بنفس التوقيت الذي تحرّرت فيه جنوب أفريقيا مطلع تسعينيات القرن الماضي من الفصل العنصري كانت هناك فرصة مماثلة إلى حد ما في مفاوضات مدريد، لإنهاء حالة عنصرية أخرى لا تقلّ بشاعة في فلسطين المحتلة.كان من الصعب للغاية الوصول إلى أي اختراق في ظلّ تعهد رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت إسحاق شامير بالتفاوض لعشر سنوات مع الفلسطينيين، دون اتفاق يعيد إليهم شيئاً من حقوقهم. الأسوأ أنه قد تبدت خشية شبه معلنة في قيادة منظمة التحرير الفلسطينية من أن يسحب الوفد المفاوض في مدريد البساط من تحت أقدامها. ذهبت إلى التفاوض السري في العاصمة النرويجية «أوسلو»، وقدمت تنازلات نالت من الحقوق الثابتة، كأنه اندفاع إلى الخسارة المجانية التي امتدت عقوداً حتى أصبح ممكناً ومتاحا المضي قدماً في إنهاء القضية كلها.
بغض النظر عن إخفاق مؤتمر المنامة في التمهيد لـ«صفقة القرن» وفق الصورة التي كانت الإدارة الأميركية تتطلع إليها، فإن مغزى الحدث يكشف قدر التراجع المريع في الالتزام بالقضية الفلسطينية، التي كانت توصف بقضية العرب المركزية. الهرولة إلى التطبيع أخذت مدى لم يكن متصوراً الوصول إليه على جميع المستويات الاقتصادية والاستخباراتية والعسكرية حيث لم تعد إسرائيل عدواً. مع ذلك لم يكن ممكناً عقد صفقة ما بدون شريك فلسطيني.
باعتراف مبطّن لمهندس الصفقة جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأميركي، فإن تجنّب الحل السياسي أفضى إلى الفشل المبكر، الذي حمله للفلسطينيين قائلاً إنهم يرتكبون خطأ استراتيجياً فادحاً بالمقاطعة. حسب قوله قبل التئام مؤتمر المنامة: «ما حاولنا القيام به هو تحديد الحل السياسي الذي يقبل به الطرفان. لكنّنا لحظنا أنه من دون مستقبل اقتصادي لا يمكن ترسيخ الحل السياسي».
المعنى - أولاً - أن سيناريو إنهاء القضية الفلسطينية بالإغواء الاقتصادي فشل تماماً، فالقضايا الكبرى لا يصحّ عليها الاستبدال بالصفقات المالية.
المعنى – ثانياً – أنّ المدخل السياسي هو صلب أية تسوية أياً كانت طبيعتها، ولا يوجد مدخل بوسعه تجاهل القرارات والمرجعيات الدولية والقفز فوقها بضمّ القدس والمستوطنات إلى الدولة العبرية وشطب حقوق اللاجئين الفلسطينيين وفق معادلة كل شيء لإسرائيل مقابل لا شيء للفلسطينيين باستثناء بعض المشروعات ووعود تحسين مستويات معيشتهم.
القضايا الكبرى فوق الرجال والفصائل والحسابات الصغيرة


والمعنى – ثالثاً – أنه ربما تدخل تعديلات على الصفقة المقترحة تحسّن في الشكل دون تغيير في المحتوى، كأن ترافق المشروعات الاقتصادية أحاديث عن العودة إلى موائد التفاوض دون أدنى جدية حتى يمكن اختراق الصف الفلسطيني بالاستثمار في صراعاته الداخلية.
اللعبة مرشّحة لأطوار جديدة دون أن نكون على قدر من الجاهزية لمواجهة تحديّاتها وأخطارها. هكذا يطرح السؤال نفسه: لماذا نجح الجنوب أفريقيون فيما أخفقنا فيه؟ استعادة تجربة نيلسون مانديلا ضرورية إذا ما أردنا أن ننظر في المرآة لنواجه أنفسنا بالحقائق. في اللحظة التي خطا فيها خطوته الأولى إلى الحرية في ظروف دولية أعقبت سقوط حائط برلين دعت تفاعلاتها إلى ضغوط واسعة لتفكيك نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا لم يتردّد أوليفر تامبو رئيس المؤتمر الوطني الأفريقي في أن يُفسح المجال أمام صديقه القديم لقيادة التحول الكبير، فقد أصبح رمزاً للقضية، وأثبت جدارة في الحديث باسمها. كان اعتقاده أن لكلّ مرحلة رجلها، ومانديلا هو رجل الساعة دون غيره، وأن قضيته فوق شخصه وانتصارها صلب طموحاته. كان تامبو هو صاحب فكرة تنظيم حملة دولية تشرح قضية مواطنيه الأفارقة ضد سياسة الفصل العنصري والتنديد بها، والدعوة إلى الانعتاق منها، وأن يكون شعارها إطلاق سراح مانديلا.
كانت هناك اعتراضات وحساسيات. لم يكن نيلسون مانديلا السجين الوحيد، الذي تقادمت عليه السنون في السجن، ولا هو وحده الذي صمد في مواجهة عنت وعسف السلطات البيضاء ضد كل ما هو أفريقي أسود. امتدت الاعتراضات والحساسيات إلى داخل السجون، وتردد على نطاق واسع أن الحملة ومنطقها أقرب إلى «شخصنة القضية» على حساب طبيعتها العامة لشعب يرزح تحت الفصل العنصري.
دافع «تامبو» باستماتة عن فكرته، ونجح في تذليل الاعتراضات عليها.
مالت نظرته إلى أن العالم يتفهم القضايا الكبرى عندما تطرح عليه بوضوح ويتمّ إقناعه بعدالتها، لكنها قد تلهم خياله عندما تجسد أمامه في طلب الحرية لإنسان يرمز إلى أمة مقهورة، صمد وقاوم عذابات السجون، مؤمناً بحق شعبه في منع التمييز العنصري ضده. عندما نجحت فكرته فيما كانت صحته تتدهور طالب صديقه القديم الذي كان قد أفرج عنه بتسلّم مقاليد القيادة فردّ عليه: «أنت الذي تولّيت قيادة الحزب من الخارج بأفضل مما كنت قادراً عليه وانتقال الرئاسة بهذا الأسلوب ليس عادلاً ولا ديمقراطياً»، غير أن تامبو لم يتراجع عن موقفه.
الرؤية ذاتها تبنّاها رجل قوي آخر هو وولتر سيسولو، الذي عانى من عذابات السجون الطويلة مع مانديلا بذات التهم. كانت شخصية سيسولو ملهمة لكثيرين أولهم مانديلا نفسه. بلا ضجيج أو ادعاء تراجع سيسولو خطوات إلى الخلف، وهو رجل وراءه أسطورة صمود كتلك التي لدى نيلسون بالضبط. لم يتململ أو يتضايق من مساحة الضوء الكبيرة التي حازها صديقه القديم وحده تقريباً. لم تكن مجرد مسألة رفعة إنسانية بل اعتقاد راسخ أن مصلحة قضية جنوب أفريقيا تجبّ أي شيء آخر. كان مانديلا مهيّئاً أكثر من رفيقيه لقيادة التحول، فهو صاحب فكرة «الحوار مع العدو»، وهو الذي أخذ على عاتقه خلف جدران السجون اختبار جديتها والفرص المتاحة. لم يُبدِ سيسولو ارتياحاً للفكرة ولا اقتناعاً بجدواها عندما طرحها عليه مانديلا خلف أسوار السجن الذي كان يضمهما. لم يكن ضد المفاوضات من حيث المبدأ، لكنه كان يفضّل أن تبادر الحكومة البيضاء بها لا أن تأتي «من صفوفنا». ولم يُبدِ في الوقت نفسه تامبو ارتياحاً للفكرة نفسها وأرسل إلى مانديلا عبر محامين يسأل: «ما موضوع المحادثات السرية بالضبط؟».
بصورة أو بأخرى أقنع مانديلا رفيقيه بالمضي في المحادثات لاكتشاف فرص المستقبل في الظروف الدولية الجديدة، بعد انتهاء الحرب الباردة. في لحظة خروجه من السجن بدا أنه الوحيد القادر على إدارة التفاوض الصعب من أجل الحرية، وقد أنجز مهمته بدرجة عالية من الكفاءة وحسن تقدير الأمور. قاد تجربة في «العدالة الانتقالية»، تعد مصدر إلهام لشعوب أخرى عانت من الظلم والتنكيل حاسبت وصالحت ووضعت جنوب أفريقيا على مسار جديد في التاريخ.
كان ذلك شأن مانديلا ورفاقه فيما استغرقت المشاحنات والصراعات قيادات العمل الفلسطيني على نحو استنزف طاقته رغم التضحيات الهائلة التي بذلت. يعود إخفاق مؤتمر المنامة في تسويغ «صفقة القرن»، أولاً وربما أخيراً، إلى الإجماع الشعبي الفلسطيني، وهو ما يجب الحفاظ عليه، فالقضايا الكبرى فوق الرجال والفصائل والحسابات الصغيرة.

كاتب مصري