وليد جبنلاط ليس على ما يرام، ليس هذا خافياً. أحواله السياسيّة مأزومة أكثر من أيّ وقت مضى. هو يعاني من مصاعب يعلم هو قبل غيره أنها إشارات إلى بداية نهاية الزعامة الجنبلاطيّة. والزعامات الإقطاعيّة ولّت في الطائفة السنيّة (ينسى البعض إقطاع سليمان العلي في الشمال) وفي الطائفة الشيعيّة (بالرغم من دعمها من قِبل الرجعيّة العربيّة ومن العدوّ الإسرائيلي في منطقة صور). وحدها الزعامة الجنبلاطيّة عمّرت مستفيدة من شعور التهديد الوجودي لطائفة تعاني من صغر الحجم الديموغرافي ومن استحالة فتح أبواب التحوّل منذ القرن الحادي عشر.نكبة جنبلاط الأولى والكبرى هي الوراثة السياسيّة: هو نُكبَ بها ونَكبَ ابنه تيمور بها. نُكبَ جنبلاط بالوراثة لأنه لم يكن مستعدّاً لها ولم يكن مكترثاً كثيراً بالسياسة في حينه (وإن كان على يسار والده في أواخر الستينيّات، عندما كان جنبلاط يشكو حتى عام 1975 من اليسار «المتطرّف» و«المغامر». وقف جنبلاط ضدّ والده في مظاهرة 23 نيسان 1969 الشهيرة). لم يكن يقوم بمهام سياسيّة في وجود والده إلّا فيما ندر: كان أحياناً يقوم بزيارات تهدئة في الجبل. أذكر أنني رأيته وأنا صبي في صيف 1975 في صوفر، عندما أرسله والده لتهدئة أنصار الزعيم عند بروز توتّرات درزيّة - مسيحيّة في المنطقة. لكن جنبلاط حافظ على إرث الزعامة بعد أن قلب قواعده: والده كبّرَ زعامتَه خارج طائفته (في لبنان وفي العالم العربي وحتى في العالم الثالث، فيما لم يكن محتكراً للزعامة الطائفيّة كما حال وليد بعد حرب الجبل)، فيما عظَّمَ وليد زعامته داخل الطائفة وخسر كلّ رصيد والده في الزعامة خارج حدود الطائفة الصغيرة (لكن حافظ على رصيد معيّن عند طغاة الخليج ومبارك والسيسي وملك الأردن). وحظوظ جنبلاط في الزعامة كانت نتيجة عقود طويلة من تفضيل النظام السوري ومخابراته له على حساب منافسيه ولو كانوا من حلفاء النظام: كانوا يُفصّلون الدوائر الانتخابيّة على مقاسه ولو تناقضت مع معايير الدوائر على مستوى لبنان. واستفاد جنبلاط أيضاً من حلفاء فلسطينيّين قاتلوا عنه وبالنيابة عن حزبه أحياناً (وفي السنوات الأخيرة وصف جنبلاط هؤلاء الفلسطينيّين مثل الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين-القيادة العامّة بالإرهابيّين. لكن الملامة تقع على أحمد جبريل وصحبه لأنهم بدلاً من التفرّغ لتحرير فلسطين قبلوا بالمساهمة في قتال جنبلاط الطائفي).
تحسّنَ موقع جنبلاط كثيراً بعد حرب الجبل: استفاد من هزيمة المشروع الإسرائيلي لأن القوّات اللبنانيّة كانت أداة إسرائيليّة، لكن جنبلاط انتصر عليهم من دون مقارعة العدوّ الإسرائيلي ومن دون المشاركة - وإن بقسط بسيط - في مقاومة العدوّ (لا يزال جنبلاط وأتباعه يشيرون إلى أنهم «فتحوا الطريق» أمام المقاومين كدليل على مشاركتهم في المقاومة). وقد خصَّه حافظ الأسد بمعزّة خاصّة وولّاه على غيره من أتباع النظام السوري في لبنان. وهذه الحظوة أعطت جنبلاط حصّة سياسيّة وطائفيّة تفوق أكثر بكثير الحجم السياسي والوزن الديموغرافي لزعامته المحدودة بالجغرافيا والطائفة. لكن التوتّر الجنبلاطي حول مستقبل الزعامة العائليّة تجلّت بعد خلافة بشّار الأسد لأبيه.
الحاكم السوري الجديد كان أقلّ حرصاً على مشاعر الزعامة الجنبلاطيّة من أبيه، كما أن فريق بشار كان غير فريق أبيه الذي كان رفيق الحريري قد ابتاعه بالكامل وسخّره لصالحه وصالح حلفائه في لبنان. أدرك جنبلاط أنه لم يعد الزعيم الشرعي والوحيد عند النظام السوري الذي رعاه ونصّبه على مدى عقود طويلة. بدأ جنبلاط عندها بمغازلة القوى الانعزاليّة، وتزامن ذلك مع عصر بوش الذي قال جنبلاط إنه «ألهمه» في غزوه الوحشي للعراق واحتلاله. يومها أصبح جنبلاط حديث الإعلام الأميركي لأنه استعان بأمثاله كي يقول إن الغزو الأميركي سيحوز على رضى العرب (وكتبَ بوش نفسه عنه في كتابه، كيف أن غزوات بوش ألهمت الزعيم اللبناني ذا الصفة اليساريّة ـ المزيّفة طبعاً). واستُقبل جنبلاط يومها في البيت الأبيض وظنّ أنه استطاع أن يجد في بوش الابن خليفة لراعيه السابق، أي حافظ الأسد في دمشق.
يسعى جنبلاط حثيثاً للعثور على غطاء خارجي يحمي تيمور من شدّة المرحلة التالية


لكنّ النكبة الكبرى لجنبلاط هي في خلافة ابنه له. مرَّ زمن على اختيار وتدريب جنبلاط لتيمور والنتائج مخيّبة يوماً بعد يوم. على العكس، ليس هناك من دليل أن الرجل يتقدّم في المعرفة السياسيّة أو أنه يتطوَّر حتى في بديهيّات المخاطبة والحديث. هناك فيديو له وهو يتلعثم في قراءة جملة واحدة بعد اجتماع قيل لنا إنه «ترأسه» ـ وهو يترّأس كتلة نيابيّة لا يصدّق أحد أنه يترأسها بالفعل. وفي استقبالاته السبتيّة في المختارة، تجد أن والده أرسل واحداً من وزراء الكتلة كي يرشده ويرأف بحاله. لا، والأسوأ اكتشفنا مؤخراً أن تيمور ـ بالرغم من قلة الكفاءة والمعرفة ـ حاد الطباع وغضوب وينهرُ مرافقيه لأقلّ سبب: ابن الزعيم عصبيّ المزاج. وأداء تيمور جنبلاط في الفترة التي دخل فيها السياسة لا تمكن مقارنتها بتجربة أيّ واحد من أبناء أو أحفاد الزعماء في لبنان. لم تكن بداية نديم الجميّل أو ميشال معوّض أو سعد الحريري بهذا السوء وعدم الأهليّة ـ بالرغم من سوء تجربة كل هؤلاء.
هذه هي نكبة جنبلاط الكبرى في الخلافة. يستطيع جنبلاط أن يحافظ على رمزيّة زعامة تيمور الاسميّة لكنه لا يستطيع أن يسوّق الخديعة بعد رحيله. وهذه المعضلة تفرض قلقاً متزايداً عند جنبلاط، خصوصاً أن الزعامة انتقلت في مراحل تاريخيّة سابقة إلى قريب في العائلة، وليس إلى الابن بالضرورة. وسينافس تيمور، عندما يزول عنه غطاء والده وإسعاف مارسيل غانم له في المقابلات، ليس فقط سليل الزعامة الأرسلانيّة، بل أيضاً قيادات درزيّة جديدة (قد يكون وئام وهّاب قد أصبح نائباً في الانتخابات الأخيرة لو أن نبيه برّي ـ وبمشاركة من حزب الله ـ لم ينقذ جنبلاط للحفاظ على وحدانيّة التمثيل). والانتخابات الأخيرة أثبتت أيضاً أن جيلاً جديداً من الدروز بات ينزع للتخلّص من الولاء الإقطاعي التقليدي، لإنتاج تمثيل حزبي أو غير حزبي بعيداً عن السلالات التاريخيّة. والزعامة التقليديّة عند الدروز عمّرت أكثر من غيرها، ومن الصعب أن تعمّر أكثر في هذا القرن، خصوصاً أن الهجرة والزيجات المختلطة تفرض نمطاً جديداً من فهم الانتماء الطائفي.

الحريري - بوش - سوريا
المعضلة الثانية عند جنبلاط تكمن في غياب الغطاء الخارجي له. هو أمّنَ غطاء النظام السوري له على مرّ العقود، وهذا الغطاء هو الذي سهّل له الاستفادة المالية القصوى من رفيق الحريري الذي أمدّه بثروة طائلة، وكان جنبلاط يقابل مراحل تقتير الحريري في هِباته باتّهامات كبيرة بالعمالة لأميركا وإسرائيل، وكان في تلك المراحل يتذكّر فجأة الطبقات المسحوقة وجوْر المشروع الاقتصادي الحريري. لكن موت حافظ الأسد حرمه من غطاء خارجي متين وهو لم ينفكّ يسعى لغطاء بديل مذّاك. ولهذا فإن ولاءات جنبلاط تنقّلت في هذا القرن: هو تحالف وانقلب وتحالف وانقلب على النظام السوري، وينسى البعض كيف أنه أيّد النظام السوري حتى بعد اندلاع الانتفاضة الشعبيّة ضدّه في 2011 ـ قبل أن تتحوّل إلى حرب ـ وحذّرَ يومها من خطر الجماعات المتطرّفة. وهو نفسه عاد وانقلب ضد النظام وأصبح مدافعاً عن تنظيم القاعدة في سوريا، نافياً عنه صفة الإرهاب، بالرغم من تكفيره للدروز وجرائمه ضدّهم هناك.
واستثمر جنبلاط كثيراً في عقيدة بوش وأصبح خير مُعين لجيفري فيلتمان. وتعاملت الإدارة الأميركيّة معه آنذاك بالكثير من الحرص والعناية، ليس لأنه زعيم 70٪ من 5٪ من سكّان لبنان، وليس لأن النظام السوري أتاح له الإتيان بنوّاب من الدروز والسنّة والمسيحيّين على مقاسه، بل لأن جنبلاط ـ اتفقتَ معه أم اختلفتَ ـ أمهر من غيره من الزعماء اللبنانيّين في انتقاء العبارات وصوغ الشعارات وتحريض الشارع وشدّ عصب طائفته. وهو مفيد للغرب لأنه يستطيع أن ينقل وجهة نظر الرجعيّة الاستعماريّة إلى المراسلين الغربيّين الذين يستطيب جلساتهم ومهاتفاتهم. ودور جنبلاط في حفلة جنون 14 آذار كان مميّزاً وساهم في رفع سقف الطموحات. كان جنبلاط موعوداً بتغيير أكثر من نظام في المنطقة: من العراق إلى سوريا وإيران، على أمل أن تصبح الأنظمة الجديدة موالية لأميركا وراعيةً له. هذه الطموحات السياسيّة لجنبلاط خابت، وهي خابت لأنه ـ مثل كلّ مَن مرَّ من وكلاء وحلفاء ووكلاء للاستعمار الغربي في بلادنا ـ ظنَّ أن بمستطاعه أن يؤثّر على صنع القرار الأميركي، وأن أميركا مستعدّة لأن تستثمر عسكريّاً وسياسيّاً في زعامته لدفع مصالحها في الشرق الأوسط. اعترف جنبلاط لاحقاً أنه خُدع من إدارة بوش: أي إنه اعترف أنه ظنَّ أن أميركا كانت ستغيّر النظام السوري من أجل تقوية الكتلة الجنبلاطيّة في المجلس النيابي وللتخفيف من تأثير منافسيه في الطائفة. لكن جنبلاط لم يفقد أملَه كليّاً حتى بعد أن تخلّى علناً عن «لحظة التخلّي»، والتي تلا فيها فعل الندامة بعد موقعة 7 أيّار. وكانت تصريحات جنبلاط تتراوح بين الحنين لحقبة بوش وبين القليل من خطاب تحرير فلسطين وذكر عبد الناصر (لكن بين التغريد عن فلسطين وعبد الناصر يغرّد جنبلاط عن حنين أكبر لفيلتمان ولغيره من أصدقاء الإدارات الأميركيّة المتعاقبة ـ ينسى البعض أن جنبلاط، حتى في فترة زعامته للحركة الوطنيّة اللبنانيّة كان يسخّر ميليشاه ليس فقط لصالح القذّافي وحربه في تشاد، بل أيضاً لصالح السفارة السوفياتيّة والأميركيّة على حدًّ سواء في بيروت الغربيّة). وعندما انتقد جنبلاط إليوت أبرامز عرضاً في مرحلة قصيرة من التخلّي عن التخلّي، ذكّره أبرامز نفسه أنه لا يزال يرسل له صناديق النبيذ الفاخر. هذا هو جنبلاط: يستطيع أن يحمّل المحافظين الجديد المسؤوليّة عن الدمار والحروب في المنطقة في لحظات ما، وأن يستمرّ في إرسال صناديق النبيذ لأقطاب المحافظين الجديد. يستطيع في يوم أن يذكر جمال عبد الناصر وأن يطير في اليوم التالي لملاقاة صديقه جيفري فيلتمان (وهو من أقطاب اللوبي الصهيوني في واشنطن) للحديث في مواضيع لا تمتّ بصلة إلى فلسطين أو إلى عبد الناصر.

إعلان جنبلاط عن عدم لبنانيّة مزارع شبعا هو هديّة مجانيّة للعدوّ الإسرائيلي


لكن للأمانة، فإن جنبلاط حاول أيضاً استبدال غطاء حافظ الأسد بأغطية من أنظمة عربيّة (وطار إلى كردستان في حقبة ازدهارها محاولاً إقامة تحالف مع القبيلة البرزانيّة). هو أقام علاقة وطيدة جداً مع عبدالله بن عبد العزيز الذي نظر إلى جنبلاط نظرة قبليّة لأنه ـ وهو المتمرّس في تحالفات القبائل والعشائر ـ رأى فيه ابناً لزعيم قبيلة كان قد تحالف معها في الستينيّات. لكن النظام السعودي لا يستطيع أن يقدّم لجنبلاط الخدمات التي كان النظام السوري يقدّمها لها في لبنان، كما أن النظام السعودي لديه جيش كامل من الحلفاء الذين قدّموا له الولاء والطاعة على فترة طويلة جداً. والنظام السعودي لم يعوّض لجنبلاط تمويل الحريري السخي (ولم يكن تمويل الحريري له، مثل تمويل عدنان القصّار في سنوات الحرب، أشبه بالابتزاز والخوّات. لا أبداً. كانت تلك هبات خيريّة للصالح العام). وحافظ جنبلاط على علاقة مع النظام الكويتي، لكن الأخير بعيدٌ عن أحداث المشرق، والنظامان الإماراتي والبحريني لا يبديان اهتماماً بجنبلاط. لهذا فإن جنبلاط يسعى حثيثاً للعثور على غطاء خارجي يحمي تيمور من شدّة المرحلة التالية، والتعويل على خلافة بكر تيمور لأبيه لا يتحمّل الانتظار، لأن زمن انتهاء الصلاحيّة للزعامة الإقطاعيّة يقصرُ على مدار الساعة.
لكن ماذا وراء توقيت جنبلاط الأخير؟ وهل هو نتيجة قراءات وتحريك «أنتينات» كما يدرج القول في لبنان؟ وهذه التحليلات السائدة عن جنبلاط تعطيه الكثير من حسن النيّة ومن الاستقلاليّة السياسيّة التي لا تتوفّر لزعماء الطوائف الكبرى، فما بالك بزعماء طائفة لا يزيد تعدادها ـ مع غير المقيمين منهم ـ عن 5٪ من سكّان البلد الصغير؟ إن نَسب تحوّلات جنبلاط إلى «قراءات» يحتاج إلى الاستفادة من عِبَر كتاب مئير زامير «الحرب الأنجلو-فرنسيّة في الشرق الأوسط» وعن المهمّات الاستخباراتيّة التي كان كميل شمعون ومحسن البرازي يقومان بها (ص. 80 من الكتاب). أي قراءات وأية انتينات؟
ثم هل القراءة الجنبلاطيّة للوضع السيادي لمزارع شبعا أتت نتيجة تأمّلات وقراءات جنبلاط في كتب التاريخ وأن موقفه لا يمتّ بصلة للزيارة الأخيرة لبومبيو إلى لبنان؟ حيث خصّه بلقاء خاص (استدعاه إلى السفارة الأميركيّة في بيروت وهرع جنبلاط إليه مصطحباً تيمور، فيما كان قبل أشهر قليلة فقط، قد اعتذر عن لقاء وزير الخارجيّة الإيراني بحجّة أن ظريف لم يزره في منزله: لكن بين زائر وزائر فارق كبير عند الزعيم). وزيارة بومبيو أعطت ثمارها بسرعة كبيرة، إذ إن الحديث عن سلاح حزب الله وعن ضرورة بحث استراتيجيّة دفاعيّة للبناني (كأن الدفاع عن لبنان هو مجرّد خطّة توضع على ورق مثل تلك الخطّة الهزليّة التي وضعها ميشال سليمان، والتي اعتمدت على إطلاق رشق رصاص في بلدة العديسة. والطريف أنهم في لبنان يبحثون في شأن خطة استراتيجيّة للدفاع عن لبنان على أساس أن الموجود في حوزة الجيش من السخاء الأميركي يهدف بجدّ إلى صدّ عدوان إسرائيل). وزيارة بومبيو أدّت إلى زخم في تحرّكات رياض سلامة السريع الاستجابة لكل الطلبات الأميركيّة، وهو الذي يرتبط على الأرجح بهذا التهويل المتعاظم عن الاقتصاد اللبناني، كأنه كان متيناً عندما كانت 14 آذار تحتكر السلطة في لبنان على زمن السنيورة.
هناك تنافس على كسب الودّ الأميركي. وكلّما حاول رئيس أميركي جديد أن يهوّل على أعداء أميركا وكلّما تحرّكت حاملات طائرات أميركيّة في المتوسّط أو الخليج، نبضت معها قلوب الكثير من زعماء لبنان. وقد حرّكت أميركا سفنها يوم موقعة 7 أيّار 2008 لكنها لم تنجد لا ميليشيا الحريري ولا ميليشيا جنبلاط من هزيمة مهينة استغرقت ساعات فقط (بالرغم من تسريبات مضحكة عن بطولات لفرقة أكرم شهيّب في محيط عاليه). يحاول جعجع وجنبلاط والحريري (المثخن بجراح الرياض)، كلّ من زاويته، إثبات نفعه للراعي الأميركي. وفي كل حلقة من حلقات العنف أو التهويل الأميركي تشرئب الأعناق عند البعض، متمنّين أن تكون الحلقة الأخيرة حاسمة في تغيير النظاميْن الإيراني والسوري وفي نزع سلاح حزب الله بالكامل (في حرب تمّوز، أخبرني صحافي شاهد أنه سمع نادر الحريري يقول إن الحرب ستنزع سلاح حزب الله وأن العدوّ سيلقي بالشيعة عبر الحدود السوريّة).

مزارع شبعا
إعلان جنبلاط عن عدم لبنانيّة مزارع شبعا هو هديّة مجانيّة للعدوّ الإسرائيلي، وقد تلقّفها إعلام العدوّ بالترحاب كأن جنبلاط هو مؤرّخ أو جغرافي، أو كأن جنبلاط (الذي لا تزال تصريحاته في لبنانيّة مزارع شبعا موجودة على يوتيوب) يثبتُ على موقف. لكن انعدام المبدئيّة عند جنبلاط إلى درجة قلّ نظيرها في الشرق وفي الغرب (هل هناك من يستطيع أن يحسم بمبدأ أو أمر واحد ثبتَ جنبلاط على الإيمان به على مرّ تاريخه السياسي؟ حتى ما يسمّى بالثوابت انقلب عليها أكثر من مرّة، واحتفاظ حزبه بلقب «الاشتراكي» و«التقدمي» بات مادة للتندّر والهزل على مواقع التواصل الاجتماعي). وما يجعل تصريح جنبلاط مشبوهاً أكثر أنه صاحب إعلان موقف آخر له (مرَّ ولم تلحظه وسائل الإعلام): إذ هو كرَّر هكذا فجأة إيمانه بحلّ الدولتيْن وفي إقامة دولة فلسطينيّة إلى جانب دولة إسرائيل مذكّراً ـ مرّة أخرى ـ أن هذا كان موقف كمال جنبلاط. لكن هذا يثير الريبة، لأن كمال جنبلاط لم يصرّح يوماً باعترافه بإسرائيل على أي حدود على أرض فلسطين ولم يعلن قبوله حتى مماته بـ«الدولتيْن»، لكن وليد ابن أبيه وهو أدرى بمواقف أبيه الحقيقيّة مما يشير إلى هوّة بين مواقف الأب المُعلنة وغير المعلنة.
لم يكن منيف الخطيب (النائب الأسبق) يساريّاً، بل كان عضواً في كتلة كامل الأسعد منذ عام ١٩٧٢. وهو وضع كتاباً عن تاريخ المزارع وزوّده بالوثائق التاريخيّة («مزارع شبعا: حقائق ووثائق»). وضمّنه أيضاً كتاباً رسميّاً كان سليم الحصّ قد أرسله إلى الأمين العام للأمم المتحدة في عام 2000 في إثبات لبنانيّة المزارع. لكن أعوان إسرائيل في لبنان يتنطّحون للقول إن الأمم المتحدة لم تقتنع كأن دورها يتضمّن الحكم في النزاعات الحدوديّة بين الدول، وهي لا تقوم إلا بدور حفظ ما تتوصّل له الدول من اتفاقات حول الحدود وحول غيرها. والعدوّ احتلّ المزارع خارج نطاق احتلاله للجولان، وهذه جرى في مراحل ثلاث: من 1967-1969، ومن 1969-1972، ومن 1972- 1990(راجع كتاب الخطيب، ص. 124). ثم إذا كانت المزارع غير لبنانيّة فلماذا التصريح بذلك إلا خدمةً للعدوّ وتقديم اعتراف باحتلالها؟ وهل قرية الغجر وتلال كفرشوبا والقرى السبع وما يقضمه العدوّ من أراض لبنانيّة هي أيضاً سوريّة؟ ولماذا يفتي الذين لم يقدّموا مساهمة بمثقال ذرّة إلى تحرير أراضي الجنوب حول أراضي الجنوب وحول ملكيّتها؟ وإذا كان هؤلاء لا يكترثون لاحتلال العدوّ فلماذا يضعون العقبات باستمرار أمام الذين يتطوّعون بالمجّان للدفاع عن لبنان وصدّ العدوان، وأثبتوا جدواهم ببهاء فريد في حرب تمّوز؟
يأتي رئيس أميركي جديد ويهبّ حكّام عرب وزعماء من لبنان للفت النظر لأنفسهم لعلّ الرئيس يخصّهم بلفتة، كما خصَّ بومبيو ميشال معوّض بعشاء (لأن تاريخاً جمعهما، كما شرح معوّض عن نائب سابق في الكونغرس لم يُعرف عنه إلا عداؤه للعرب والإسلام). لكن محاولات الرؤساء الأميركيين لتطويع وإخضاع العرب والمسلمين تفشل إدارةً بعد إدارة. والذي يظنّ أن عهد بوش وغزوات المنطقة ستتكرّر لا يتابع الصحف الأميركيّة. وليد جنبلاط يتابع الصحف الأميركيّة لكنه يظنّ أن «صفقة القرن» ستعطي لـ«بيك المختارة» حصّة الأسد.

* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)