يجهد دونالد ترامب لإقناع نفسه وجمهوره والعالم بأن الإمبراطورية عائدة. منذ وصوله الى السلطة، تحت شعار استعادة العظمة الأميركية، يعتمد سياسة التصعيد في جميع الاتجاهات، وضد الأعداء والحلفاء. وبعدما لوّح في بداية عهده بمحو كوريا الشمالية عن الخريطة، ها هو يهدد باحتمال التدخل عسكرياً في فنزويلا ويرسل حاملة طائرات الى الخليج في إطار «ضغوطه القصوى» ضد إيران. بداية عهده شهدت أيضاً تنامياً كبيراً للتوتر مع الصين وروسيا بعد تصنيف البلدين على أنهما التهديد الرئيسي بالنسبة إلى الولايات المتحدة في تقاريرها الاستراتيجية الرسمية، وتسارعاً خطيراً لسباق التسلح معهما، مع الشروع في تفكيك منظومة المعاهدات والاتفاقيات التي كانت تضبطه. الوضع مع الحلفاء والأصدقاء لا يقلّ سوءاً، على مستوى تعامل الرئيس الأميركي معهم، إلى درجة دفعت بعضهم الى الاستنتاج بأن من الأفضل للمرء أن يكون عدوّاً للولايات المتحدة، ليتم التعاطي معه باحترام، على أن يكون من حلفائها. الابتزاز تحوّل الى سياسة في العلاقة مع الحلفاء: ترامب يهدد كلما سنحت له الفرصة بالانسحاب من حلف الناتو إن لم يرفع أعضاؤه الأوروبيون إنفاقهم العسكري الى 4% من ناتجهم القومي. علاقات واشنطن متوترة مع برلين ومتراجعة مع باريس. الأمر نفسه ينطبق على تعمّد الرئيس الأميركي إهانة حكّام السعودية عبر تذكيرهم المستمر بفضل الولايات المتحدة عليهم، «التي لولاها لما بقوا في السلطة لأيام»، ومطالبتهم، بفجاجة لا مثيل لها في تعامل قادة الدول، خاصة الحلفاء، مع بعضهم البعض في التاريخ المعاصر، بالدفع مقابل الحماية، عبر شراء المزيد من الأسلحة الأميركية.أصوات كثيرة ارتفعت في الولايات المتحدة، خلال السنتين الماضيتين، لنقد هذه المواقف والسياسات والتحذير من خطورتها على موقعها الدولي ومصالحها. لكن هذا النقد ليس له تأثير يذكر على الإدارة ولا على جمهورها المعبّأ. فالحقيقة الأخرى التي باتت تفرض نفسها، والتي تساهم في تفسير التحولات في مجال السياسة الخارجية، هي الاستقطاب الداخلي الحاد بين أميركتين. الأولى ممثلة بالنخب التي قامت بدور محوري في إطلاق مسار العولمة الذي كان من المفترض أن يفضي الى ترسيخ الهيمنة الشاملة للولايات المتحدة. أما الثانية، فهي تلك المعترضة على هذا المسار، لأنه يتناقض برأيها مع مصالح «الأميركيين الأصليين»، واستغلّ كرافعة من قبل القوى الدولية المنافسة للولايات المتحدة وفي مقدمتها الصين. أنصار خيار العولمة بنظر إدارة ترامب، وهم قطاع وازن من النخبة السياسية والاقتصادية الأميركية، وكثير منهم يحتلّ مواقع حساسة داخل مؤسسات وإدارات الدولة، طابور خامس تتناقض مصالحه ورؤاه مع المصالح الوطنية. لذلك، هي شرعت في عملية تطهير تدريجي مؤسساتي وإداري تهدف إلى إقصاء العناصر المعادية واستبدالها بعناصر موالية. نحن أمام عملية استبدال لنخبة بنخبة أخرى. بين التداعيات المباشرة لهذا الأمر على صناعة السياسة الخارجية هو إضعاف وتهميش دور أهم أركانها أي وزارة الخارجية كمؤسسة، كما يقول ويليام برنز، أحد أبرز الدبلوماسيين الأميركيين، في كتابه الصادر هذه السنة، «القناة الخلفية». وفي مقابل تهميش هذا الدور، تعاظم نفوذ وتأثير العقائديين والأيديولوجيين كنائب الرئيس مايك بنس، ومستشار الأمن القومي جون بولتون، داخل دوائر صنع القرار، بالإضافة إلى طغيان الحسابات الانتخابية والشخصية للرئيس على عملية صناعتها. وقد أظهر تخبط وتضارب مواقف المسؤولين الأميركيين الأساسيين من ملف حساس، كالملف السوري مثلاً، بمناسبة اتخاذ ترامب مرتين قراراً بالانسحاب، ومن ثم التراجع عنه بعد ضغوط هائلة تعرض لها من داخل إدارته ومن الدولة العميقة، عن غياب الإجماع حول الأولويات بين المعنيين بالسياسة الخارجية. هذا الغياب يعني ببساطة عدم وجود استراتيجية فعلية لدى الإدارة على الرغم من إصرارها على ادعاء عكس ذلك. فوجود استراتيجية يفترض تحديداً واضحاً للأولويات المتفق عليها، وإخضاعاً للسياسات ولأي أهداف ثانوية أخرى لها، وتنظيماً للموارد وبناءً للتحالفات لخدمتها.
غياب الاستراتيجية لدى الإدارة الحالية، وحتى لدى سابقاتها، لم يعد سرّاً في الولايات المتحدة. في الواقع، منذ فشل مشروع المحافظين الجدد لإعادة صياغة الشرق الأوسط، الذي كان حسب توقعاتهم سيفتح الأبواب أمام «قرن أميركي جديد» على المستوى العالمي، لم يعد للولايات المتحدة استراتيجية تحظى بالإجماع. حاول الرئيس السابق باراك أوباما طرح أولوية استراتيجية جديدة، وهي الاستدارة نحو آسيا لاحتواء الصين ولا يمكن فهم سعيه للحد من التركيز على الشرق الأوسط عبر فك الاشتباك مع إيران ومحاولة إحياء مسار التسوية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل خارج هذا السياق. تندرج في الإطار نفسه مساعيه للتقارب مع روسيا في بداية عهده. لكن جملة عوامل تضافرت لتمنع تحقيق الإجماع الداخلي بين النخب وقوى النظام حول الأولوية التي اقترحها. أما إدارة ترامب، وعلى الرغم من أن التطورات الدولية قد فرضت عليها التعامل مع ما تراه تهديداً صينياً، وتحالفاً بينه وبين روسيا، وتمدداً للطرفين باتجاه جوارها في أميركا الوسطى واللاتينية، إلا أن السياسات التصعيدية التي تتبعها في جميع الاتجاهات لا تشي بأن لديها استراتيجية واضحة لمواجهة التحديات الرئيسية. قد تكون هذه الحقيقة أحد أبرز أسباب النقاش الدائر في الولايات المتحدة في أوساط الخبراء والمتخصصين حول الاستراتيجية الواجب اعتمادها للحفاظ على موقعها الدولي ومصالحها الحيوية.
ارتأت «الأخبار» أن تنشر ملخّصين لتقريرين، أحدهما صادر عن «مركز الأمن الأميركي الجديد»، والآخر عن معهد «بروكنغز»، لتسليط الضوء على هذا النقاش.