قد لا يفهم عاقل معنى دكتور وأستاذ جامعي ومدى قيمته أو فاعليته التربوية والاجتماعية والتغييرية إن كان مسنداً متسوّلاً المناصب على أبواب السياسيين والحزبيين الطائفيين لا داخل المختبرات ودور النشر والمؤتمرات العالية وبين شباب الجامعات!لطالما كان الفكر أو الحبر العربي ملجوماً بسلطات ثالوث الجسد المقدّس وأعني بها الجنس والسياسة والدين. كانت السلطات المتداخلة والمتكاملة بهذا الثالوث قويّة وما زالت تضبط المجتمعات بالرقابة القانونية في النظام أو بالرقابة الشعبيّة المحافظة والفاعلة في العقول والسلوك وردود الفعل العفوية القاسية. كانت ردود الفعل تسبق غالباً أو تتجاوز في تصويبها للأمور السلطات والقوانين، فتُربكها عند الردع والإيذاء وربّما الاغتيال قبل أن يصل القاضي إلى قوس العدالة بحثاً عن العدالة القانونية. تفاقمت مؤخّراً معضلة العلاقة الملتبسة بين الفكر والكفر أو بين التفكير والتكفير في ربيع العرب.
أبحث عبر هذه الاستهلالية عن العلاقات التي ترعى العلاقات بين السلطات العربيّة والحبر وبينها وبين اللسان العربي أو الفكر أو الثقافة باعتبارها وجهات للإصلاح والتطوّر، لكنّها ما زالت كلّها وسائل مشابهة للمواد السريعة الذوبان. تموت النصوص الجميلة والقويّة المتوخيّة التغيير بسرعة هائلة أو تختفي وترذل أو لا تُقرأ وحتّى لا تُسمع. ولهذا يفقد مصطلح الفكر وتراثه تباعاً دون تأثيره الذي يبشّر به دعاة التغيير بالمراهنة أو المراكمة من حوله وعليه كظاهرة تطوير الشعوب.
أكتب هذا النص تحديداً وفي ذهني لبنان المزروع بالحريّات والديمقراطيات المستورَدة الجذّابة كما الموضة. فيه وُلدنا ونشأنا متشاوفين بديمقراطيتنا وحريّاتنا الشكليّة التي لم يعد لها من وزن كبير. التهمنا التجاذب والتنافس والصراع والتفسّخ في المفاهيم بما تخطّى مثلّث الجنس والسياسة والدين وأشكالها ومراميها. وهناك تشظّيات تتجاوز التفكير في ما وصلت إليه مفاهيم السياسة والحكم والمناصب والحصص والأرض والشعب. هناك توزّع وطنيّ هائل وتقاذف إعلامي وسياسي وتطاول في مسائل المعتقد والإيمان. وهناك حراك ورفض عارم لواقع مرّ يقابله صمت رسمي مريب.
التهمنا التجاذب والتنافس والصراع والتفسّخ في المفاهيم بما تخطّى مثلّث الجنس والسياسة والدين


وهنا مثالان يمكن تعميمهما حيث طوابير متسوّلي السلطات على أبواب السياسيين:
1- عدد القضاة في لبنان ٥٠٠ قاضٍ يتوزعون بين الطوائف في استنسابية خاضعة لـ«الحصانة» السياسية التي تمتّع بها بعضهم. استنسخ لبنان الثورة الفرنسية في فصل السلطات الثلاث بالشكل لأنّ القضاء لم يتمكّن من أن يحافظ على استقلاليته عن السلطتين التنفيذية والتشريعية. قضاة لبنان اليوم مضربون ومهدّدون وكأنّنا في متاهة السلطات الأخرى اللامنتهية.
2- تضمّ الجامعة اللبنانية 80874 طالباً و5467 أستاذاً و2834 موظّفاً، ونحن بحاجة لتوظيف أكثر من ألف موظف لتسيير 19 كلية ومعهداً منتشراً في 64 مركزاً على مساحة لبنان. الجامعة أيضاً في إضراب مفتوح بعدما خرّجت القضاة والمهندسين والأطباء والضباط والنواب والوزراء والسلطات اليابسة والمرذولة صلبة تعاقب اليوم كبار أساتذتها ومفكّريها وترذلهم بمعاشاتهم وصندوق تعويضاتهم... لا قيمة للفكر والحبر ولا وجود حرّاً ونزيهاً للسلطات الجامعية في لبنان التي أصبحت مرذولة ومحكومة بممثّلي الأحزاب والفئات والطوائف والمذاهب المطبقة على لبنان وشبابه والذي يحاول التملّص من هذه السجون الثقيلة والمتعبة وخارج كل القوانين والأنظمة.
قد لا يفهم عاقل معنى دكتور يعمل أستاذ جامعي ومدى قيمته أو فاعليته التربوية والاجتماعية والتغييرية إن كان ملقياً كيانه بانتظار المناصب على جدران السياسيين الذين لم تتصفّ نفوسهم من تعكّر الحياة الحزبية والطائفية، بدلاً من السباحة في حبر الحريّة الوقورة لا داخل المختبرات ودور النشر والمؤتمرات العالية وبين شباب الجامعات!

لماذا؟
لأنّ دولة لبنان استوردت 45 جامعة خاصة ومعهداً من أنحاء الأرض، فتوزّعت طائفياً في أنحاء لبنان وصارت الجامعة تفرّق الأجيال ولا تجمعها. وكأن المكان أو الحيّز الجغرافي اللذيذ في لبنان أفرغ أو أسقط حيث لا أرصفة ولا أمكنة فكرية تسمح لك بالكتابة أو بالسير أو بالتفكير أو بالتأمّل ولا حتّى بالاحتجاج. مدان إن كنت مستقلاً، وتصوّب نحوك السهام والأقاويل وملفّات التحقير ما أن تتجاوز حدودك بالتصويب. تجمعات أحزابٍ طائفية تتقاتل في النهار وتتحاصص في الليل وفي الخارج. لكلّ حزب منطقته وعقيدته ونشيده وعلمه ولونه وجيشه الجاهز ولباسه العسكري الخاص وأسلحته الظاهرة والمخفيّة، وله شكله وهندامه بما فيها لحيته وله أيضاً مدرسته ولغته ومناهجه وأماكن عبادته ومسابحه وله جامعته إن لم نقل جامعاته وله مصارفه وإذاعته وشاشته وبرامجه وله ميزانياته وحصصه في الوزارة والبرلمان والإدارات وله دولته الخارجية ومموّلوه وإعلاميوه وممثلوه في الجامعات والروابط والجمعيات. أما العلاقات بين رئيس الحزب وكتّابه ومفكّريه ووزرائه ونوابه فهي محكومة بالنظرة إليهم كموظفين أحاديين تفتح لهم المواقع وأبواب السلطات الأمنية والقضائية لمجابهة أي مواطن أو جهة رافضة أو ناقدة ومعترضة. يستلّ زعماء الطوائف تهم القدح والذم في بلدٍ بات الشعر فيه جريراً والفرزدق وصارت مساحته حفراً وثقوب مغاور فساد لا قرار لها.
ما زال يغري المفكّرين طرح الأسئلة النقدية، إذ تنداح الأوطان والسلطان، مع اليقين الذي يشارف الحقيقة بأنّها أسئلة لا قيمة لها مهما كانت صائبة، ولأنها أسئلة سبق أن طرحها المفكرون في الغرب لكن طرحها اليوم لا قيمة له. قد يكون الكاتب الفرنسي ريجيس دوبريه Régis Debray جريئاً عندما نعى سلطات الفكر والكتابة في كتابه الصادر منذ أربعة عقودٍ بعنوان «السلطات الفكرية في فرنسا» Le Pouvoir intellectuel en France. ومع أنّني مقبل على قراءة هذا السقوط الفرنسي سأتعكّز على حبره لفهم الحافة العليا التي يتمايل فوقها لبنان واللبنانيون وربّما العرب والعالم بين المتناقضات التي لا آفاق ظاهرة لها بوضوح، وتغمرني القناعة بأنّ سلطات الفكر هي مثلث الأوطان وفيها لبنان.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية