«لأكثر من سبعين سنة، قالوا لنا إنّ المال ليس هو السعادة. إنّ أفضل الأمور في الحياة مجانيّة. الحبّ، مثلاً. ولكن، في اللحظة التي وقف فيها أحدهم على منبر وقال: «بيعوا وازدهروا!»، رُمي بكلّ ذلك من النافذة». «الكلّ يبحث عن جذوره الأرستقراطيّة. هذه هي الموضة الآن! أمراء وكونتات يخرجون من الظلال. في الماضي، كان الناس يفتخرون بأنّهم يتحدّرون من سلالة طويلة من العمّال والفلّاحين. اليوم، الجميع يرسم إشارة الصليب ويلتزم بالصيام. يخوضون نقاشات جديّة عمّا إذا كانت الملكيّة هي ما سينقذ روسيا. إنّهم يعشقون قيصراً كانت بنات الجامعات تسخر منه عام 1917. هذا البلد غريبٌ عليّ، إنّه بلد أجنبيّ».«أنا سوفياتيّة وأمّي مثلي. كنّا نعمل من أجل بناء الاشتراكية والشيوعيّة. كان الأطفال يلقَّنون أن البيع هو أمرٌ مخزٍ وأنّ المال لا يشتري السعادة. عِش بنزاهة وابذل حياتك في سبيل وطنك - أغلى ما نملك قاطبةً. طوال حياتي، كنت فخورة بكوني مواطنة سوفياتيّة، ولكني اليوم أشعر بشيءٍ من الإحراج بسبب ذلك. كأني كنت غبيّةً لأنّي آمنت بهذه الأمور».
(من الشهادات في كتاب سفتلانا الكسيفيتش، «زمن مستعمل»، ترجمة بيلا شايفيتش، راندوم هاوس، 2017).


من الأمور التي لا قيمة سياسية لاستعادتها اليوم، ولكنها مهمّة بالمعنى التاريخي، فكرة أنّ السقوط الكامل والصاعق للاتحاد السوفياتي لم يكن «حتميّاً» أو«مقدّراً» - كما يعتقد الكثير من الناس اليوم. المؤرّخ المحافظ نيال فيرغسون يقول إنّه، حتى سنة 1987، لم يكن أحدٌ من المراقبين يرى الاتحاد السوفياتي في طريق السقوط أو يتخيّل أنه سيتفكّك خلال سنواتٍ قليلة. الانهيار حصل بسرعةٍ مدهشة؛ خلال أقلّ من عامين على إطلاق «بريسترويكا»، كان الاقتصاد السوفياتي مشلولاً وفي حالة انهيار، وماليّة الدولة في عجزٍ هائل، والعملة تخسر من قيمتها كلّ يوم.
أحد الباحثين القلائل الذين يعملون على تفسير السّقوط وسياقه، كريس ميلر، يؤكّد هذا الرأي. ميلر يقول إنّ النظريات الشائعة اليوم حول الانهيار السوفياتي كلّها ليست صحيحة: كانت هناك أزمة اقتصادية وتباطؤ في النموّ، ولكنّ الأزمة كانت أقسى في الغرب، يقول ميلر، ولم تكن من النوع الذي يفكّك إمبراطوريّة. «سباق التسلّح» الذي أطلقه ريغان لم يكن هو السّبب، فالاتحاد السوفياتي ظلّ ينتج ويطوّر الأسلحة بوتيرةٍ عالية، حتى أواخر الثمانينيات، من غير أن تُكسر الميزانية. حتى انخفاض أسعار النفط والدور السعودي في «إفلاس» الاتحاد، يقول ميلر، هو أسطورة تكذّبها الأرقام. إصلاحات غورباتشوف وفشلها الذريع، يصرّ ميلر، كانت السببية الواضحة والأساسية؛ خلال أقلّ من عامٍ على إطلاق «الإصلاحات السوقيّة» كانت سلسلة الإنتاج في الاتحاد السوفياتي قد توقّفت، وأغلب المصانع لا تعمل أو لا تجد من يزوّدها بالمواد الأوليّة، والدولة في عجزٍ كبيرٍ وهي تطبع العملة لتغطّيه (انظر ميلر: «الصراع لإنقاذ الاقتصاد السوفياتي: ميخائيل غورباتشوف وانهيار الاتحاد السوفياتي»، منشورات جامعة كارولينا الشمالية، 2016).
الكثير من الناس، وخاصّة الفئات المثقفة في موسكو ولينينغراد، كانوا فرحين بسياسة الانفتاح السياسي الموازية التي انتهجها غورباتشوف: أصبح النقد الجذري للشيوعية والنظام والتاريخ السوفياتي أموراً تقدّم كل ليلةٍ على التلفزيون الرسمي؛ أكثر المجلات انتشاراً في مرحلة «بريسترويكا»، مثلاً، كانت أسبوعية «اوغونيوك» التي تنتهج - بحسب سفتلانا الكسيفيتش - «سياسة تحريرية مناصرة للرأسمالية ومناصرة لأميركا». أجريت انتخابات جديدة وأعدّ قانونٌ للأحزاب، إلخ. ولكن، في الوقت نفسه، كانت الصفوف تستطيل أمام المتاجر، والرفوف فارغة. الإنتاج وصل إلى حدّ الشلل، والعمّال في شركاتٍ تنتج أموراً «مرغوبة»، الطعام مثلاً، يفضّلون أن ينالوا رواتبهم على شكل معلّبات أو منتجات يمكن لهم أن يقايضوها، بدلاً من روبلات لن تشتري شيئاً. البعض اليوم يتوهّم أنّ كلّ المرحلة السوفياتية كانت حياة صفوفٍ طويلة ومتاجر فارغة ونقصٍ في المواد الأساسيّة كما كان الحال أيام أزمة «بريسترويكا»، وهذا غير صحيح، ولكن النهايات دوماً هي ما يعلق في الذاكرة. الأمر الحزين هنا هو أنّه، بالنسبة إلى المواطن «السوفياتي»، فقد كانت مرحلة غورباتشوف والانهيار.
بسرعةٍ فائقة، تحوّلت الأزمة إلى حائط مسدود، ثمّ إلى انهيار لإمبراطورية عمّرت أكثر من سبعين سنة، وجُبلت بدماء وتضحيات وعمل الملايين من النّاس. جيلٌ كاملٌ أبيد في الحرب، ولكنه هزم ألمانيا النازية ورفع علمه في برلين، جيلٌ ثانٍ أمضى حياته في العمل والبناء: «لقد قضينا حياتنا بأكملها نتنقّل بين الملاجئ ومنامات العمّال وثكنات الإسكان… لقد آمنّا أنّنا، يوماً ما، سنعيش لنرى الحياة الجيّدة. فقط انتظر وسترَ، اصبر وتألّم وسترَ»، هكذا لخّصت سيّدة من جيل الحرب العالمية الثانية قصّة حياتها وحياة زوجها قبل أن تنهي «بريسترويكا» الوطن الذي عملوا لأجله.

حكايات المطابخ
للكاتبة البيلوروسية سفتلانا ألكسيفيتش أسلوبٌ مميّز. هي لا «تكتب» بل تجمع شهادات وقصصاً و«تاريخاً شفوياً» حول موضوعٍ معيّن أو حدث أو حقبة عبر مقابلاتٍ على الطريقة الصحافيّة - أكثرها لأناسٍ عاديين يتكلّمون عن حياتهم - ثم تنسجها سويّةً في كتاب، هو فعلياً مجموعٌ لهذه الأصوات. «زمن مستعمل» هو كتاب الكسيفيتش عن مرحلة السقوط السوفياتي وما تلاه، كما يتذكّره مواطنون سوفياتيّون، والكتاب يركّز تحديداً على مصير الـ«سوفوك». أي الناس الذين ولدوا وكبروا في النّظام السوفياتي، واكتسبوا شخصيّة وسلوكيات «سوفياتية» مترسّخة، حافظوا عليها حتى بعد الانهيار ومجيء الرأسمالية - التي لم يتمكّنوا من قبولها والتأقلم معها.
أكثر أحاديث «بريسترويكا» ونقاشاتها تجري في المطابخ، فمطبخ المنزل - تشرح الكسيفيتش - له دورٌ خاصّ في تقسيم الشقّة السوفياتية التقليدية. المطبخ يقوم غالباً مقام غرفة الجلوس، هو المكان الحميم الذي تستقبل فيه الزوّار وتأكلون، وتناقشون، من دون خوفٍ أو رقابة ذاتية، السياسة والأحداث والكتب، الشرعيّة منها والممنوعة (كان هناك نوعان من المنشورات «الممنوعة» في الاتحاد السوفياتي، الـ«ساميزدات» وهي المؤلفات التي تمنعها الرقابة ويتم تصويرها وتبادلها بالسرّ، و«تاميزدات»، أي المواد التي كان يؤلّفها كتّابٌ روسٌ في الخارج). في الجدالات التي تجري في المطابخ كبر «جيل الستينيات»، الذي جاء نقدياً ورافضاً للنظام القائم، وكان من أهم داعمي سياسات غورباتشوف (وهو، من الناحية العمرية والسياسية، قد مثّل هذا الجيل في القيادة).
ألكسيفيتش معادية للشيوعية وللنظام السوفياتي (هي لم تفز بجائزة نوبل من فراغ)، وهي لا تتعاطف بشكلٍ خاص مع الـ«سوفوك»، ولكن - حتى بالنسبة إلى الكاتبة البيلوروسية - لا توجد قصص سعيدة هنا؛ لا في المرحلة السوفياتية، ولا في المرحلة الرأسمالية التي تلتها، وحطّمت حياة الناس بشكلٍ جماعي (تتّفق الشهادات على توصيف مرحلة التسعينيات بأنها تشبه فترة الحرب العالمية، حين يكون كامل اهتمامك وجهدك منصبّاً على تأمين الغذاء والبقاء على قيد الحياة). وفي مرحلة بوتين، التي تصل شهادات الكتاب إليها، لا يشعر الناس بأنّهم جزءٌ من شيء أكبر، كما في السابق، أو أنهم يبنون مستقبلاً مزهراً، ولكن لديهم استقرار وطعام، وهم يتذكرون مرحلة التسعينيات ولا يريدون العودة إليها. المفارقة هي أنّه، حين «جاءت الرأسمالية»، كانت هذه الفئة من المثقفين النقديين، التي دعمت غورباتشوف وتظاهرت ضد الانقلاب وطالبت بيلتسين، هي الأقلّ قدرةٍ على التأقلم مع النظام الجديد. «هذا ليس ما أوصينا عليه» هي الفكرة التي تتكرّر بتعابير مختلفة على ألسنة الشخصيات التي وقفت مع غورباتشوف ويلتسين. بعد تحرير السوق وتصفية القطاع العام، وجد ملايين المهندسين والأطباء والباحثين أنفسهم مجبرين على العمل في التنظيف والبيع وباقي المهن اليدوية حتى يتمكّنوا من سدّ الرّمق. ظهر فجأةً رجال أعمالٍ ونصّابون ومسلّحو عصابات استولوا على المشهد، فيما أصبح العجائز الروس - الذين قاتل بعضهم في الحرب العالمية الثانية - في كلّ ناصيةٍ يشحذون أو يبحثون عن فضلاتٍ تؤكل - فرواتب التقاعد لم تعد لها قيمة. لم يعد للكتب والأفكار من دور، والورق الوحيد الذي له قيمة هو ورق المال. تروي إحدى الشخصيات أنك، في أوائل التسعينيات، صرت «تجد كتب غوركي وماياكوفسكي متكدّسة في المزابل»، وأعمال لينين الكاملة في مراكز تدوير الورق. يقول آخر في شهادته إنّه، حين تمّ الإعلان عن حلّ الاتحاد السوفياتي، جاء إلى والده فرحاً مستبشراً، فأجابه أباه - وهو شيوعيٌّ عتيق - «ابنك الآن سيصبح خادماً، هل هذا هو ما يسعدك؟».

موت النموذج
هناك أسبابٌ أيديولوجية واضحة لتقديم كامل تجربة الاتحاد السوفياتي على أنّها كانت كارثةً وبؤساً وغولاغ. «بلدٌ من العالم الثالث مع صواريخ» كما يقول أحد الشهود في الكتاب. ولكن، بعيداً عن لعبة الأيديولوجيا والتقييم السياسي، تجد في عمل الكسيفيتش - عن دون قصدٍ منها - تذكيراً بأحد أهمّ مرتكزات الفعل السياسي: تخيّلُ «نوعٍ» مختلف من الحياة البشرية، أن هناك إمكانات واحتمالات مختلفة لبناء المجتمع. وهي حاسّة نكاد نخسرها بالكامل في زمن الهيمنة الليبرالية. حين تروي الكسيفيتش أحاديث المطابخ ونقاشات الناس خلال بريسترويكا، كان الكلام عن المثل والمبادئ ومعنى الحرّيّة، ولكني وجدت نفسي أفكّر: أين تجد بلداً يقضي الناس العاديون والطبقة العاملة فيه وقتهم وهم يناقشون شخصيات تشيخوف وروايات دوستويفسكي وقصائد باسترناك؟ يُدهشك كمّ الناس الذين كانوا يختارون لدراستهم اختصاصات «غير عمليّة» مثل الفلسفة، أو أن أهم الأحداث الاجتماعية في مدينة موسكو كانت حين يقدّم مؤرّخٌ مشهور مثل سيرغي افيرينيتسيف محاضراته الأكاديمية، وكانت تقام في قاعات مسارح «تحضرها كلّ موسكو المتنوّرة». يقول أحد الشهود لالكسيفيتش أنّه في مرحلة البريسترويكا، حين ارتفع انتشار الصحف والمجلّات بشكلٍ هائل، كان كامل راتبه يذهب اشتراكاتٍ لمطبوعات، فيما راتب زوجته يُنفق على حاجاتهما الباقية (في أيّ مجتمعٍ رأسمالي يمكنك أن تسخّر هذا القدر من دخلك للثقافة؟).
المسألة تذهب أبعد من ذلك. مجتمعٌ اشتراكي بيروقراطي كالاتحاد السوفياتي، على علّاته، كان يقدّم للفرد احتمالاتٍ لـ«الهروب» لا يمكن تخيّلها اليوم، وبخاصّة إن كنت لا تملك طموحاً ماديّاً. هناك ممارسة سوفياتية تسمّيها إحدى الشخصيات «الهجرة الداخلية»: في النظام السوفياتي باختصار، لو أنك اخترت وظائف معيّنة - حارساً ليلياً، عامل تنظيف، إلخ - ففي وسعك أن تمارس «هجرة داخلية». تسكن في البلد ولكنك لا تعيش فيه؛ تراقب ما يجري ولا تشارك. ليس لديك فعلياً رئيسٌ ولا تحتاج للعمل مع أحد ومسؤولياتك محدودة. يقول أحد شهود الكسيفيتش إنّه درس هو وزوجته الفلسفة، وتوظفت هي كعاملة تنظيفات وهو وظيفته أن يلقّم مرجلاً بالفحم. يعمل في نوبةٍ طويلة تستمر 24 ساعة ثم يُعطى 48 ساعة إجازة. يقول إن راتب المهندس كان 130 روبلاً فيما راتب عامل المرجل 90 روبلاً، «إن كنت مستعداً للتخلي عن 40 روبلاً، فأنت تحصل على الحرية الكاملة»، إذ كان أغلب وقته فراغاً يقضيه في القراءة، أو مع زوجته وأصدقائه.
يحوي عمل الكسيفيتش عدداً من الأصوات مرّت في المعتقل (الغولاغ) أيّام ستالين، وجنود قاتلوا في أفغانستان والشيشان، وليبراليين كانوا يحلمون بأن سقوط الاتحاد السوفياتي سيجعلهم مباشرة مثل أوروبا الغربية، «أن نستمع لموسيقاهم، أن نلبس مثلهم، وأن نسافر حول العالم»، تقول روسية كانت تنشط في مظاهرات موسكو (يوجد دوماً في دول الجنوب خلطٌ بين «الحياة في الغرب» وبين «حياة الطبقة الوسطى-العليا في الغرب»، وهذا يعود جزئياً إلى أنّ أكثر الوسطاء الثقافيين بيننا وبين الغرب ينتمون إلى هذه الطبقة، سواء كانوا غربيين أو مهاجرين). ولكن حتّى هؤلاء يجدون شيئاً جيّداً يُقال عن الاتحاد السوفياتي، حين يُقارن بما تلاه (أحد الاقتباسات في بداية المقال، مثلاً، جاء من مواطنة قضت طفولتها في معسكر اعتقال). المسألة لا تقتصر على فترة التسعينيات الصعبة، وتجارب غايدار وتشوباييس الاقتصادية، حين أصبحت أمورٌ كالصابون ومعجون الأسنان «تعتبر هدايا جيّدة لعيد الميلاد»، بل أيضاً في العنف والمآسي التي رافقت التفكك السوفياتي. في كتاب سفتلانا الكسيفيتش فصولٌ تروي عن فظائع ما بعد الانهيار: روس يطردون من آسيا الوسطى ويقتلون في دوشنبه، الأبخاز والجورجيون يقتلون بعضهم البعض، والأذريون يذبحون الأرمن في باكو فيما يُقتل الأذريون ويهجّرون من أرمينيا. وهذا كلّه بين أناسٍ كانوا يرون بعضهم، قبل أشهرٍ، «أخوة» و«رفاق».
أحد الموظفين الكبار الذين تكلّمت إليهم الكسيفيتش يلفت إلى أنّ خروتشوف فقد احترامه ومكانته عند النخبة السياسية بعد أن كُشف - بعد إزاحته - عن أدوات الترف التي كان يكدّسها في «الداتشا» (الشاليه) الذي كان يملكه: مجموعة بنادق فخمة، أثاث الماني، كريستال تشيكي، إلخ. ولكن كلّ هذه الأمور، ينبّه الشاهد، كان يمكن تحميلها في سيّارة نقلٍ سوفياتية واحدة، فيما غورباتشوف «الإصلاحي»، مثلاً، بنى «داتشا» على البحر الأسود استورد لها الرخام من إيطاليا وأدوات المطبخ من ألمانيا، ورملاً للشاطئ من بلغاريا: «لم يمتلك أي زعيمٍ غربي شيئاً مماثلاً؛ داتشا غورباتشوف تجعل داتشا ستالين في القرم تبدو كمنامة للعمّال». وهذا، بدوره، لا شيء أمام ما فعله الأوليغارشيون حين تقاسموا الثروات الروسية بعدها بسنوات.
تكرّس الكاتبة فصلاً للمارشال أخرومييف، الذي خرج من التقاعد ليشارك في الانقلاب الفاشل ضد غورباتشوف، ولكنه انتحر بعد فشل المحاولة، وذكر في رسالته أنّه كان يعرف أن الانقلاب سيفشل ولكنّه أراد «تسجيل موقف» وهو يراقب بلاده تنهار أمامه. في فصلٍ آخر، البطل هو تيماريان زيناتوف، أحد أبطال الحرب العالمية. كان جندياً من القومية التتريّة وشارك، في بداية الحرب، في الدفاع المستميت عن حصن برست على الحدود حيث أصيب بجروحٍ بليغة (ويقال إنه هو من نقش على حائط القلعة القول الشهير: «أموت ولكني لا أستسلم، وداعاً يا وطني»). بعد الحرب، رحل زيناتوف إلى شرق روسيا ليساهم في بناء سكك الحديد والصناعات في سيبيريا واستقرّ هناك. ولكنه كان، في كلّ عامٍ، يأخذ إجازةً ويزور حصن برست ليلتقي مع رفاقه القدامى. بعد بريسترويكا، تقول الكسيفيتش، لم يعد لقدامى الحرب المقام ذاته في المجتمع، بل بدأ بعضهم يتجنّب لبس ثيابه العسكرية وأوسمته في الشّارع، حيث يقابله البعض بالتقريع أو السخرية: «ماذا كنت تفعل في الحرب حقاً؟ ماذا ارتكبت؟ هل كنت تحرس الغولاغ؟»، «يا ليتكم لم تنتصروا، لكنا اليوم نشرب البيرة الألمانية ونعيش في أوروبا». في أواخر صيف 1992، زار زيناتوف حصن برست كعادته واجتمع مع من تبقّى من رفاقه. ولكنّه، بدلاً من أن يستقلّ قطار العودة ككل سنة، رمى بنفسه أمام عجلات القطار. وقد وُجد في جيبه مبلغٌ من المال لتغطية مصاريف الجنازة، ورسالةٌ توصي بدفنه في الحصن.

خاتمة
الخطاب عن الرأسمالية اليوم «إمبريالي» بمعنى أنّه لا يقبل بأن يظلّ أي رأيٍ خارجه، وإلّا تعرّض للتجريم. حتى أفكار مثل الاشتراكيّة أو تخيّل عالمٍ مختلف وتنظيمٍ أكثر عقلانية وعدالة صار يُنظر إليها على أنّها «خطيرة» و«تخريبية» أو بوّابة إلى الـ«غولاغ». بمعنى آخر، لو أنّك لم تقتنع بأنّ نظاماً ينتج كلّ هذه الفوائض، وفي الوقت ذاته، كل هذا الجوع والحرمان، هو ليس الوسيلة الأفضل لتنظيم المجتمع، فأنت، لا بدّ، ستالينيٌّ دموي تريد تخريب المجتمع. إن لم تتعلّم أن تقبل الحروب والمآسي، والتفاوت الصارخ بين الناس والدول في الحياة وفي الكرامة، على أنّها أمور «طبيعية»، فأنت تحلم أحلاماً خطيرة، ستجلب القتل والمجاعات. في مقالٍ في مجلّة «نيو ريبابليك» الأميركية، يكتب دايفيد سيشنز عن «الإجماع البرليني» الذي حصل بين النخب الليبرالية الغربية في التسعينيات. «برليني» هنا هي نسبة للفيلسوف ازايا برلين، الذي حذّر من ميل الناس إلى العنف وهم يسيرون خلف «الأفكار الكبيرة»، ما دفعه إلى حصر الحريّة بمفهومها السّالب (أي أن معنى الحرية هو ليس أن يتوفر لك كذا وكذا وكذا، بل أن لا يمنعك أحدٌ أو سلطة عن فعل كذا وكذا وكذا، وعن «تحقيق ذاتك» في الحياة). هذه الوضعية جعلت أي محاولة لإعطاء مضمون إيجابي للحرية - بغض النظر عن طبيعتها - عرضةً للتشكيك والاتهام. مع سقوط التجربة الاشتراكية في نسختها الأخيرة، على كلّ علّاتها، فإننا لم نخسر فقط هيكلاً بيروقراطياً مترهّلاً اسمه الاتحاد السوفياتي، بل قد نكون خسرنا، ولفترةٍ طويلة، القدرة على الحلم.
عام 1971، قدّم المفكّر الراحل ويليام هِنتون مجموعة محاضرات عن الثورة الثقافية في الصّين، حين كانت المواجهة الداخلية هناك في أوجها. كان هِنتون يعتبر يومها أن الاتحاد السوفياتي قد خسرناه بالفعل، وقد سقط في يد نخبةٍ برجوازيّة ستأخذه إلى الطريق الرأسمالي، وأن الأمل المتبقي هو في الصّين (على حدّ قول مسؤول سوفياتي سابق قابلته الكسيفيتش، فإن ستالين قد بنى نظاماً منيعاً «من تحت»، أي يستحيل قلبه عبر حركةٍ متمرّدة أو عصيان أو ثورة، ولكنّه «مفتوحٌ من فوق»، لا شيء يمنع نخبة حاكمة من أخذه في أي طريق تريده، والتراتبية الصارمة ستضمن تنفيذ أوامرها). للتدليل على أهمية ذلك المفصل التاريخي قدّم هِنتون ما اعتقد أنّه مثالٌ «مخيفٌ» ومتطرّف ومفزع: «حاولوا فحسب أن تتخيلوا عالماً ليست فيه دولة اشتراكية قوية لتواجه وتفضح الإمبريالية … لتقدم العون لحركات التحرّر الوطني، ولتقود عملية بناء مجتمعٍ جديد، خالٍ من الاستغلال والقهر». هذه، تحديداً، هي الحالة التي نعيشها منذ أكثر من ربع قرن.