بشار المنيّر * يستأثر الاقتصاد السوري في مرحلة ما بعد الأزمة باهتمام أوساط سورية في الداخل والخارج، وهو أمر متوقع ومبرر ما دام الجميع يبحثون في غد سوريا، كلّ حسب موقعه وانتماءاته الفكرية والسياسية، والمكاسب التي يتوقعها بعد توافق السوريين على مستقبلهم السياسي، الذي لا بد أن يحدد _ حسب أبجديات الفكر السياسي _ النهج الاقتصادي للبلاد.

ولأسباب نعتقد أنها ترتبط بالمخطط الذي رسمته الإمبريالية الأميركية لمنطقة الشرق الأوسط، أخذ الاهتمام الدولي باقتصاد سوريا (ما بعد الأزمة) يظهر كعامل دولي ضاغط نحو سياسات اقتصادية نيوليبرالية، يجري تسويقها كحل وحيد لإعادة الإعمار. وهذا الاهتمام لا ينحصر فقط في الأجندة التي أعدّتها «الإسكوا»، بل بالعديد من الدراسات والأبحاث والندوات التي تُنظم في الدول الأوروبية لرسم خريطة طريق لمستقبل سوريا الاقتصادي. لن نتطرق هنا إلى تقويم هذه الدراسات والأجندات التي تعدّ في الخارج، بل سنركّز في بحثنا على ما يريده الشعب السوري، انطلاقاً من أوجاعه وهمومه قبيل الأزمة وخلالها. فهذا حسب اعتقادنا ما يوجب على المتحاورين السوريين الذين يبحثون سبل إنهاء الأزمة أخذه في الحسبان، قبل أن يضعوا خاتمهم على وثيقة «سوريا المتجددة».

الاقتصاد السوري قبيل الأزمة... لمحات

كان استياء الجماهير الشعبية من السياسات الاقتصادية للحكومات المتعاقبة منذ بداية القرن الجديد، إضافة إلى أسباب أخرى تتعلق بالحريات الديموقراطية، الدافع الرئيسي للتحركات الاحتجاجية التي مهدت للأزمة السورية. ففي ظل اقتصاد السوق الحر الذي أراده مهندسو الاقتصاد السوري علاجاً لمرحلة الركود في بداية الألفية الجديدة، تأثرت قطاعات الإنتاج الحقيقي سلباً بالسياسات الانفتاحية المتسرعة، فحوصرت الصناعة السورية في عقر دارها، وتراجع الإنتاج الزراعي، وازدادت معاناة جماهير الشعب السوري، وخاصة بعد الانسحاب التدريجي للحكومات من أداء دورها الرعائي، وتهميش القطاع العام الذي ساند الجماهير الشعبية طيلة عقود.
لقد عانت الصناعة السورية انفتاحاً متسرعاً قبل تمكنها من استيعاب متطلبات المشاركة في الاقتصاد الدولي المعولم، وتطوير هياكلها الإنتاجية والإدارية والتسويقية، فغدت الأسواق السورية مرتعاً للسلع الآتية من كل حدب وصوب، وخاصة السلع التركية والخليجية والصينية. وسعى مهندسو الاقتصاد آنذاك إلى الاندماج في التجمعات الإقليمية والدولية، رغم تواضع قدرة الصناعة السورية بقطاعيها العام والخاص على مجاراة هذا الانفتاح، فتراجعت نسبة مساهمة الصناعة التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي من 11% في عام 2002 إلى 7% في عام 2010. وعانى الصناعيون منافسة غير عادلة من السلع المدعومة الواردة من منطقة التجارة الحرة العربية، وأحجمت المصارف الخاصة والحكومية عن تحفيز الصناعيين، إذ كان التشجيع منصباً على المشاريع العقارية والسياحية، وتمويل صفقات كبار التجار.
أما الزراعة السورية التي شهدت في تسعينيات القرن الماضي اهتماماً من الحكومات لتحقيق الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي، فتراجعت مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي من 24% في بداية الألفية الجديدة إلى 14% في عام 2010، بعد عدة سنوات شحيحة وممارسات حكومية همشت القطاع الزراعي سعياً وراء تشجيع استيراد الغذاء من الخارج. فقد حررت أسعار السماد والعلف ومستلزمات الإنتاج الزراعي، ورفعت الحكومات المتعاقبة أسعار المازوت اللازم لعملية ري المحاصيل، وماطلت في تنفيذ مشاريع تطوير المنطقة الشرقية الأكثر تخلفاً، والتي تعد مستودع المحاصيل الاستراتيجية، ما أدى إلى هجرة الأيدي العاملة الزراعية.

التداعيات الاجتماعية

انعكست السياسات الانفتاحية في ظل اقتصاد السوق الحر على الأوضاع المعيشية والاجتماعية لجماهير الشعب السوري، فارتفعت نسبة البطالة إلى 16%، وحلقت أسعار المواد الأساسية لتصل إلى نسبة قاربت 80%، وتقلصت نفقات الدعم الحكومي للفئات الفقيرة والمتوسطة نزولاً عند نصائح صندوق النقد الدولي، وتراجعت الأجور الحقيقية للعاملين إلى النصف. وتبيّن، أيضاً، أنّ نسبة بلغت 30% من السكان لم تتمكن من تأمين احتياجاتها الغذائية وغير الغذائية، وانخفضت حصة الرواتب والأجور في الناتج المحلي الإجمالي من 45.3% عام 1996 إلى 29% في عام 2008. وفي حين بلغ الوسطي العام لحصة الفرد من الناتج المحلي في الدول العربية 2492 دولاراً في عام 2003، كانت حصة الفرد في سوريا لا تتجاوز 1217 دولاراً، ورغم ارتفاعها إلى 1700 دولار عام 2009، إلا أن هذه الزيادة قضمتها موجات الغلاء المتتالية، ووصلت نسبة الفقر إلى 41% (1). لقد عُدّت المرأة السورية (موطوءة) في المشروع الجديد للأحوال الشخصية، وهمشت مصالح الفئات الشابة التي ترفد سوق العمل سنوياً بنحو 200 ألف شاب، يحصل منهم 25% فقط على فرص للعمل.
صحيح أن متوسط نسبة النمو بين أعوام 2005 و2010 بلغ نحو 4.6%، لكن الصحيح أيضاً أن هذا النمو جاء بعد تراجع القطاعات الإنتاجية الصناعية والزراعية، من النشاطات الريعية، وبعد الترخيص للمصارف الخاصة وشركات التأمين، وبعض المشاريع العقارية والسياحية الكبيرة الموجّهة للأثرياء. وسيطرت حفنة من التجار الكبار وأصحاب المشاريع الريعية، وفئات ثرية بازغة من المجهول، وبعض الفاسدين والمرتشين على مفاصل الحياة الاقتصادية، وأخذت الاقتصاد السوري نحو المشاريع الريعية، واستأثرت هذه الفئات بثمار النمو الذي تفاخر به مهندسو الاقتصاد السوري في العقد الماضي، في الوقت الذي عانت فيه الجماهير الشعبية أزمات معيشية واجتماعية متلاحقة. لقد ظهر جلياً أن مهندسي الاقتصاد السوري في العقد الماضي لم يسعوا إلى تنمية اقتصادية واجتماعية متوازنة تنهض بالاقتصاد السوري، وتلبي متطلبات الفئات الاجتماعية المختلفة، بل تركوا الأمر لاقتصاد السوق، وليده الخفية، ولقوانينه التي لم تكن يوماً في مصلحة الفئات الفقيرة والمتوسطة.

في خضم الأزمة العاصفة

واجهت سوريا أزمتها المركبة بهياكل اقتصادية منهكة، وقطاع عام صناعي وخدمي ضعيف ومتخلف، بعد محاولات حثيثة لخصخصته، فتوقف العديد من المصانع والمعامل والورش الخاصة، بعد تحوّل الاحتجاجات السلمية إلى عمليات عسكرية، إثر تدخل الخارج في الأزمة، وتشكيل تحالف دولي معاد لسوريا تقوده الولايات المتحدة بمشاركة أوروبا وتركيا ودول النفط العربية. وفرضت حصاراً اقتصادياً أدى إلى فقدان مستلزمات إنتاج الصناعات السورية، وغذاء ودواء المواطن السوري، وتراجع سعر صرف الليرة السورية مقارنة بالقطع الأجنبي، وارتفعت أسعار جميع السلع والخدمات بنسب تراوحت بين 100 و400%، وفقد نحو 3 ملايين مواطن فرص عملهم، وارتفعت نسبة البطالة إلى نحو 48%، وازداد عدد الفقراء والمهجرين، وتوقفت المشاريع الاستثمارية، وجرى تدمير إرهابي ممنهج للبنية التحتية، كقطاعات الكهرباء والمياه والسكك الحديد والمنشآت الصناعية وآبار النفط والجسور والطرق الدولية. وحسب المصادر الحكومية والخاصة، فقد بلغ مجمل الخسائر التي تسببت بها الأزمة، من دون الأخذ بالحسبان خسائر المواطنين، نحو 105 مليارات دولار. بعد هذه الإشارات المختصرة لأوجاع وهموم الاقتصاد السوري والمواطنين السوريين قبيل الأزمة وخلالها، يمكننا تلمس ما تتوقعه الجماهير الشعبية، وما تتطلبه عملية إنهاض اقتصادنا الوطني، لكننا نسرع هنا إلى توضيح مهم، وهو استحالة تنفيذ أي خطوات اقتصادية جدية، أو تحقيق أي أجندات لإعادة الإعمار إذا لم يتوقف نزف الدم السوري، وتنجح الجهود السلمية الدولية، ويعقد حوار السوريين ويتوافق الجميع على غد سوريا الديموقراطي العلماني. إن استمرار الأزمة السورية يُعدّ فشلاً للسياسة وابتعاداً عن الحوار وتكريساً للسلوك الإرهابي العنيف، وخرقاً لقوانين المجتمعات المتحضرة.

«جنيف 2» وحوار السوريين

ونحن نستعد لجولة أخرى محتملة لـ«جنيف 2»، نكرر ما ذكرناه في مقالة سابقة نشرتها «الأخبار» بضرورة تجنب المتحاورين لخطرين اثنين:
الأول: اختزال الأزمة السورية بمشهدها السياسي، والتغطية على الأسباب الاقتصادية والاجتماعية، ما يؤدي إلى ترك جوهر النهج الاقتصادي في المرحلة القادمة رهينة لتسويات سياسية، قد تأخذه بعيداً عن تحقيق مطالب جماهير الشعب السوري.
الثاني: تبني سياسات اقتصادية انفتاحية، ريعية، نخبوية بالاستناد إلى آليات اقتصاد السوق الحر، ومنسجمة مع النماذج التي روجت لها المؤسسات الدولية، وخاصة برامج التثبيت الهيكلي والتكييف الاقتصادي، أو ما اصطلح على تسميته «توافق واشنطن» بهدف «تسهيل إعادة الإعمار واختصار الزمن»، ويجري التسويق لها من خلال أجندة إعادة إعمار سوريا التي وضعتها «الإسكوا» بهدف الحصول على المنح والقروض والمساعدات من الدول الرأسمالية والخليجية، والمؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية، مقابل تكريس اقتصاد السوق الحر، والدخول في قوائم أصدقاء المؤسسات الدولية التابعة للإمبريالية العالمية. نقول هذا ونحن ندرك الهوة الشاسعة بين أطروحات ومآرب الأطراف السياسية المشاركة في المؤتمر العتيد، لكننا غير متأكدين تماماً من تباين برامجهم الاقتصادية لمرحلة «ما بعد الأزمة». وكما تسعى جماهير الشعب السوري إلى التغيير السلمي باتجاه نظام سياسي ديموقراطي علماني، تطالب في الوقت ذاته بنهج اقتصادي يحقق لها متطلبات الحياة الكريمة، في ظل تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تعتمد على الذات، وتقودها الدولة بمشاركة القطاع الخاص المنتج والرساميل الوطنية، وجميع منظمات المجتمع المدني في البلاد. ونرى التركيز بداية على المهمات الآتية:
1 ــ إلغاء وتعديل جميع التشريعات والقوانين التي سنّت في العقد الماضي التي تحدّ من تدخل الدولة كطرف من أطراف العملية الاقتصادية.
2 ــ وضع خطة حكومية بالاستناد إلى خبرات ومقترحات خبراء الاقتصاد السوري الوطنيين، بعيداً عن فرض الشروط و«النصائح».
3 ــ سنّ القوانين العاجلة للقضاء على الفساد في جميع المفاصل الاقتصادية والإدارية.
4 ــ إشراك الأحزاب الوطنية ومنظمات المجتمع المدني في اقتراح وتنفيذ خطط التنمية الشاملة.
5 ــ إلغاء التشريعات التي تحد من حقوق المرأة السورية ومساواتها بالرجل.
6ــ إشراك الشباب السوري في اقتراح الخطط التنموية الضرورية لتحقيق مطالبهم.
7ــ دعم وتحديث صناعتنا الوطنية، وتقديم ما يلزم من تسهيلات كي تصبح هذه الصناعة فعلاً لا قولاً قاطرة التنمية في البلاد.
8 ــ قيام الحكومة بالإشراف على إعادة توزيع الدخل الوطني بين الفئات الاجتماعية، عبر شبكة واسعة من الخدمات التي تستهدف الفئات الأقل دخلا.
9 ــ ضمان الأمن الغذائي في البلاد عن طريق الدعم الدائم لقطاع الزراعة...ومنح التسهيلات لمشاركة القطاع الخاص في إقامة المشاريع الصناعية _ الزراعية في المحافظات الشرقية.
10 ــ الحفاظ على ملكية الدولة وإدارتها للمرافق الحيوية والاستراتيجية.
11 ــ مواجهة السلبيات التي تولدت عن السياسات الاقتصادية والممارسات البيروقراطية، في ظل النهج السياسي والاقتصادي السابق.
12 ــ دعم الإنتاج والإنتاجية والقضاء على ثقافة الاستهلاك والحد من الاستغلال والمستغلين والبيروقراطية والبيروقراطيين، وإعلاء شأن العمل النزيه والمنتج.
13 ــ إصلاح القطاع العام بتحديث أنظمته وتعزيز قدراته الإنتاجية وتحديث وتجديد وسائل إنتاجه.
14 ــ الاهتمام بالتعليم ودعم البحث العلمي بالإمكانات البشرية والمادية.
15 ــ العمل على استعادة الأموال المنهوبة من الدولة والقطاع العام (2).
نريد لغدنا الديموقراطي، الذي نعمل لأجله، تلبية المصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية للفئات الفقيرة والمتوسطة، وعلى رأسها الطبقة العاملة، وصغار الفلاحين، وجمهور الحرفيين والمثقفين والشباب والنساء، باعتبارها تمثل أكثرية الشعب السوري، وأي غد آخر يعني _ حسب اعتقادنا _ عودة من نافذة الاقتصاد لمن عجز عن أخذ سوريا من بوابة التدخل العسكري.
* باحث اقتصادي، ومدير تحرير
صحيفة «النور» السورية

مراجع

1 ــ راجع الدراسة التي أعدّها برنامج الأمم المتحدة بالتعاون مع هيئة تخطيط الدولة والمكتب المركزي للإحصاء في عام 2004.
2 ــــ راجع د. منير الحمش ــ اقتصاد اليوم التالي ــ صحيفة النور السورية، العدد 608 تاريخ 25/12/2013