لم يكن عاديّاً ما جرى في مبنى جريدة «الأخبار» قبل أيّام. ليس لأن المُستهدف هو هذه الجريدة أو أن كتّابها ملزمون بالدفاع عنها، حقّاً أو باطلاً. الأمر لا يتعلّق بالجريدة بقدر ما يتعلّق بجبران باسيل ونمط حكمه وهو ـــ الأمر ليس خافياً ـــ شريكٌ أساسي في حكم البلاد. وكما أنه يضيق ذرعاً بالنقد في داخل تيّاره الذي يطرد فيه ذات اليمين وذات اليسار، ويقصي فيه مَن يشاء بفرمانات سلطانيّة، فإنه في حكم الجمهوريّة يضيق ذرعاً بالنقد ويستخدم أجهزة الدولة في فرض سلطته وفي إدارة شؤون وزارته. بعد موقعة الـ«كونكورد» التي جاءت وكأنها معموديّة دم لجهاز يبحث عن سبب وجوده، وخصوصاً أننا لا نتذكّر من مآثر هذا الجهاز إلا اليوم الذي قُتلَ فيه النائب بيار الجميّل، وكان بحراسة «أمن الدولة»، لكنّ عنصرَها فرَّ من المكان بمجرّد ظهور المسلّحين والتجأ إلى أقرب دكّان يبكي وينتحب. ولأن هذا الجهاز، بين كل أجهزة الدولة، يحمل اسماً كبيراً وفضفاضاً، فإنك تتوقّع منه ألا يطلّ بهمّاته إلاّ لأسباب وجيهة جداً، وإلا فيما يتعلّق بأمن الدولة ـــ بجدّ، أمن الدولة. أمن الدولة يعني قبل كل شيء حماية لبنان من العدوّ الاسرائيلي ومن اختراقاته الكبرى في مفاصل الدولة والمجتمع، لكن الأجهزة الأمنيّة أصبحت أدوات طائفيّة، وأحياناً ميليشيويّة تُسخَّر من قبل زعيم الطائفة النافذ. وأمن الدولة يتطلّب حمايتها من الفساد، فهل يطلّ ملثّمو الجهاز لمداهمة أوكار الفساد في…الدولة؟ليس هناك من ضرورة لأجهزة استخباريّة خارج مخابرات الجيش اللبناني. لكن ولادة وتعظيم «فرع المعلومات» كان بسبب ليس فقط التنافس الطائفي عندما حُسبت المخابرات ـــ حقّاً أو ظلماً ـــ على خانة طائفة من دون غيرها، بل بسبب إرادة خارجيّة مرتبطة بالتحالف الأميركي ـــ السعودي الذي أراد إنشاء جهاز مستقل عن تحالف الجيش اللبناني الوثيق ـــ يومها، وليس اليوم—مع المقاومة. وزاد الاعتماد الغربي ـــ السعودي على «فرع المعلومات» بعد اغتيال الحريري، وأصبح أداة مستقلّة خارجة عن سيطرة السلطة السياسيّة. من المشكوك فيه أن أحداً في السلطة السياسيّة أعطى موافقة رسميّة على ضلوع وسام الحسن وأشرف ريفي في المشاركة في الحرب السوريّة، مبكراً قبل نحو سنتيْن من مشاركة حزب الله في الحرب هناك، أو في إشعال ورعاية حرب باب التبّانة ـــ جبل محسن. أما جهاز "أمن الدولة" فكان إنشاؤه أقرب إلى جائزة ترضية لطائفة لم تنل من «الطائف» ما نالته طوائف أخرى (بما فيهم الدروز الذين نالوا رئاسة مجلس الشيوخ غير القائم).
التسريب ليس جديداً في الاعلام اللبناني، وهو سمة من سمات العمل الإعلامي في النظم الديموقراطيّة والاستبداديّة على حدّ سواء (إن الفصل في العلوم السياسيّة بين منظومة دول ديموقراطيّة ومنظومة دول استبداديّة يجب أن يزول علماً وشيوعاً، لأنه يزرع فصلاً غير منطقي بين هذه النظم، لأن الحكم الديموقراطي الأميركي، مثلاً، هو أكثر استبداداً حول العالم من مجموع الدول المعروفة بـ«المستبدّة» حول العالم). وحريّة الصحافة تتطلّب التسريب لكشف حقائق تحجبها الحكومات عن عمد. في لبنان، لم يكن الشعب يعلم بضلوع أفراد من السياسيّين ورجال الدين في الصهيونيّة إلا عندما سرّبت جريدة «الديار» في الأربعينيّات شهادة «سريّة» للمطران أغناطيوس مبارك أمام لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين («يونسكوب»)، وفي شهادته لم يتحفّظ مبارك في تأييده لإنشاء دولة يهودية على أرض فلسطين. صحيح أن التسريب أدّى إلى غضبة شعبيّة وتظاهرات واحتجاجات وصراخ في المجلس النيابي، لكن البطريركية حمت مبارك، وأعادته إلى لبنان بعد غيبة لم تطلْ (ومبارك هذا لقي تكريماً في بيروت في ٢٠٠٨ وحضر التكريم ممثلون عن الرئاسات الثلاث، وحضرت أيضاً تلك التي كانت تعدّ الأطباق اللبنانيّة لأرييل شارون، واختارتها حركة ١٤ آذار لتمثيلها في المجلس النيابي بعد اغتيال الحريري). قبل تسريب «الديار» في الأربعينيّات كان الشعب تحت وهم الإجماع اللبناني ضد الصهيونيّة.
وفي معارك تعزيز حريّات الصحافة، تكون التسريبات ركناً من أركان زيادة حيّز الحريّات. ومعركة الحكومات في أميركا ضد حريّة الصحافة معارك طويلة جداً (سنّت الحكومة الأميركيّة في أواخر القرن الثامن عشر قانون «الفتنة» الذي مُنع فيه الشعب من انتقاد المسؤولين في الدولة). وفي القرن الحالي، تعزّزت حريّة الإعلام في أميركا بعض الشيء مع قرار المحكمة الدستوريّة العليا (قرار «نيويورك تايمز» ضد الحكومة الأميركيّة) في عام ١٩٧١ والذي سمح لـ«نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» بحريّة نشر «أوراق البنتاغون»، والتي كانت وثائق حكومية سريّة أعدّتها مؤسّسة «راند» لصالح الحكومة الأميركيّة عن التاريخ غير المُعلن لحرب فيتنام، والتي وثّقت لتاريخ من الأكاذيب الرسميّة عن الحرب. نشر الوثائق أظهر الفجوة الكبيرة بين ما كانت الحكومة تعلنه للناس وما كانت تتداوله في السرّ عن الحرب. وقرار المحكمة رفض حجّة الحكومة بالتذرّع بضرورات الأمن، وأشار إلى ان الحريّات هي أيضاً عمادٌ من أمن البلاد. كما أن القرار رفع من سقف ضرورة تقديم الحكومة لحجج عن ضرورات منع نشر وثائق رسميّة أو غير رسميّة في الصحافة. (طبعاً، تحاول الحكومات الأميركيّة المتعاقبة خرق القرار، كما أن ناشري الصحف ومالكي المحطات يتعاونون عبر العقود على تطبيق رقابة ذاتية تقلّص من حيّز الحريّات الإعلاميّة، والتي باتت الحكومة الأميركيّة تحتلّ فيها المرتبة الـ ٤٨ بين دول العالم، بحسب التصنيف السنوي لمنظمّة «مراسلون بلا حدود».
التسريب ليس جديداً في الإعلام اللبناني، وهو سمة من سمات العمل الإعلامي في النظم الديموقراطيّة والاستبداديّة على حدّ سواء


في لبنان، فرضت الحكومة اللبنانيّة على مرّ العقود رقابة صرامة على الصحافة اللبنانيّة، خصوصاً في فترة ما قبل الحرب الأهليّة. وبعد الحرب الأهليّة، في حقبة سيطرة النظام السوري، كانت الصحافة تخضع لرقابة ذاتيّة (تعلو أو تهبط بناءً على شجاعة أو جبن الناشر أو مالك المحطة) ولرقابة من أجهزة الدولة. وإذا كان العنوان القانوني للقمع في سوريا هو إصابة الروح القوميّة بـ«الوهن» وفي الأردن هو «إطالة اللسان»، فإن العنوان في لبنان يكون دائمأً هو حماية السلم الأهلي والوئام الوطني. لكن تسريبات الصحافة التقدميّة قبل الحرب (في «الأنوار» ـــ عندما كانت ناصريّة في زمن ناشرها ـــ أو «المحرّر») كشفت الكثير من مخططات الإمبرياليّة والأنظمة الرجعيّة. وكانت تلك الصحافة تستفيد من تسريبات للـ«كي.جي.بي» عن خلفيّات خطيرة لسفراء أميركا المعتمدين في بيروت. وفي عام ١٩٧٣، تسرّب محضر لاجتماع قمة في الجامعة العربيّة إلى جريدة «النهار» (أو بالأحرى، قام صحافي في «النهار» بسرقة ملف لوزير الخارجيّة، فؤاد نفّاع، تركه على طاولة في مجلس النوّاب) وأدّى ذلك إلى ملاحقة الصحافي واعتقال غسان تويني، ناشر الجريدة، وفرض الأمن العام يومها معركة ضد الإعلانات في «النهار»، لكن الجريدة استفادت من «تنوّع» في مصادر دخلها، فعاشت طويلاً (قبل انتقالها إلى حقبة الخلاعة والإباحيّة على الإنترنت في سنوات «الاستقلال الثاني» السعودي ـــ الأميركي). لكن عندما تغضب الحكومة من تسريب ما، فعليك أن تعرف سبب غضبها. غضبت إدارة سليمان فرنجيّة من التسريب لأنها كانت يومها متواطئة مع الحكومة الأميركيّة والإسرائيليّة ضد تسليح الجيش اللبناني: إذ إن الدول العربيّة النفطيّة تكفّلت بتجهيز سخي للجيوش العربيّة للدفاع عن أرضها ضد إسرائيل، لكن الحكومة اللبنانيّة كانت تسرّب تفاصيل نوعيّة السلاح الرادع (أنظمة دفاع جوّي وصواريخ أرض أرض) إلى الحكومة الأميركيّة التي كانت تأمر الحكومة اللبنانية برفض هذا السلاح، وكانت الحكومة اللبنانية ترضخ لهذا الطلب، مكتفية بتسليح الحكومة الأميركيّة لميليشيات اليمين الانعزالي. هذه هي نفس الاستراتيجيّة الدفاعيّة الذي يطالب بها أعداء المقاومة في لبنان اليوم: أي كشف وتعريض لبنان أمام الهيمنة والسيادة الاسرائيليّة على أرض لبنان. والتسريب في الصحافة يكون عقيماً ومن دون فائدة عندما لا يؤدّي إلى تحقيق برلماني أو محاكمة شعبيّة. مَن حاكم عهد سليمان فرنجيّة على تواطئه المباشر مع العدوّ الاسرائيلي (كما كشفت وثائق أميركيّة أُفرجَ عنها حديثاً) ولرفضه تجهيز الجيش اللبناني بسلاح رادع كان يمكن أن يوفّر آلافاً من الضحايا الأبرياء من الفلسطينيّين واللبنانيّين في الجنوب والشمال وفي بيروت؟
حاول جبران باسيل بشتّى الطرق تعظيم خطر هذه التسريبات، ما يحثّ المرء على العودة إليها لمعرفة سبب غضبة باسيل. لا يمكن أن يكون باسيل معترضاً على مبدأ التسريب في حدّ ذاته في بلد تتسرّب فيه محاضر جلسة مجلس الوزراء ـــ وبالحرف ـــ إلى الصحافة بعد دقائق فقط من انتهاء الجلسة. أهل السياسة يقيمون علاقات «حرم القربى» مع الصحافة، والعكس صحيح، أي إن العلاقة بين الحكم (في كل عناصره) والصحافة هي نفعية تبادليّة، وهذا ليس بفريد. لكنّ المحاضر التي وردت من واشنطن تحتاج إلى شرح بسيط. ليست المحاضر كاملة: إن المحاضرة الموقّعة، والتي يحضرها السفير في واشنطن، تكون عرضة لموافقة الزائر اللبناني مع السفير، الذي ينتمي إلى التيار الوطني الحرّ. مثلاً، هل أن الوزير حاصباني القوّاتي سيتكلّم بحريّة وثقة ضد حزب الله بحضور خصمه العوني؟ حتماً، لا. وعندما كان رفيق الحريري يزور واشنطن، كما أخبرني عضو في وفده، كان يلتقي في البداية مع المسؤولين الأميركيّين بحضور أعضاء الوفد، ويكرّر لوازم الكلام الذي لا يضرّه سياسيّاً في بلاد المنشأ، لكنه سرعان ما ينتقل إلى اجتماعات لا يحضرها من أعضاء الوفد إلى واحد أو اثنيْن فقط، حيث تبقى المداولات سريّة، أو تخضع لسيناريو بطولي من مخيّلة رفيق الحريري (وكان أحياناً يتعرّض الحريري للإهانة، كما حدث له في لقاء مع بوش، عندما قال له الأخير أمام أعضاء الوفد: وأنت ثري، يمكن لك المساهمة في تمويل بلدك.)
وهناك عدة تصنيفات من السريّة في وثائق المباحثات بين مسؤولين أميركيّين ومسؤولين لبنانيّين: وثائق «ويكيليكس» الأميركيّة كانت مصنّفة «سريّة»، وليست «بالغة السريّة». وثائق سنودن كانت ذات تصنيف أرفع من السريّة، لأنها تتعلّق بأعمال «وكالة الأمن القومي» وليس باجتماعات وزارة الخارجيّة. وموقف الحكومة الأميركيّة يظهر أكثر في وثائق ذات مرتبة سريّة عاليّة، أي إن جيفري فيلتمان في لبنان كان عليه أن يوافق على محضر الاجتماع الذي عقده قبل أن يتحوّل إلى رسالة ديبلوماسيّة لوزارة الخارجيّة (وكان يظهر فيها مستمعاً متلقيّاً أكثر مما ظهر فيها آمراً ناهياً، لأن ذلك يظهر أكثر في وثائق ذات تصنيف أرفع من السريّة). المحادثات الحقيقيّة والسريّة تجري خارج المحضر، وخارج وجود السفير اللبناني وأعضاء الوفد، وفي اجتماعات غير رسميّة وغير معلنة. تدرك أن المحضر لا يعبّر عن الحقيقة عندما تقرأ أن حاصباني في التسريب الأخير يدافع عن الوزير جبق في وزارة الصحّة.

انزعاج باسيل
هناك تفسيران منطقيّان لسبب انزعاج باسيل: التفسير الأوّل هو إمكانيّة أن يكون باسيل نفسه هو المُسرِّب (وهذا يمكن أن يفسّر أيضاً ردّ فعله القويّ للتغطية على دوره في التسريب، وإن لم يكن هناك دليل على ذلك ـــ والاعتراف بغياب الدليل ضرورة حتى لا يُرسل باسيل قوّة مجوقلة من «أمن الدولة» إلى منزلي في كاليفورنيا لتنفيذ عمليّة مداهمة أمنيّة حرصاً على أمن…الدولة). لكن لماذا يُسرَّب باسيل؟ قد يكون سرَّب بسبب الإشارة في المحضر للقاء مع مساعد وزير الخزانة الأميركيّة من أن الحكومة الأميركيّة تتابع تصريحات باسيل ومواقفه الداعمة لحزب الله. هل يريد باسيل أن يحسّن علاقته من وراء ذلك مع حزب الله الذي بات جمهوره ينظر بعين الريبة إلى باسيل، خصوصاً بعد سلسلة من المواقف الانعزاليّة له، بدءاً من الإصرار على محاكمة البطل، حبيب الشرتوني، إلى حضور تكريم أداة إسرائيل، بشير الجميّل (مجرم الحرب ومدير ماخور في بيروت الشرقيّة في سنوات الحرب)، حتى المقابلة الشهيرة على «الميادين» والتي اعترف فيها باسيل بأنه لا يكنّ عقيدة عداء ضد إسرائيل؟ أي إن الوثائق يمكن أن يُنظر إليها على أنها لا تضرّ باسيل البتّة، أو أنها في مصلحته، وخصوصاً أن سفيره كان حاضراً في اللقاءات.
أما التفسير الثاني فهو أن باسيل ليس هو المُسرِّب وأن المُسرِّب هو شخص من الوزارة هاله مستوى الخضوع اللبناني الرسمي لأوامر وتعليمات مساعد وزير في أميركا. لا شك في أنّ المحضر مهين: للوزير حاصباني وللوزير بطيش (الذي كان له نقد حسن للسياسة الاقتصاديّة المتبعة في لبنان). كيف يقبل الوزيران مثلاً إدلاء المسؤول الأميركي (وهو في البروتوكول الديبلوماسي أدنى منهما مرتبة) بآراء وامتعاضات حول تأخير تأليف الحكومة أو حول مَن يتولّى منصب حاكم المصرف المركزي (طمأنه بطيش إلى أن ولاية سلامة ستستمرّ) أو حول ما إذا كان لبنان يستورد من إيران وحول آراء في وزراء زملاء لهما في الوزارة؟ من المفترض لو أن الوزراء يحترمون سيادة بلدهم أن يرفضوا البحث في أي موضوع خارج نطاق جدول الأعمال الرسمي الذي يجب أن لا يكون مفتوحاً كما يكون مفتوحاً عندما يلتقي أي مسؤول لبناني رسمي بأي نائب لمساعد نائب أمين في وزارة أميركيّة. لكن لا، يريد المسؤولون في لبنان تبييض الصفحة وإثبات الولاء مع كل ديبلوماسي أو مسؤول رسمي أميركي. في وثائق «ويكيليكس» قام وزيران من ١٤ آذار بتقديم وثائق رسميّة سريّة إلى الحكومة الأميركيّة، وواحدة من تلك الوثائق تتعلّق بشبكة اتصالات المقاومة ـــ أي إنها كانت خدمة أكيدة لصالح العدوّ، ولم يداهم «أمن الدولة» في حينه منزل الوزير كي يحقّق معه أو يحاكمه. والتسريب إلى الحكومة الأميركيّة لا يلقى غضبة من باسيل أو غيره، كما يلقاه تسريب يصيب الحكم بالإحراج ويفيد في تنوير الشعب حول طبيعة السياسة الخارجيّة المذلَّة للبنان.

بات باسيل يتعامل مع جهاز «أمن الدولة» كما يتعامل بيت الحريري مع «فرع المعلومات»، كأنه ميليشيا خاصّة بالعائلة أو بالزعيم


والحكومة الأميركيّة تتعامل في الأمور البالغة السريّة من خارج أقنية التواصل الرسميّة. نعلم اليوم مثلاً أن كل رئيس جمهوريّة مُنتخب في مرحلة ما قبل الحرب الأهليّة كان يُعيِّن مستشاراً خاصّاً (غير مُعلن) له يكون صلة الوصل الحقيقيّة الرسميّة بينه وبين الإدارة الأميركيّة، ولم يكن السفير اللبناني في واشنطن أو حتى وزير الخارجيّة في بيروت على علم بهذه القناة. وليس هناك من سبب للظن بأن هذا التقليد المُتّبع لم يستمرّ بعد الحرب الأهليّة حتى يومنا هذا. الحكومة الأميركيّة هي الأخرى تخشى التسريب، وهي حريصة على أسرارها، خصوصاً في ما يتعلّق بالشرق الأوسط (لأن الأنظمة باقية والشخصيّات والعائلات السياسيّة باقية) كما نرى في تقتير نشر الأرشيف الأميركي عن منطقتنا.
وهنا يمكن تفسير غضب جبران باسيل على أنه تعبير عن غضب وتأنيب أميركي، لأن نبرة التخاطب للمسؤول في وزارة الخزانة الأميركيّة كانت خارج اللياقات ولغة التخاطب الديبلوماسي. كان المسؤول في وزارة الخزانة يحدّث وزراء لبنانيّين كأنه جالس في مقهى رصيفي. والحكومة الأميركيّة بالغة اللجوء إلى الباطنيّة والتقيّة في خطابها الديبلوماسي، كأن تقول وهي تدعم ميليشيات اليمين الانعزالي في سنوات الحرب أنها تسعى لإنهاء الحرب أو عندما تقول على مرّ السنوات إنها تؤيّد استقرار لبنان. وهذه المصطلحات لا معنى لها عند الإدارة الأميركيّة، لأنها لا تعنيها (ظهر فؤاد بطرس في مذكّراته معتداً بنفسه، لأنه أورد أنه عندما كان يلتقي بمسؤول أو سفير أميركي كانوا يسألونه عمّا يريد منهم أن يصرّحوا به بعد اللقاء (لم يلاحظ بطرس أن ذلك يعني أن كلامهم الخارجي لا قيمة له ولا تأثير على مسار السياسة الخارجيّة الأميركيّة).
لكنّ هناك جانباً آخر في مسرحيّة الاستعانة بجهاز أمن الدولة في معارك جبران باسيل. بات باسيل يتعامل مع الجهاز كما يتعامل بيت الحريري مع «فرع المعلومات»، كأنه ميليشيا خاصّة بالعائلة أو الزعيم. وبعد أيّام فقط من موقعة مبنى الـ«كونكورد» وظهور عناصر الجهاز من أجل سحب صور الكاميرات التي ظنّ الجهاز أنها تُظهر بالجرم المشهود عمليّة تسليم المحاضر الورقيّة باليد (لم يسمع قادة الجهاز بتبادل الوثائق إلكترونيّاً)، ألقى الجهاز نفسه القبض على رشيد جنبلاط لأنه انتقد جبران باسيل، وإن كانت التهمة ذكرت جرم «التطاول على المقامات»، وهذه التهمة تشبه تهمة «إطالة اللسان» في الأردن. لكن ماذا يعني قانون التعرّض لـ«المقامات» وما تعريفه الرسمي، خصوصاً أن المقام هو في اللغة «موضع القدميْن»، أو هو الحجر (مقام إبراهيم بجوار الكعبة). إلاّ إذا كان المعنى هو الوارد في أدب الزهد والتصوّف، أي إن باسيل بلغ مرتبة عالية في التوبة والورع والتُقى والزهد والفقر والصبر والتوكّل. هل هذا هو المعنى؟
يسعى جبران باسيل إلى موقع ـــ لا مقام ـــ الرئاسة، لكن من دون تصنّع الزهد في السلطة. وهو وصل إلى السلطة ـــ أو قربها ـــ واكتشف أنه حتى "الرئيس القوي" ليس قويّاً في الرئاسة بعد الطائف. ولهذا، يسعى العهد الجديد إلى إظهار القوّة بقشورها، عبر التعبير عن ضيق صدر إزاء أي نقد يُوجّه للسلطة (أنا ـــ المُقيم في أميركا منذ عام ١٩٨٣، أحلتُ على المحكمة العسكريّة بسبب تغريدة أدانت بقوّة جلسة السمر التي يعقدها دوريّاً ضبّاط في الجيش اللبناني مع ضبّاط العدوّ، وهذه الجلسات ـــ وإن لم تعترف بذلك الحكومة الأميركيّة، هي أمرٌ أميركيٌّ لا يُرد، أي إن أميركا تضع هذه اللقاءات من ضمن شروط مساعداتها البائسة إلى الجيش اللبناني). ويحقّ لباسيل أن يطمح إلى الرئاسة، وأن يعدّ العدّة لها، لكن فرض جو بوليسي في وزارته أو الاستعانة بجهاز أمني من أجل تحقيق مآرب شخصيّة أو حتى سياسيّة يشكّل مخالفة قانونيّة ودستوريّة.
نحن نعيش في ظل تآمر غرب لا يتوقّف ضد منطقتنا. والحكومة الأميركيّة تدير العالم العربي على طريقة مستعمري قرون غابرة. والإعلام العربي هو إما تابع للنظام السعودي أو الإماراتي أو القطري (والأنظمة الثلاثة مُطبَّعة مع العدوّ الإسرائيلي) أو لأصحاب مليارات محليّين. والتسريب إلى الصحافة هو مساهمة ضرورية وحيويّة لإطلاع الرأي العام على ما يجري من مؤامرات، أو للمساعدة في فهم مؤامرات الغرب ضد بلادنا. وعندما يُسرِّب موظّف ما، في وزارة الخارجيّة أو في غيرها، وثيقة ما اعتراضاً على إذلال للسيادة اللبنانيّة أو على صلف أميركي رسمي ضد البلد أو على تقاعس مسؤول لبناني عن أداء الواجب، فإنه بذلك يسدي خدمة وطنيّة تستحق التقدير لا التقريع. وإذا كنا نصفّق للمسرّبين في أميركا، مثل تشلسي ماننغ أو إدوار سنودن، فمن باب أولى أن نصفّق للمُسرِّبين المحليّين. وخلاصة محاكمة نورمبرج ـــ على ما شابها من نواقص ـــ كانت أن هناك أخلاقيّات تتفوّق على القانون، وأن رفض تطبيق القانون يكون واجباً إنسانيّاً قبل أن يكون واجباً وطنيّاً. وعليه، يجب توجيه ملثّمي «أمن الدولة» جنوباً ـــ بعيداً جداً عن مبنى الـ«كونكورد».