في قلب الصخب الخارجي المليء بالتزلف والخداع والنفاق في كل الأوساط الحياتية، يستحضر المرء ضعفه وخيبته وعجزه عن معرفة ذاته أولاً، ومن ثم نقلها إلى زمن التحدي الواقعي والتفاعل مع الدور والمسؤوليات وبناء عُلقة متينة مع محيط مهترئ بغية الصمود وإحداث التغيير النوعي، كنوع من الاستسلام والترهل والانزلاق رويداً رويداً مع الجماعة في بوتقة الغفلة القاتلة. وكأنّ الشكل والمظهر أهم بكثير من مجرّد الحديث عن قيمة أو معنى أو مضمونات ترتفع بإحساس الإنسان ودفعه نحو الفعل الإيماني والإنساني الحقيقي والمميز، الذي يدخل به الزمن الحقيقي الذي أراده الله له ليخطّ مصيره. وما تقدّم موضع ابتلاء اليوم بشكل فاقع، أبرزته وسائل التطور التكنولوجي وجعلته أكثر وضوحاً.
فحتى في محافل دينية وسياسية وعلى قنوات إعلامية وعند إقامة شعائر وطقوس ومراسم ومسيرات معينة، فإنّ الاستحضار هو للشكل وطبيعة الجذب للأناس، ولو تعارض ما يلقى إليهم مع الرزانة العقلية والاتزان في تقديم المضمون فليس المطلوب تربيتهم وتغذيتهم على ذلك، بل إبقاؤهم في دائرة التسطيح والتجهيل، خدمة للجهوية والذاتيات والزعامات والعناوين التي تزداد بريقاً بمقدار ما لديها من جمهور وليس بمقدار ما تثبِّت في الحياة من قيم ومفاهيم.
ومع استغراق الناس وميلهم لهذا الصخب تزداد المحنة اتساعاً، حيث تكثر الأكاذيب والأباطيل وتنقلب الموازين وتنعكس القيم ويصبح الباطل حقاً والحق باطلاً، وهو ما نلمسه ونراه في عالم السياسة، إذ تُفبرك الحيل ويجري التلاعب بالمفردات وتسخّف الحقائق ويزوّر التاريخ وتستحقر الذاكرة الجماعية خدمة لسياسة هنا وهدف وضيع هناك، ولو كان على حساب الكرامات والحقوق، ألا تقوم الدول الاستكبارية بممارسة العهر السياسي والمالي في استغلال الشعوب وثرواتها واستعمارها والتآمر البشع على أناسها وتراثهم وثقافاتهم كما حصل ماضياً ويحصل حاضراً. مع ذلك فإنّه لو تساقطت حجارة الكنائس والمساجد وأُزهقت الأرواح فإنها ستبقى بإيمانها وعامرة بصفائها ومتسلحة بوعيها في وجه من يستغلون المسيحية والإسلام خدمة لمصالحهم وجشعهم وشيطانيتهم المريضة، هم يدّعون حمايتهم لأتباع الأديان ثم يزهقون أرواحهم ويبثّون أحقادهم ويحرضون ليل نهار لخلق أجواء القلق والتوتر والتخاصم والتقاتل بين الناس، سياسة تتوسل الدين من أجل العنف المسيّس وتكريس منطق الاستقواء والاستعلاء والاستكبار في النهاية.
لم يعد الحدث التاريخي عند الأمة اليوم المستبطن لعنصر التنوع في الرأي أو محاولة السؤال والفهم محطة لتحفيز العقل والنشاط الإنسانيين من ناحية الاعتبار والتأمل والانطلاق الجدي لتمثل جواب طاعة الله، الجواب المنفتح على كلّ اللحظات المتساوقة المنظِّمة بين داخل الإنسان وخارجه لنقله من البدائية في التفكير والشعور إلى التطور والتجديد في كل آن بعيداً عن الغفلة والنسيان، إنها الهمجية التي بقيت متجذّرة في روح الفرد والجماعة ولم يستطع الإنسان التخلص منها، وإن حمل ديناً وفكراً، فقد غابت عنه الممارسة والأمانة كصفة تبرز المصداقية والصدق لحسن تمثله لجواب طاعته وفعل حريته الأصيلين.
وبدل أن يكون التاريخ وعاءً للاعتبار والإفادة، تحوّل إلى عقبة توقفت عندها الجماعات وتحلقت المذاهب والطوائف لضمان استمراريتها الوهمية وتسجيل بطولاتها المزعومة، فيما الواقع ينزف والمستقبل يزداد ضبابية وسوداوية، يكفي أن يلقي البعض استفساره عن أمر تاريخي أو عقيدي أو فقهي أو سياسي متصل بجماعة أو بزعيم، حتى ترى التكتّل المذهبي الضيّق والتعصب الأعمى وكأن المذهبية والشخصنة فوق حدود القداسة والعصمة.
سئمنا من ندب حظّنا ولطم خدودنا وكأننا أدمنّا ذلك كجزء من حالة مرضية جماعية عامة


وبات المرء في غربة واغتراب عن الذات يرزح تحت نير الضغوطات والتشتت والضياع، كمفردات تتنازعه وتشغل باله وتفصله عن ذاكرته الحقيقية التي يختزنها بمقتضى ما يزرع من لحظات أصلية تحمل فعلاً وأثراً طيباً ونافعاً للحياة، فهل أضحى المرء متساهلاً ومتعايشاً تماماً مع هذا المشهد الكثيف من التنافر العام والانقسام والتشتت والتهميش والسقوط؟
إنّه انفصام جماعي منقطع عن الذاكرة والفعل الأصيل، حيث الأوهام بالانتصارات مستحكمة فيكفي أن يكون الزعيم أو تكون الجماعة منتصرة لنفسها وحدود نفوذها، والواقع أن الهزائم النفسية والإنسانية تطفو على سطح أيامنا، فلا تنافس حقيقياً وجدياً على احترام الذات لفسح المجال أمام اغتنائها وتجاوز أوهامها وانكساراتها، ودفعها نحو لحظاتها الفاعلة والمؤثرة، وبدل ذلك أصبحنا أكثر عزلة وانطوائية وانكفاء على تمرير ما يمكننا تمريره من مواقف وحركة لتحقيق المنافع والأنانيات والمطامع، فلم نتجاوز بذلك التاريخ الأناني المستمر إلى تاريخ التحليل والاعتبار والاستنتاج والمبادرات الفعلية للتغيير، وإعادة رسم الهوية من جديد، بما يتناسب مع مستجدّاتنا وحاجاتنا، فلم نعثر إلى اليوم على مبادرات أو أجواء جدية وملائمة للتغيير الجماعي الفعال والعودة إلى التواصل الحقيقي من دون حسابات بين كل المكونات، فيما تكثر المشاهد الحوارية والمؤتمرات التسامحية الشكلية من دون أي أثر لها في سير الأحداث.
في الواقع اليوم، نعيد إحياء ذهنية أهل القدرية التي انتشرت في حقبة تاريخية سابقة (والقدرية المقصود بها المجبِّرة هنا)، فإذا استسلمنا للقول بأن القدر والقضاء هو من يحدد مصائرنا وأوضاعنا، فإننا ننفي بذلك فعل إيماننا الحقيقي وتجاوبنا مع خطاب الله الأبدي لنا، الذي اقتحم زماننا المحدود وأراده نشطاً حيوياً بعيداً عن كل وحشية ورتابة، فنحن سئمنا من ندب حظنا ولطم خدودنا والنحيب، وكأننا أدمنّا ذلك كجزء من حالة مرضية جماعية عامة، منفصلة عن واقعها تهيم في مخيال غير سوي، تجد عنده أجمل ما يكون من مكان لإفراغ كلّ الشحنات والطاقات السلبية وتعليق الهموم على شماعته.
من هنا كان التفتيش عن لحظات الخلاص من الهموم والمشاكل بحجم إرادتنا وقوة ثباتنا وإيماننا بتحررنا ووعينا وفعلنا الإيماني والإنساني الحكيم، إذ الماضي اعتبار والحاضر وعي وبناء والمستقبل وجهة إبداع وحضور أكبر في ساحات التحدي، يتحول المرء إلى كتاب وجود لا فواصل فيه، يعيش فيه الهدف والتركيز والغائية المترفّعة عن كل محدود.

الحملات المشبوهة على فضل الله
إن كتاب الدين والحياة يوحّد زماننا بين الداخل والخارج ويجعله منسجماً، يكتشف المرء كل مرة فيه نفسه ويعرفها أكثر، رافضاً التقوقع وأن يكون الصدى الفارغ لحفنة من النفعيين والتجار والمستغلين وعبيد الدنيا المعتاشين على الإساءات والتقولات والافتراءات، ولا يفكّرون بسلبيات ما يقومون به وخطورته، إذ وصل الأمر ببعضهم إلى التهجّم وشنّ الحملات المغرضة على رموز دينية وإنسانية مشهود لها بالجدة والأصالة والتجربة الفريدة، كما يجري بين الفينة والأخرى من حملات مشبوهة في السر والعلن على مرجعية الراحل السيد محمد حسين فضل الله، التي وعلى الرغم من كل التضييق والحصار والتعتيم، بقيت حيّة بحياة فكر صاحبها المنفتح والرزين والسؤال لماذا هذا الصمت؟ ولمصلحة من؟ أيكفي يا ترى مجرّد إشارات وكلام في العموميات من دون قرار واضح وحاسم وعملي من الفاعلين السياسيين والدينيين والحزبيين اليوم، القيمين على الساحة الشيعية لوقف نهائي لأصوات الفتنة؟! أم أنه ما دامت المسألة لا تعنيهم شخصياً فلا ضير! أهكذا يكون الإنصاف والعدل والحكمة؟!
إن زمن الانتصارات الحقيقية هو من يشترك فيه الجميع في معركة ضدّ تسليع الإنسان واحتقاره واستغلاله والدوس على كرامته وحقوقه وتوجيهه، حتى يكون واعياً لغايته الشريفة وفعله الواعي، فلا مسايرة ومداهنة للفساد والمفسدين والانتهازيين والوصوليين، فليس من المقبول أن نواجه عدواً خارجياً استكبارياً ونتغافل عن عدونا الداخلي، الذي يعيش على جهلنا بالأمور وإدارتها كما يجب. من هنا ضرورة توجيه الأجيال وبناء روحها وتعليمها التمسك بإيمانها المنفتح والواعي كجزء من استراتيجية مهمة لمواجهة مشاريع العبث والتلاعب بواقعنا.
لطالما لجأت المذاهب والطوائف إلى لغة العنف المعنوي والمادي، كتعبير مستفزّ عن تمسكها بأنانياتها واستسلامها لتاريخية منسحقة أمام تمجيد الذات والتراث الخاص لها، معتبرة الآخر ناقصاً وقاصراً يجب استغلاله وإقصاؤه أو كسره وتطويعه، فبتنا نمتهن فنّ كسر الآخر سياسياً واجتماعياً وإلغائه وتهميشه، حتى أضحت جماعات فقيرة بكاملها مستغلَّة ومهمَّشة من كلّ الطوائف والمذاهب، وصار من يخالف في رأي أو يحاول رفع الصوت محاصراً مستنفداً ومحاطاً بجملة من المعوقات التي ترجو إعادته إلى الحظيرة.

طغيان الـ «أنا» المذهبية
للأسف، نشهد وبقوة طغياناً للأنا المذهبية حيث كل فريق وجماعة، داخل البيت الواحد المذهبي الإسلامي الشيعي والسني على السواء وكذلك المسيحي، نجدهم يتجمدون حول الأنا المستمَّدة من تصورات وأفكار لا تقبل إلّا أن تحملها، وكأنها الحق المطلق والحقيقة الكاملة، فلا مجال عندها للتحاور وقبول الرأي الآخر، حتى بتنا في عصر زاخر بكثرة الأنا من هنا وهناك على حساب الأنا الإسلامية والمسيحية العامة والمطلقة والمنفتحة على كل فكرة وقيمة، والتي لا تقبل انغلاقاً ولاحدوداً في النقاش، ومع ذلك يدّعي كل متكلم وخطيب - وما أكثرهم اليوم - أنه هو من يمثل الإسلام أو المسيحية ولا يكاد يفقه من خطوطهما وقواعدها العامة شيئاً سوى أنه غارق في وهم وانفصام شخصي نتيجة الأنا المستحكمة على تفكيره ومشاعره، وبالتالي لم نعد نعثر على إنسان متديّن بلا أنا مريضة يصبو إلى تأسيس شخصية إيمانية وإنسانية صادقة، تنطلق لبناء روح جماعية ووطنية، تعمل للمساهمة جديّاً في بناء دولة نزيهة تحفظ تاريخ رجالاتها المخلصين.
نعود إلى القول بأننا محاصرون بين جملة من الأنا الموزّعة ضمن نطاقات ضيقة داخل المذهب، وداخل التكتل الطائفي، وكل هذا يكبّل حلم الدولة وقيامتها، إذ باتت جسماً بلا روح وكيان، مجرّد صورة تتنفس فيها الطوائف والمذاهب والزعامات والجهويات طموحاتها التي لا حدّ لها.
في المقابل، بمقدار ما ينزف واقعنا من جراحات فإن النقد والتحرك للتغيير لا يزال انفعالياً غير منظّم ولا مؤثر، فإذا ما أردنا النقد البنّاء لا بدّ من التحلّي بالثبات وروح المقاومة والتحدي والاستمرارية في حركة منظمة ومؤثرة، رافضة الرضوخ للصدمات والانكفاء، فلطالما كانت السلطة المحنّكة ناجحة في خلق المطبات التي تعيق فعل الجماعة التغييري، وبدل أن تلبي هذه اللحظات تحاول إخضاعها لمنطقها النفعي وقتلها في مهدها وثنيها عن مفاهيمها، مع أن الدولة هي وعاء واسع التنظيم لربط المفاهيم وتكريسها والحفاظ على روحها لو ابتغت ذلك.
من هنا، فإن العقل الجماعي الناقد لا بدّ أن يكون انعكاساً لمركزية إرادة وقرار وتحكّم بالقوى الواعية واللاوعية للفرد والجماعة، بغية ترتيب العلاقة مع الله والعالم بالشكل الذي يحرَّر فيه المرء من كل القيود وتحفّز لديه كل الإمكانات، بطريقة لا مجال فيها للانفصام النفسي الفكري المرضي المستبطن لأعراف وعادات وتقاليد بالية تعكس انهزام النفس وتقهقرها، هذا العقل المقتحم للزمان الأبدي المتفوّق على أيّ شكل من أشكال التبعية والانسحاق أمام الماضي بما فيه من محطات وأحداث.

زمن الانتصارات الحقيقية هو من يشترك فيه الجميع في معركة ضد تسليع الإنسان واحتقاره واستغلاله


ما دام عدم التصالح مع الذات موجوداً بقوة وحاضراً في وجداننا الفردي والجماعي، نشهد قرفاً متزايداً لمنطق المسايرة والتنازل عن الحقوق والانسحاق أمام الآخر المستكبر والمستعلي، على الرغم من تسبّبه بكثير من ويلاتنا وأزماتنا، وبدل أن نكون في موقع الندّ للندّ وفي موقع القوة والقرار عدنا إلى منطقة الاستعباد من قِبل الكبار واللاعبين بمصير الشعوب.
فكم من زعماء طوائف وأحزاب وحتى عائلات يحرصون على المسايرة مع هذه الجهة أو تلك، مع أنهم يعلمون سوء ما تقوم به ولكن يتغاضون ويتجاهلون حفاظاً على مكتسبات مزعومة!
ليعلم من هم في موقع القرار والقيادة أنهم مسوؤلون أمام التاريخ الذي لن يرحم أحداً، لأن الحق والعدل بما يشكلان من مصدر اغتناء وحياة للتاريخ الحقيقي للفرد والجماعة، سيفضح يوماً ما حجم ما تسبّب به هؤلاء من أذى للذاكرة البشرية ولطموحاتها، فهم يملكون وسائل قد تقلب المشهد أو تغيّره أو تؤثّر فيه بدرجة كبيرة، لأنهم يعرفون تأثيرهم الجامح على الجماعة، فيكفيك أن تتابع خطاباً لزعيم أمام أفراد حزبه وطائفته في محفل خاص، فيتكلم بشكل مغاير تماماً لما يبوح به ويصدح علانية، فليكونوا أكثر وعياً وإحساساً بالمسوؤلية وكفاهم مسايرات وتعميات على وقائع يتربعون على إدارتها وتنظيمها واستثمارها أيام الشدة والرخاء.
ماذا قدمت هذه المسايرات للناس وللمجتمع غير مزيد من التوترات والقلاقل والتبعيات وتغييب فرص خلق الدولة الحقيقية؟ من المفترض أن تكون السلطة راعية للحظات الأمينة والشفافة للأفراد والجماعات بعيداً من تحيزاتها المناطقية والطائفية، والمقاومة الأولى للتشتّت والضياع، الساعية إلى تشجيع الاتزان في الخطاب والمفاهيم والمحاربة للترهيب والإقصاء، بدلاً من ذلك باتت السلطة مرتعاً للتنازع والتقاسم الطائفي والمذهبي وتكفير الآخر سياسياً، ومرتعاً للتآمر على المصالح وتزييف الوعي والحقائق مع مفارقة مضحكة أن الجميع يدين ظاهراً الطائفية والمذهبية ويدعو لاجتثاثها فيما عملياً يقوم بتعزيزها.
ليس من المقبول استمرار مسلسل المسايرة، وتوزّع الأدوار بين الجميع، والذي هو نوع تبادل مصلحي ينمّ عن أنانية مفرطة أرهق مجتمعاتنا وأغرقها حتى الثمالة، فصارت تتراقص على عصبيات شديدة البروز عند أدنى حدث أو موقف، فكيف لنا بناء فرد وجماعة وسلطة في خضم هذا التوزع البغيض في الأدوار، حيث الجميع يعرف حدوده ويتصرّف بطريقة مجنونة تحفظ للكيان القائم استمراريته البغيضة، فيما المطلوب مكاشفة ومصارحة توازي قوة استحكام المسايرة والنفاق في واقعنا، وهذا ما لا يتحقق بوجود أناس يتحكمون في مفاصل توجيه الخطاب ورفد الواقع بكل أشكال الفراغ وتغييب القيمة، وفي ذلك أبشع أنواع التسلّط وأخطر أشكال التعصب، عندما يصبح الإمعان في تحقير شأنية العقل والإنسان ديدناً، وهذا ينتج عنه أشد أنواع المظالم للناس والحياة حين تبعد الخلق عن أمكنة يتنفسون فيها ويعيدون إنتاج ذواتهم لما فيه الخير والتغيير، بحيث كيانهم ينطلق متماسكاً عارفاً بأهدافه ودوره، عالماً بحقوقه وواجباته، ولكن الحقيقة المرة أن القيّمين لا يرضون بذلك، إذ حينما يستيقظ الجمهور من غفلته سيأتي زمن المساءلة الحقيقية.
إذا كنت قوياً وأميناً لا تساير ولا تجعل من نفسك حارساً لفكرة مطلقة تقدسها ليل نهار أو لعنوان حزبي وعائلي ومذهبي بما يعبّر عن أنانية مفرطة تجعل الفرد يعيش خارج ذاته من دون تنبه إلى العودة إلى المنابع الصافية، حتى بات كثيرون أسارى لأفكار سياسية ودينية يرفضون النقاش فيها ويحيطونها بجدران عالية من الأسرار. كل ذلك يمعن في غلبة منطق الاستقواء على الآخر وإقصائه ويسهم بقوة في تأجيج القهر الاجتماعي والثّقافي، أليس هذا ما يحصل مع كثير ممن يمثلون الطوائف والجهات؟

متى يستيقظ زمن السؤال؟
كلٌّ يعرض بضاعته ويرى فيها الشفاء، لا بل يحملها متنقّلاً وكأنها خشبة الخلاص في ظلّ التعامي عن واقع مأزوم لم تعد اللحظة التاريخية ومستجدات الحياة تتقبله، إنها البضاعة الطائفية التي تحولت مع زعاماتها إلى نقمة بدل أن تكون نعمة ترفد الحياة بلونها الخاص ثقافياً واجتماعياً.
ليس من مهرب من وضع الإصبع على مكمن الداء الطائفي، وإلى أي حد قد أثّر في مجريات حياتنا وتاريخنا، فإذا كان صعباً التخلص مرحلياً من الطائفية فعلى الأقل علينا التخفيف من وطأتها وحجم استئثارها بحركتنا ومواقفنا وقراءتنا للأمور، والتفكير بروح منفتحة مخلصة عن كيفية توجيه الخطاب والجماعة، الوجهة التي تحفظ الهوية والانتماء قدر الإمكان بوجه خاص اليوم، حيث يجري التلاعب بالجماعات والطوائف والمذاهب لضرب هويات الشعوب وفرص توحدها وتقدّمها من قبل المستعمرين والمستكبرين بالتعاون مع أزلامهم ومرتزقتهم.
للأسف، لم تعرف الذات العربية والإسلامية بعد معنى التفاعل الحر بين ما تريد وما تحمل من هوية، واستحكمت فيها ولا تزال لغة تكرار الذات الوهمية، وتبرير ما تقوم به بلا انفتاح على المستجدات والحاجات، ووقعت تحت حصار النفوذ النفسي الذي يدفعها إلى الاستلاب والاستجابة لروح الجماعة المستسلمة للأقدار العمياء، فكانت العدوى المرضية الفكرية متنقلة بين الشرق والغرب لا فرق، بينما لغة الله المنفتحة على الزمن الأبدي لا تبالي، إلا بمن دخل الإيمان قلبه وكان عقله في طاعة متحررة مقتحمة لساحات الحياة بإخلاص وأصالة تبتغي تحفيز النشاط البشري واستثماره في الوجهة السليمة وإفراغه في تاريخ حيّ ولغة حية وسياسة سوية وتحولات تنقلنا باستمرار إلى حيث التجدد في كل شيء.
وحده السؤال المعرفي الواعي من يمنح الحياة جدّتها ويعمل على صحوة الضمير وعودته إلى النشاط وهجران الانفصام، وحده السؤال المشروع يُخرجنا من معاناة الضّيق والعصبية والقهر إلى حيث التوحّد في الموقف والشعور مع كل قيمة تسمو بنا فوق المحدود وفوق زمن انكسارات الذات والخيبة الموجعة، فمتى يستيقظ زمن السؤال لندخل جدياً في مرحلة الوعي والحساب والمراجعة؟
* أكاديمي وحوزوي