في لقائه الأخير مع ضباط الجيش اللبناني، رسم العماد جان قهوجي خريطة طريق وطنية، مسؤولة، هادئة، موضوعية وحازمة من أجل إنقاذ لبنان وتعطيل خطة عبور الفتنة التي تضرب المحيط الإقليمي. فلبنان، يعيش مرحلة حرجة من تاريخه، بل دقيقة ومقلقة، وقرار المؤسسة العسكرية يجب أن يرقى إلى مستوى هذا التحدي المصيري من غير أي تردد أو عبوات سياسية ناسفة تهدد الوجود الوطني من أقصاه إلى أقصاه، ومن دون تمييز بين جماعة وأخرى.
مع الأسف، إنّ بعض من لا يقرأ المواقف أو أدمن قراءتها بخلفية وصولية انتهازية لم يقرأ في كلمة قائد الجيش غير أنها تعبّد له الطريق إلى رئاسة الجمهورية. ولا ندري ما العيب في هذا إلا إذا كان القصد من هذه «التهمة» تسييس كلمة الجنرال وتفريغ مضمون ما قاله من المسؤولية الوطنية الشاملة ووضعها في لعبة التطلع إلى المواقع والمناصب. وهذه مسألة معيبة وتجعل لكل موقف ثمناً انتهازياً!
ومع الأسف أيضاً، إنّ هذه المؤسسة العسكرية، التي ليست بحاجة إلى براءة ذمة من أي أحد، تتعرّض هذه الأيام لأبشع التصويبات وأكثرها تشكيكاً، في وقت تحتم فيه الموضوعية والأمانة والمسؤولية الوطنية أن يعضّ الجميع على جروحهم الشخصية ويقفوا إلى جانب هذه المؤسسة التي دفعت ثمناً غالياً من دماء عناصرها، ولا تزال تقف على رجليها بمنأى عن الصراعات الداخلية المنهكة. كذلك بقيت تتعامل مع الجميع على قدم المساواة؛ إذ لا فضل لأحد على الآخر إلا بقدر ولائه للوطن وبقدر تحويل الولاء إلى فعل إيمان بأن الدولة العادلة والقادرة التي تساوي بين جميع أبنائها، هي وحدها القادرة على توفير شبكة الأمان المطلوبة على كل المستويات. إننا لا نخفي اعتزازنا بهذه المؤسسة وثقتنا بها، وهي المؤسسة التي تستمدّ شرعيتها من الانتماء إلى الوطن، وتغلبها على سائر التحزبات الفئوية والمذهبية، ولم تنحز إلى أي أحد على خلفية: «وإن قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى»... وهو أمر قد يكون أحد أسباب الحملة الظالمة والمتجنية التي تتعرض لها هذه المؤسسة، منذ فترة غير قصيرة، من بعض أولئك الذين تلطخت أياديهم بدماء المواطنين الأبرياء، لا لشيء إلا لأنهم يخالفونهم الرأي وأدمنوا سياسة الرقص فوق جثث الأبرياء... ومع هذا، فقد كنا على ثقة بأن اللقاء الموسع الذي عقده قائد الجيش العماد جان قهوجي في وزارة الدفاع مع ضباط الجيش سيؤكد ثوابت المؤسسة العسكرية التي أقسموا لها ورهنوا دماءهم في سبيلها، غير آبهين للأصوات الحاقدة التي تحاول أن تلقي الشبهات وتثير الشكوك من حول هذه المؤسسة ورجالاتها، الذين دفعوا أثماناً باهظة من الأرواح والدماء، ولم يهنوا أو يتهاونوا مع الشر وأهله... وبقيت هذه المؤسسة تشكل العمود الفقري للدولة وصمام الأمان للشعب والمجتمع والوطن.
لقد ترك قائد الجيش، في كلمته، الأمل بأنّ الجيش لن يتخلى عن حقه في فرض الاسقرار وفي منع الأمن الذاتي.
إنّ لبنان بات وجهاً لوجه أمام الإرهاب المتنقل من منطقة لأخرى، الذي يفجّر ويقتل من غير حساب ومن غير تمييز. هذا الإرهاب لا مانع له سوى الوحدة الوطنية، التي يسعى البعض إلى تفجيرها من الداخل وبذرائع واهية.
ومؤسسة الجيش، التي هي الأساس المتين للدولة، هي الضامن الوحيد للوحدة الوطنية.
صحيح أنّ المؤسسة العسكرية تحتاج إلى الكثير من الدعم السياسي والمعنوي واللوجستي، وصحيح أنّ هذه المؤسسة لا تتدخل في جوهر قناعات الأفراد الإيمانية، لكن هذه المؤسسة المؤتمنة على الأمن الوطني والسلامة الوطنية (وتحيط بها الأخطار والتحديات من كل جانب) لن تسمح للإرهاب المتنقل بأن ينال من لبنان...
إننا لا نشكك في أنّ هذه المهمة صعبة، ذلك أنّ أزمنة مليئة بالصعاب والمحن تأتي على الأمم الحية، فلا يكون لها منقذ بغير البطولة المؤمنة بصحة العقيدة الوطنية الجامعة المانعة...
مهمة صعبة ودونها الكثير من المعوقات والعراقيل، لكنها تهون متى توافرت الإرادة الوطنية المحصنة والرافضة لأي تجاوب مع مخططات الانتحار الجماعي الذي لا يستفيد منه غير العدو الإسرائيلي الذي ما عاد يخفي شعوره بالسعادة والعالم العربي يعيش من حوله مأزقاً غير مسبوق ومحنة بالغة الخطورة. ونحن رغم هذه الصورة نشعر بطمأنينة بأنّ الجيش اللبناني قادر على تجاوز هذا التحدي بكل نجاح. فما تربى عليه واعتصم به لن ينال منه تفاهات التافهين وتآمر المتآمرين... وهم في ما قال العماد قهوجي يرفضون الاستسلام للأمر الواقع ويرفضون الاستزلام لأيٍّ أحد يخرج عن الثوابت الوطنية الجامعة التي تبقى خطاً أحمر ترخص عنده كل الدماء... شاء من شاء وأبى من أبى.
* كاتب لبناني