«إذا لم نتفق على قضية الأمن القومي فإننا سنظل حيارى لا نعرف أين الطريق، ولا كيف نمضي عليه؟»، «هناك من يتحدث ويفتي في الأمن القومي، وكأنه قضية مغلقة لا يمكن لأحد أن يقترب منها»، «الأمن القومي لأي بلد هو الأمن القومي لكل إنسان، ولكل قرية ومدينة، ولكل وطن وإقليم»، «الأمن القومي هو الحرص على حياة سليمة وصحية، حياة مستنيرة ومتعلمة ومتفهمة، إنتاج وفير يمكن لحياة كريمة، وطن قوي له وسائله في إنتاج مقومات حياته ومستقبلة».هكذا حاول محمد حسنين هيكل أن يلغي أي كهنوت في قضية الأمن القومي، وأن يدخله في اهتمامات كل مواطن عادي حتى يصير ممكنًا التوافق عليه بلا أهواء أو تقلّبات. الأمن القومي حقائق جغرافيا وتراكمات تاريخ، لا أحد يخترعه أو يؤلفه. الأمن القومي يشمل الحرب والسلام وإدارة العلاقات الدولية، وهذه مسألة مصير ومستقبل. ذات مرة استمع من الرئيس العراقي الأسبق جلال طلباني، أنه قال للرئيس الروسي فلاديمير بوتين: «إننا لا نضع البيض في سلة واحدة»
فعلّق بوتين بالقول «في ما يتعلق بي فإنني أضع البيض كله في سلة واحدة، لكنني لا أوزع بيضًا». وقد رأى في ذلك التعبير نظرية رائعة في الأمن القومي. «لسوء الحظ، فإن العرب يوزعون البيض كلّه على السلّات، وعملوا بيض أومليت، أو عجة، فأصبحت أحوال العالم العربي عجة» ـــــ يناير 2008. بتلخيص لجوهر رؤيته للأمن القومي المصري ونقاط تركيزه، فهناك محوران رئيسيان ــــ كما كتب شارحًا.
أولهما ــــ جنوبي هدفه ضمان سلامة نهر النيل وهو عصب الحياة في مصر. وثانيهما ــــ شمالي شرقي وبالتخصيص فلسطين، لأنها الجسر البري الذي يصل إفريقيا وآسيا في شبه برزخ بين بحرين، فهذا الجسر البري كان طريق مصر باستمرار إلى المشرق حيث تعيش بقية أمتها العربية، وكان على مر العصور ــــ مدخلها ومخرجها ــــ أي بابها الحضاري والأمني والاقتصادي. «لقد عرضنا قضية فلسطين خطأ على الشعب المصري حين صورناها له كأنها تضامن مع شعب شقيق، فتلك ليست القضية الحقيقية، وإنما كانت القضية الحقيقية وصميم الموضوع هو الأمن المصري». «إن دولة تقيم وجودها وتؤكد أمنها بالتضاد مع الجغرافيا والتاريخ من الطبيعي أن تستحوذ أدوات القوة والعمل السري على صدارة أولوياتها، وهي هنا الجيش الإسرائيلي والموساد وجهاز الأمن الداخلي».
وقد استعادت دراسة إسرائيلية عن ظاهرة هيكل ودوره في الصراع العربي ــــ الإسرائيلي ما كتبه قبل حرب 1967مباشرة: «ليست هي مسألة خليج العقبة إذًا، لكنها مسألة أكبر. هي فلسفة الأمن الإسرائيلي كله... الفلسفة التي ارتكز عليها الوجود الإسرائيلي كله منذ أن نشأ، ويرتكز عليها في المستقبل. من هنا أقول: إسرائيل لا بد لها من أن تلجأ إلى السلاح». تلك الدراسة كتبها البروفسور يو حاي بر سيلاع المتخصص في الشؤون العربية والإفريقية، وقد نشرت في دورية «أمجو» البحثية، التي ظهرت في أغسطس/ آب 2003 بعد احتلال العراق. تبنّت الدراسة الإسرائيلية سؤالًا افتراضيًا: «ماذا لو هزمت إسرائيل عام 1967؟». أخذت سؤالها من كتاب أميركي نشأت فكرته حين التقى في نيويورك ثلاثة صحافيين من مجلة الـ«نيوزويك» على غداء عمل هم: ريتشارد تشيزنوف، إدوارد كلاين وروبرت ليتل، الذين غطوا أحداث الحرب من الجانب الإسرائيلي. رغم الطابع التخيّلي لما جاء في الكتاب، الذي صدر في فبراير/ شباط 1969، إلا أنه اعتمد بالأساس على أحداث واقعية، وقد كان هدفه المباشر التأثير على صانع القرار الأميركي طلبًا لمزيد من الدعم لإسرائيل، رغم كل ما حازته من سلاح ومال وما حصدته من نتائج عسكرية فاقت كل توقع في حرب 1967.
إسرائيل دائمًا مهدّدة، وأميركا دائمًا مقصّرة، والعرب ينتظرون الفرصة للانتقام. في الكلام عن الصراع العربي ــــ الإسرائيلي نزعتان متناقضتان ــــ إسرائيل مهددة وهزيمتها غير ممكنة. «أثبتت حرب أكتوبر، في ما بعد، للجميع أنه حتى في ظل وجود شروط التطور المثلى في كفة الميزان العربية فإنه ليس بالإمكان هزيمة إسرائيل من جراء الفجوات الفاصلة بين إسرائيل وجيرانها، التي تواصل الاتساع والتضخم مع مرور السنين»، هكذا بالنص نزعت الدراسة الإسرائيلية عن العرب أي فرصة لأي نصر، لا في الماضي ولا المستقبل، على عكس ما روّج له هيكل من أن النصر ممكن.
بحسب ما رصدته الدراسة، وهي تتبع أرشيفه، أنه كتب نهاية مارس 1948 مقالًا في مجلة «آخر ساعة» تضمّن العبارات الآتية: «عندما سافرت إلى فلسطين ظننت، شأن الكثيرين من إخواني العرب، أنني سأجد هناك يهودًا بائسين ظهورهم محنية من فرط الرعب والذعر الشديدين. ظننت أنهم سيهربون ويفرون بجلودهم فور أن يبدأ القتال، واكتشفت أنني كنت مخطئًا. اليهود الذين رأيتهم في ميدان القتال حاربوا حتى آخر قطرة في دمائهم، واستخدموا حيلًا ذكية ورفضوا الاستسلام، وعلى كل الجيوش العربية القادمة إلى فلسطين أن تأخذ في الاعتبار ما كتب في السطور السابقة. المعركة من أجل تحرير أراضينا المقدسة لن تكون سهلة...». كما رصدت مقالًا آخر في 20 أكتوبر/ تشرين الأول 1967 بعد شهور قليلة من الهزيمة: «لمزايا الجندي الإسرائيلي قيمة حاسمة يجدر التنبه لها»، «كان من بين الجنود الإسرائيليين أساتذة جامعات وأطباء ومهندسون استجابوا للتعبئة العامة مترابطون ويعرفون الطريق إلى وحداتهم». «كان الهدف واضحًا في عيون جنود العدو، وهو وجود إسرائيل من عدمه... إننا نواجه عدوًا عصريًا متعلّمًا، ولا يوجد حل آخر أمام الطرف العربي لمواصلة الصراع الشامل سوى أن يصبح هو أيضًا متعلمًا وعصريًا». «العدو الإسرائيلي، على الرغم من قدرته على استغلال ما يتاح له من إمكانات، فإنه لا يلقي الرعب في النفوس وقدراته لا تخرج عن الإطار العادي. وإلحاق الهزيمة الكاملة به أمر ممكن». كانت تلك الكتابات باتساع نظرتها للحقائق لافتة للباحثين الإسرائيليين.
بمزيج من الإعجاب البالغ والنقد اللاذع، تابع الأكاديمي الإسرائيلي يو حاي بر سيلاع تعقب سيرة حياته وقصته مع القضية الفلسطينية. «هو الرجل الذي دعا الجمهور العربي عام 1964 إلى اعتبار القضية الفلسطينية قضية مصيرية وفق النقاط الآتية:
أ ــــ إسرائيل تمثّل قاعدة عدوانية في خدمة الإمبريالية الغربية
ب ــــ إسرائيل هي العقبة الكأداء في وجه الوحدة العربية
جـ ــــ لدى إسرائيل مطامع في التوسع والتمدد على حساب القوى العربية والإنسان العربي
لم تكن تلك أفكار طرأت على عقل كاتب بقدر ما كانت تعبيرًا عن التيار العام في العالم العربي. عندما انكسر ذلك التيار، دخلنا في الحيرة، فقدنا الطريق واحترامنا لأنفسنا وحقوقنا وتضحياتنا، وبدا تبنّي الرواية الإسرائيلية أمرًا ممكنًا.
وهذه مأساة مكتملة الأركان تناقض أبسط مقتضيات الأمن القومي وعواقبها وخيمة.
* كاتب مصري