الأميركية إلى تشكيل «التحالف الاستراتيجي في الشرق الأوسط» (الناتو العربي أو السني) بعد أن تبلورت الفكرة التي تعود للسعودية، في أيار 2017 في القمة العربية الإسلامية الأميركية في الرياض بحضور الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لكنّ مصر انسحبت من التحالف وأبلغت من يعنيهم الأمر بذلك بحسب وكالة «رويترز»، «لتشككها في جدّية المبادرة فهي لم تر بعد خطة أولية تحدد ملامح هذا التحالف ولأن وضع خطة ينطوي على خطر زيادة التوتر مع إيران، ولأنّ الغموض المحيط بما إذا كان الرئيس ترامب سيفوز بولاية ثانية العام القادم واحتمال أن يتخلّى من يخلفه عن المبادرة، عاملان ساهما في اتخاذ مصر القرار».

العلاقات المصرية - الأميركية
إنّ الانخراط المصري في تفعيل الضغوطات الأميركية على إيران وسوريا، يأتي في مرحلة تحسن كبير وبلوغ العلاقات المصرية الأميركية مستوى استراتيجي، حيث تتنوّع الآليات المتعددة التي يجري خلالها تناول العلاقات بين البلدين، سواء على مستوى القمة بين الرئاستين أو الاجتماعات الوزارية أو تفعيل آلية الحوار الاستراتيجي أو الاجتماعات في إطار آلية (2+2) التي تضم وزيري دفاع وخارجية البلدين، وبحسب وكيل مجلس النواب المصري السيد الشريف، فإنّ «العلاقات المصرية الأميركية عميقة ومتنوعة عبر التاريخ، وتشهد في الآونة الأخيرة تطوراً كبيراً للتعاون، وامتداداً لآفاقه ليشمل جميع المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية»، يشهد على ذلك استمرار تدفق المساعدات العسكرية والاقتصادية السنوية، والتنسيق الجاري بين البلدين على مستوى «صفقة القرن» الأميركية وعدم معارضة القاهرة لها، مع اشتراطها ابتعاد الصفقة عن سيناء، والارتياح إلى مديح الرئيس الأميركي دونالد ترامب للرئيس السيسي، وعدم رغبته في إثارة الوضع الحقوقي والسياسي للمواطنين المصريين.
وقد لا يكون مفاجئاً أنّ نرى مصر قد انضمّت مثلاً للخطط الأميركية «لتشكيل تحالف عسكري في غضون أسبوعين أو نحو ذلك لحماية المياه الاستراتيجية قبالة كل من إيران واليمن»، على حدّ تعبير رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية الجنرال جوزيف دانفورد في العاشر من الجاري، ويأتي ذلك في ظلّ التوتر في المنطقة ما بين الجمهورية الإسلامية من جهة، والولايات المتحدة الأميركية وحلفائها من جهة أخرى. الجنرال الأميركي أشار في معرض حديثه للصحافيين، إلى اعتزامه تحديد الدول التي لها إمكانات محددة للعمل مع الجيش الأميركي، و«التي لديها الإرادة السياسية لدعم هذه المبادرة وسنعمل بعد ذلك بشكل مباشر مع الجيوش لتحديد الإمكانيات المحددة التي ستدعم ذلك»، في إشارة إلى دعوة الدول الحذرة إلى الانخراط العملي في مواجهة إيران، ولذلك يعتبر الأمر دعوة لمصر للخروج من الدائرة المباشرة للأمن القومي الإقليمي لها في البحر الأحمر إلى بحر عمان أو أبعد منه، واستجابتها لذلك تعني التماس المباشر مع بيئة قد تشهد أنشطة حربية تحت راية أميركية مباشرة، وليس تحت راية سعودية أو تحالف إقليمي عربي أو إسلامي، وليس ذلك بالضرورة ـ إن حصل ـ دليلاً على تغيّر خطير في السياسة الخارجية المصرية، أو انخراط عسكري مصري ضدّ إيران، وقد لا يعدو كونه تموضعاً تدريجياً وطبيعياً لتعاظم الدور المصري في المنطقة.
* كاتب لبناني