مرّ خبر وفاة أحمد الخطيب، مؤسّس جيش لبنان العربي، مرور الكرام. «السفير» نشرت خبراً صغيراً جداً عنه، فيما لم تذكره «الأخبار» ــ بنوب ــ ولا بكلمة. أحمد الخطيب عاش مريضاً بعد إطلاق سراحه من سجون النظام السوري. وقد شارك تيّار الحريري في تشييع الراحل وتأبينه لأنه تبنّاه ــ هذا التنظيم العائلي الطائفي القبلي ــ لأنه سنّي فقط. هذه صلة الوصل فقط.
المواقع الإخباريّة اللبنانيّة تبادلت معلومات مُجحفة عنه: محطة «أو.تي.في.» وموقع «القوّات اللبنانيّة» (الإسرائيليّة سابقاً) تلاقيا على أنه قام بفعلة شنيعة عندما انقسم عن الجيش اللبناني في حقبة الحرب الأهليّة اللبنانيّة الأولى. قلّلتا من أهميّة صنعته. لكن للرجل مكانه مهمّة في تاريخ لبنان المُعاصر. ينسى البعض تلك المرحلة، وينسى أيضاً إسهام أحمد الخطيب في تغيير تلك المرحلة وفي تغيير عقيدة الجيش اللبناني. كذبت كل تلك المواقع المذكورة في تأريخها لحركة «جيش لبنان العربي» عندما جعلت من حركته حركة طائفيّة محدودة، وعندما حوّلت انتفاضة الخطيب إلى مجرّد انشقاق ملالة واحدة عن ثكنة مرجعيون.
من الصدفة أن حركة الخطيب انطلقت من ثكنة مرجعيون التي باتت تقبّح التاريخ اللبناني المعاصر ولأجيال لاحقة (بانتظار تجميل اسم الثكنة بعمل بطولي ضد العدوّ الإسرائيلي) بفعل فعلة قائدها عدنان داوود وراعيه وزير الداخليّة آنذاك، أحمد فتفت، الذي تحدّى أياً كان أن يناظره في مسألة ما حدث هناك، إلا أنه رفض مناظرتي (بحجّة أنني لست نائباً أو وزيراً) عندما عرضت عليه محطة «الجديد» رعاية تلك المناظرة. (لم يعد فتفت مذّاك يتحدّى «أياً كان» في مناظرته). ينسى البعض الظروف التي أحاطت بانطلاق حركة الخطيب التي غيّرت في مسار الحرب الأهليّة اللبنانيّة. أفشل الخطيب الدور الخبيث الذي كان يُعدّ للجيش اللبناني لنصرة ميليشيا الكتائب في كل أنحاء لبنان.
كان الجيش اللبناني فريقاً أساساً في الحرب الأهليّة في عام 1975. كانت القيادة السياسيّة الطائفيّة للدولة آنذاك، بشخص سليمان فرنجيّة الجدّ ومن انضم إلى الجبهة اللبنانيّة في ما بعد، مصرّة على الترويج للجيش اللبناني على أنه حيادي بين الأطراف المتنازعة (مثلما يُقال إن الحكم السعودي اليوم هو على مسافة واحدة بين الأطراف في لبنان) فيما كانت هي مُشرفة على رعاية دور الجيش غير المُعلن في الحرب الأهليّة إلى جانب الفريق الانعزالي المُتحالف مع العدوّ الإسرائيلي منذ إطلاق أوّل رصاصة في تلك الحرب (أو منذ عام 1973 على الأقلّ). كان للجيش اللبناني دور مرسوم بعناية من قبل الدول الغربيّة من أجل أن يقوم في لبنان بما قام به الجيش الأردني من مجازر ضد المخيّمات الفلسطينيّة في 1970 و1971. وقد حاول ذلك وفشل فشلاً ذريعاً بفعل شجاعة وصلابة المخيّمات الفلسطينيّة وحماتها آنذاك، بالرغم من استخدام سلاح الجوّ اللبناني ضد المخيمات (مع أن هذا السلاح لم يُستعمل مرّة واحدة ضد العدو الإسرائيلي). والجيش نأى بنفسه منذ عام 1948 عن لعب أي دور في الصراع العربي الإسرائيلي. أكثر من ذلك: كان هذا الجيش مُتحالفاً ضمناً مع العدوّ الإسرائيلي في كل مفاصل الصراع حتى نهاية الحرب الأهليّة (رسمياً).
تجد في الصفحة الأولى من جريدة «جيروزاليم بوست» من عام 1951 خبراً صغيراً عرضيّاً عن إجراء لمباراة كرة سلّة بين جنود من الجيش اللبناني وجنود من جيش العدوّ الإسرائيلي. كل ذلك كان وفق عقيدة فؤاد شهاب القتاليّة التي جعلت من الشعب الفلسطيني واليسار اللبناني العدوّ الحقيقي للجيش اللبناني. لم يلتزم هذا الجيش باتفاقات عقدها في إطار الجامعة العربيّة وميثاق الدفاع العربي المُشترك.
تم تكوين الجيش اللبناني في عام 1945 من وحدات «القوّات الخاصة للمشرق» التي أنشأها المُستعمر الفرنسي. لم يكن الجيش اللبناني مُجهّزاً عندما اندلعت الحرب العربيّة ــ الإسرائيليّة عام 1948. كانت قيادة الجيش لا تزال تفاوض من أجل شراء دبّابات أرادت الحكومة الأميركيّة منعها عنه (لم يتغيّر الدور الأميركي في رفض تجهيز وتسليح هذا الجيش منذ ذلك الحين، بالرغم من الإعلانات الهزليّة الدوريّة عن منح الجيش سيّارات وعربات ودرّاجات ناريّة ــ في آخر إعلان قبل أيّام ــ مُستعملة). لا تعطي الحكومة الأميركيّة أي سلاح يمكنه أن يؤذي العدوّ الإسرائيلي، كذلك فإن جنود هذا الجيش أدينوا بالمساعدة في تهريب مهاجرين يهود إلى فلسطين المُحتلّة في أواخر الأربعينيات. وتعود إلى الوثائق الأميركيّة الديبلوماسيّة لتلك الحقبة لتقرأ أن «سياسيّاً مارونيّاً بارزاً» أكّد أن الجيش اللبناني لن «يعتدي على يهود». ويروي ماثيو هيوز في أفضل دراسة عن الموضوع بعنوان «التعامل فوق الليطاني: لبنان وحرب 1948» في كتاب آفي شلايم ويوجين روغن عن حرب 1948 بعنوان «الحرب من أجل فلسطين: إعادة كتابة تاريخ 1948» (الصادر عن دار نشر جامعة كمبردج) أن القيادة العسكريّة العليا في القوّات الصهيونيّة عبّرت عن عدم خوفها إطلاقاً في أيّار 1948 على منطقة الجليل، لأن الجيش اللبناني كان حريصاً على عدم ضرب أي من المستعمرات في المنطقة الحدودية. أما المُراسل العسكري الإسرائيلي موشي زاك فحوّل الموضوع إلى موضوع طائفي، مؤكّدا أن أحداً من الموارنة لم يعبُر مع الجنود الذين عبروا نحو فلسطين، التزاماً بالخطة العسكريّة الموضوعة (ص. 209). ويروي هيوز أن فؤاد شهاب «تحت ضغط من الإكليروس الماروني، رفض مطالبة وزير الدفاع، مجيد أرسلان، للتنسيق مع سوريا في عمليّاتها العسكريّة في 1948، كما أنه رفض السماح للجنود المسيحيّين في جيشه بالانضمام إلى الجيش السوري» للمساعدة.
أما قوّات المجاهدين والمتطوّعين العرب فقد أعاق شهاب عملهم، مطالباً إياهم بتسليم كامل أسلحتهم بمجرّد عبورهم الحدود اللبنانيّة. وأصدر شهاب أمراً حازماً طالب فيه كل عناصر الجيش بعدم تخطّي حدود الحادي عشر من حزيران والبقاء في الجانب اللبناني من الحدود، والقتال فقط في حالة «الردّ على الاعتداءات اليهوديّة» (ص. 210). ورفض شهاب أيضاً أن يردّ الجيش اللبناني على احتلال قوّات العدوّ قرى في الجانب اللبناني من الحدود. ضدّ هذا الجيش وضد تلك القيادة ثار أحمد الخطيب ورفاقه الأبطال.
وقد خالفت قوّات العدوّ مُبكراً حدود الدولة اليهوديّة التي منحهم إيّاها (ظلماً) قرار التوصية الصادر عن الأمم المتحدة في عام 1947. احتلّ العدوّ كل منطقة الجليل التي كانت وفق القرار (الجائر) المذكور منتمية إلى الدولة الفلسطينيّة. كان يمكن الجيش اللبناني آنذاك أن يدافع عن منطقة الجليل برمّتها، وأن يحميها، لكنه تريّث ولم يبدأ بمعركة المالكيّة إلا متأخراً (و«بنصف قلب» حسب وصف هيوز) في 5 حزيران. وكانت القيادة العربيّة العليا قد أوكلت (ساذجةً) إلى الجيش اللبناني بعد 11 أيّار مهمة الاعتداء على الشاطئ الفلسطيني من رأس الناقورة حتى عكّا، ومن ثم نحو العفولة، حيث كان يجب أن تلتقي مع الجيوش السوريّة والعراقيّة والأردنيّة من أجل قطع الجليل ومحاصرة الدولة الصهيونيّة المُزمعة (راجع ص. 211). لكن فؤاد شهاب رفض قرار القيادة العربيّة، واشتكى لهم من «ضعف» الجيش اللبناني (الذي يستقي الوطن منه قوّة من ضعفه، حسب عقيدة شارل حلو القتاليّة، التي اعتنقها كل فريق 14 آذار، والتي ثار ضدّها في كانون الثاني 1976 الملازم الأوّل أحمد الخطيب). والأوراق الدبلوماسيّة الأميركيّة تفضح دور فؤاد شهاب عندما تروي في 2 أيّار أن الجنود اللبنانيّين تلقّوا أوامر محدّدة من أجل عدم تخطّي الحدود الفلسطينيّة (في مخالفة فاقعة لالتزام لبنان بخطة القوّات العربيّة). كل ما كان يسمح فؤاد شهاب به هو «أخذ مواقف دفاعيّة». ضد هؤلاء ثار أحمد الخطيب.
لكن أهل الجنوب (خصوصاً بعد تفجير بيت أحمد الأسعد من قبل قوّات العدوّ) أجبروا شهاب على اتخاذ قرار حاول جاهداً أن يتجنّبه، أي الدخول في معركة محدودة مع العدوّ لـ«حفظ ماء الوجه» بعد أن جف ماؤه. هذه هي قصة معركة المالكيّة في 5ــ6 حزيران من عام 1948. وقد انتصرت القوّات المُسلّحة اللبنانيّة (لم يُشارك أكثر من 436 في تعداد هيوز) بسهولة في معركة المالكيّة، لكنها لم تحاول أن تلتقي أو تنسّق مع القوّات السوريّة للضغط على القوات العدوّة، أو أن تتقدّم. لم يتعدّ أمر المهمّة أكثر من أخذ المالكيّة وليس أكثر. رفضت قيادة الجيش التحرّك نحو النبي يوشع أو مستعمرة راموت نافتلي الحدوديّة. أرادها شهاب حركة رمزيّة لإسكات المُطالبات الشعبيّة وأوامر القيادة العربيّة العليا. وسلّمت قوّة الجيش اللبناني المالكيّة وقَدَس لـ«جيش التحرير العربي» في 8 تمّوز وعادت إلى الأراضي اللبنانيّة. والدعاية الضخمة عن المالكيّة (والمُبالغة في حجمها ووقعها)، والتي استمرّت في كتب التاريخ والثقافة «الوطنيّة» في مسخ الوطن حتى تاريخه، كانت من أجل تسويغ رفع اليد عن المساهمة في ردّ عدوان إسرائيلي عبر السنوات. كان يُراد منها التغطية على الدور الحقيقي للجيش في حرب فلسطين.
إن هذه المقدّمة التاريخيّة ضروريّة لفهم أهميّة حركة أحمد الخطيب. كل الروايات في مواقع اليمين المُعادي لحركة «جيش لبنان العربي» زوّرت في روايتها لإطلاق هذا الجيش في كانون الثاني 1976، فجعلت من الحركة مجرّد تحريك لملّالة واحدة. لكن أحمد الخطيب كان شرارة أطلقت العنان لتمرّد كبير في صفوف جيش كان مُشاركاً بقوّة في الحرب الأهليّة إلى جانب ميليشيات اليمين الطائفي. بتنا نعلم الكثير، مثلاً، عن دور ميشال عون، وهو ضابط مدفعيّة، في دك مخيّم تل الزعتر، إضافة إلى لعبه دور مستشار رفيع لبشير الجميّل. كانت عقيدة الجيش آنذاك عقيدة طائفيّة (تحدّث عنها بصراحة فؤاد لحّود في كتابه «مأساة جيش لبنان») وغير وطنيّة (بمعنى أنها كانت مُتواطئة أو مُتحالفة مع العدوّ الإسرائيلي ــ وإسرائيل كانت العدوّ القانوني المُعلن للبنان في تلك السنوات ــ). كان هناك تبرّم كبير في صفوف الجيش اللبناني الصفيق في انحيازه وفي طائفيّته التي أرادها فؤاد شهاب ضمانة (في مفهومه) لعدم انجرار لبناني للدفاع عن القضيّة الفلسطينيّة أو للدفاع عن حدود لبنان من اعتداءات إسرائيل المُستمرّة.
أحمد الخطيب كان شجاعاً لأنه كان أوّل من تمرّد علناً وجهاراً على عقيدة جيش اليرزة وممارسته ــ كما كانت التسمية. وكبرت حركة أحمد الخطيب ولم يكن خطابه طائفيّاً على عكس ما كُتب في مواقع التواصل الاجتماعي. هناك من عاب عليه أنه تلقّى عوناً من حركة «فتح» أو من الأنظمة العربيّة التي كانت تموّل «الحركة الوطنيّة». لكن ما كان في اليد حيلة وهو محاصر: كان النظام السوري يضيّق الخناق على «القوّات المُشتركة»، وكان العدوّ الإسرائيلي يدعم ميليشيات سعد حدّاد في الجنوب (وأحمد الخطيب شرّف ثكنة مرجعيون بانطلاقة حركته)، فيما كان جيش اليرزة يتلقّى دعماً غربيّاً، خصوصاً عندما أنشأ جوني عبده فرقة «المكافحة» التي أرادها ذراعاً لضرب القضيّة الفلسطينيّة واليسار في لبنان (هو لا يزال يبتسم عندما يُسأل عمّا إذا كان يرسل سيّارات مفخّخة الى المنطقة الغربيّة من بيروت).
وينسى البعض أن تمرّد أحمد الخطيب لم يكن التمرّد الأوّل في الجيش في المرحلة الأولى من الحرب الأهليّة. سبقه تمرّد «جيش لبنان الحر» بقيادة أنطوان بركات الذي عاب على الجيش عدم انخراطه الكثيف والمُعلن في الحرب الأهليّة في صفّ ميليشيات الكتائب والأحرار. وكان يُراد لهذا الجيش نفسه أن «ينزل» كي ينهي الحرب، وكان رشيد كرامي يعارض بقوّة، لأنه يعلم أن الجيش سيتعرّض للانقسام (وكانت دراسات مخابرات الجيش اللبناني بقيادة جول بستاني ــ وكان بستاني هذا الأب الروحي لإنشاء ميليشيا «التنظيم» المتطرّفة اليمينيّة في سنوات الحرب ــ تعزّز نظريّة رشيد كرامي أن الجيش سينقسم طائفيّاً وسياسيّاً حتماً إذا تدخّل في الحرب الأهليّة (وبناءً على هذه الفرضيّة، رفض فؤاد شهاب التدخّل في الحرب الأهليّة التمرينيّة في عام 1958).
كان يمكن حركة «جيش لبنان العربي» أن تكون أفضل بكثير. خرّب عليها ياسر عرفات وسادها الفساد المالي والاتجار بكوبونات الوقود. سهّلت حركة «فتح» ولادة «جيش لبنان العربي» (مع أن الولادة كانت عفويّة ولأسباب داخليّة وطنيّة محضة)، لكن الحركة نفسها عادت وأشرفت على حركة عزيز الأحدب (أو «الانقلاب التلفزيوني») بعد شهريْن فقط من ولادة «جيش لبنان العربي». كعادته، كانت السيطرة لا تستقيم في يد ياسر عرفات من دون تفريخ عدد هائل للدكاكين والتنظيمات، كي لا تقوى واحدة على حساب أخرى. هذا حساب الموازين الذي لم يحد عنه في سياساته (وعمد إلى الأسلوب نفسه في إدارته في رام الله).
انتهجت حركة أحمد الخطيب خطاب ولهجة «الحركة الوطنيّة اللبنانيّة» نفسها، ولم يستعمل التحريض الطائفي الذي كان سائداً في المقلب الآخر من بيروت. أصبحت المدن الخاضعة لسيطرة الحركة الوطنيّة ونفوذها مُدارة بأيدي قادة جيش لبنان العربي. وعندما انضمّ سليمان فرنجيّة (الرئيس) إلى صف ميليشيات اليمين، لاحقته مدفعيّة «جيش لبنان العربي»، حتى اضطرّ إلى أن ينقل القصر الجمهوري «مؤقتاً» إلى الكفور (وصار هناك حديث عن «جبهة الكفور» اليمينيّة).
لم تستمرّ تجربة «جيش لبنان العربي» الرائدة طويلاً. تدخّل الجيش السوري في لبنان كما هو معروف، وأنهى ثورة لبنانيّة ــ فلسطينيّة واعدة كانت على وشك القضاء ــ وإلى الأبد ــ على تجربة الفاشيّة اللبنانيّة الانعزاليّة المُتحالفة مع العدوّ الإسرائيلي. ولم يلتزم «جيش لبنان العربي» بأوامر ياسر عرفات الذي لم يكن يريد معركة جديّة مع القوّات السوريّة. اشتبكت قوّات «جيش لبنان العربي» مع قوّات النظام السوري في بحمدون وفي البقاع. انتهت تجربة «جيش لبنان العربي». يُقال إن النظام السوري دعا إلى وجبة طعام ــ على طريقة محمد علي مع المماليك ــ قادة ذلك الجيش، فاعتقلهم وحوّلهم إلى سجن المزة المُخيف. تعرّض أحمد الخطيب لتعذيب شديد أدّى إلى إصابته بأمراض لازمته بعد إطلاق سراحه. المُنفّر في حكاية أحمد الخطيب أن أحداً لم يتحدّث عنه في سنوات سجنه الطويلة. كل قوى الحركة الوطنيّة والمقاومة الفلسطينيّة سكتت عن أمر اعتقاله، وهو الذي حماها بحياته وحياة جنوده الشجعان. ورفض إلياس سركيس وحليفه الطائفي فؤاد بطرس أي محاولة لإدماج قوّات جيش لبنان العربي بالجيش اللبناني، واعتبرا تلك القوات موازية لقوّات سعد حدّاد. كان إلياس سركيس وفؤاد بطرس ينفران من مجرّد ذكر أحمد الخطيب. طبعاً، أليس هو الذي فضح كذبة حياد الجيش ووطنيّته آنذاك؟ أليس هو الذي فضح أمر تواطؤ الجيش مع العدوّ الإسرائيلي؟ والمعلوم أن تولّي أنطوان لحد لقيادة ميليشيا العدوّ الإسرائيلي في الجنوب تمّ بتعاون وتنسيق مع جيش حنّا سعيد. ثار أحمد الخطيب ضد كل ذلك.
لم يعد أحمد الخطيب إلى العمل السياسي أو الوطني بعد إطلاق سراحه المتأخّر. عاد مكسوراً ومعزولاً، ولم يكن أحد في وارد إغضاب الراعي السوري آنذاك. لكن تيّار الحريري الطائفي اكتشف أحمد الخطيب بعد 2005. حاول أن يحفّزه كي يُنشئ لهم ميليشيا طائفيّة لمواجهة حزب الله، بأمر من التحالف السعودي ــ الإسرائيلي. يُقال إنه كان على علاقة طيّبة مع تيّار الحريري، لكن الرجل لم يكن يتوقّف عن الحديث عن فلسطين وتحريرها حتى آخر أيامه، في إشارة غير مبطنة إلى أصدقائه الجدد. لا أريد أن أتذكره في سنواته الأخيرة عندما كان محسوباً (حقاً أو ظلماً) على تيّار الحريري الذي احتضنه طائفيّاً.
أريد أن أذكر أحمد الخطيب وهو يتحدّث عن تحرير فلسطين وعن مواجهة العدوان الإسرائيلي على لبنان. أريد أن أتذكّره على ظهر ملّالات مُحرّرة من سطوة الجيش اللبناني المُنحاز آنذاك، عندما كانت مدفعيّة جيشه تدكّ مواقع جيش سعد حدّاد في الشريط الحدودي. لقد تغيّرت عقيدة الجيش اللبناني ولم يعد وارداً أن يصبح الجيش اللبناني (على علّاته وعلى سكونه في مواجهة العدوّ الإسرائيلي) مرّة أخرى عوناً للعدوّ أو لأعوانه في لبنان. تغيّرت بنية الجيش ولم تعد قيادته طائفيّة كما كانت. لكنّ الفضل في تغيير عقيدة هذا الجيش وفي تغيير بنيته تعود إلى فضل ونضال أحمد الخطيب ورفاقه. لأحمد الخطيب ورفاقه فضل وطنيّ منسيّ.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)