العامل الحاسم في دخول الاتّفاق النووي الايراني حيّز التطبيق كان وثيقة رسمية أصدرتها وزارة الخزانة الأميركية يوم السبت، تعلن فيها، باختصار، أنّها ستتوقف عن تجريم الأفراد والشركات غير الأميركية التي تتعامل مع ايران. هذه البنود، تحديداً، هي المعنى الحقيقي لـ "رفع العقوبات"، وهي ما سيفتح ايران على الاقتصاد العالمي (القرارات الأميركية التي تحظر تعامل مواطني وشركات اميركا مع ايران لا علاقة لها بالعقوبات النووية وهي سابقة عليها، وستظلّ سارية وستمنع أكثر أشكال التبادل المباشر بين البلدين ــــ مع استثناءات محددة كالطيران المدني واستيراد السجاد الايراني والفستق والكافيار).الأذى الحقيقي للعقوبات لم يكن في منع ايران من التجارة مع اميركا، أو حتى مع الاتحاد الأوروبي، بل في الاجراءات التي جعلت كلّ تعاملاتها مع العالم مستحيلة تقريباً، فلا يتمكّن الصينيون والكوريون وغيرهم، ممن لا علاقة لهم بالصراع بين طهران وواشنطن، من الاستيراد من ايران أو التصدير اليها، طالما أنّ أيّ تبادلٍ مالي سيعرّضهم لعقوبات أميركية قاسية (لفهم مقدار الخوف الذي زرعته الإدارة الأميركية في قلب كلّ من يفكّر بالتجاوز، هناك مصرف أوروبي واحد مثلاً ــــ بي ان بي باريباس ــــ فرضت عليه غرامات تقارب الـ 9 مليارات دولار لخرقه قانون العقوبات). رفع العقوبات سيحرّر أرصدة ايرانية كبيرة في الخارج، يتراوح حجمها بين 29 و50 مليار دولار على أقلّ تقدير. كما أنّ الولايات المتّحدة، استباقاً لرفع العقوبات، قامت أيضاً بحلّ عددٍ من "العقد" المزمنة بين البلدين، كتبادل محكومين أميركيين في ايران بسجناء ايرانيين في اميركا، واتّفاقٍ حول رصيد ايرانيّ صادرته واشنطن غداة الثورة، بعد أن كانت حكومة الشاه قد أرسلته لتمويل صفقات تسليح. فوافقت الحكومة الأميركية اخيراً على دفع الرّصيد (400 مليون دولار اميركي)، اضافة الى 1.3 مليار دولار كفوائد متراكمة على المبلغ.
قرار رفع العقوبات ولّد فزعاً في صفوف "محورٍ" اقليميّ، عبّرت عنه الصحافة الاسرائيلية؛ و"جيروساليم بوست" أفردت افتتاحية أشبه بـ "إعلان هزيمة"، قد تستحقّ مقدّمتها الاقتباس: "لقد فشلت الحملة لإفشال الإتفاق النووي الإيراني. على الرّغم من أنه قد قادها ببراعة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وحظيت بدعم أعضاء مهمين في الكونغرس، اضافة الى كثيرٍ من الدول السنية في المنطقة". من جهةٍ أخرى، ولد مناخٌ حماسيّ في الصحافة الغربية (الأوروبية تحديداً) حول فرص العمل والتجارة التي تتيحها السوق الايرانية، في مناخٍ من الرّكود تستميت فيه الشركات على صفقات مربحة؛ فبدأ الكلام على بيع طائرات "ايرباص" الى ايران، وعودة شركات السيارات والمصارف والنفط الى البلد.
المخاوف والآمال قد يكون فيها بعض المبالغة، فرفع العقوبات لا يعني إعادة عقارب الساعة الى الخلف، أو الإفتراض أنّ كلّ ما جرى في العقد الأخير كأنّه لم يكن. العارفون داخل الشركات الأوروبية الكبرى يقولون إنّهم ما زالوا يذكرون كلفة العقوبات والخروج من البلد، وهم لن يخاطروا باستثمارات كبرى في ايران قبل التيقّن من أنّهم لن يخوضوا التجربة نفسها مجدداً. الحكومة الايرانية، بالمثل، قد فهمت قدرة الغرب على حصارها في أيّ وقت، ولا بدّ هنا من الالتفات الى كلمات الرئيس الايراني في مؤتمره الصحفي، حين سئل عن الصين، فأجاب أنّ ايران لن تنسى، في فترة الرخاء، من وقف معها في أيّام الضيق (هناك نظرية تقول إن أكثر المشاريع الكبرى و"الاستراتيجية"، كخط قطار طهران ــــ أصفهان السريع، وكهربة خطّ مشهد ــــ طهران، ومشاريع بتروكيمياوية وغيرها، قد ذهبت بالفعل الى شركات صينية وروسية).
هذه المرحلة المبكرة، على أيّ حالٍ، هي فرصة للدعاية والآمال العريضة، اذ يتعرّف الغرب من جديد على ايران خارج نطاق "الإعلام الحربي". منذ تشرين الثاني الماضي، مثلاً، امتلأت المجلات الغربية بقصصٍ عن المجموعة الفنية التي يحتفظ بها متحف طهران للفن المعاصر، وقد "اكتشفت" أنّ ايران تملك أهمّ مجموعةٍ للفنّ الغربي الحديث خارج اوروبا وأميركا، حين أخرج المتحف بعض هذه المقتنيات من خزائنه وأقام معرضاً (يستمرّ حتّى شهر شباط) ظهرت فيه أعمالٌ لم تعرض منذ عقود. من دون مبالغة، قد تكون المجموعة الفنية التي اشترتها الـ "شاهبانو" فرح ديبا، وهي عماد المتحف، أكثر قيمةً ــــ حتى بالمعنى المادي الصرف ــــ من الأرصدة الايرانية في الخارج. 1400 قطعة تضمّ كلّ الأسماء الكبرى في الفنّ الحديث (اضافة الى مجموعة كلاسيكية مدهشة). نحن لا نتكلّم على لوحة لبيكاسو، بل ثلاثين لوحة، و15 عملاً على الأقل لأندي وورهول ــــ بينها سلسلة "ماو" ولوحة "الانتحار"، احد أهمّ أعماله وأندرها ــــ واحدى أفضل لوحات بولوك، وهناك روثكو، وكاندينسكي، وكالدر، وريفييرا، وكلّ اسمٍ قد يخطر على بالك من عمالقة القرن العشرين (العديد من هؤلاء كانوا اصدقاء شخصيين لفرح ديبا، التي رسمها وورهول ايضاً في سلسلة لوحات؛ والعديد من الأعمال أعلاه قد يصل ثمن الواحد منها الى مئات ملايين الدولارات).
في مقابلة أخيرة، قالت فرح ديبا (التي تقيم اليوم في نيويورك) أنّها قد اتّصلت على مرّ السنين، مراراً، بالمتحف ــــ مدّعية أنها طالبة فنون مهتمّة ــــ لتعطيهم النصح وتسأل عن المجموعة وتحتجّ على سياساتهم؛ كقيامهم عام 1993، بعقد مبادلة تخلّوا فيها عن لوحة للفنان الهولندي دي كونينغ مقابل نسخةٍ رائعة من الشاه نامة، تعاون على رسمها ــــ في القرن السادس عشر ــــ أهم فناني العالم الاسلامي، وكانت في حوزة مالك اميركي (قام ــــ بشكلٍ اجرامي ــــ بفكّها وبيع أجزاء منها عبر السنين، فاشترى الآغا خان صفحة وحصل متحف الـ "ميت" على عدة صفحات). لم يكن الوضع الاقتصادي لايران يومها يسمح بشراء المخطوط نقداً، فأجازت الحكومة مبادلته بأعمال فنية من المجموعة الوطنية. يقول مسؤول ايرانيّ شارك في المفاوضات إنّ الأميركيين كانوا يريدون، في البداية، عدّة أعمال مقابل الشاه نامة، منها لوحة شهيرة نصف عارية لرينوار، ثمّ قبلوا أخيراً بلوحة دي كونينغ وحدها (بيعت عام 2006 بـ 137 مليون دولار). أخبر المسؤول الايراني "بلومبرغ" أنّ أحد أعضاء لجنة التفاوض يومها، وهو رجل دينٍ كبير، أسرّ له، "لوحة رينوار هذه فريدة، ايّاك أن تتخلى عنها".