لا بأس من التوقف قليلاً عند بعض التعليقات والملاحظات التي تنطلق في كل مرة يجري فيها انتقاد بعض أو كل الأساليب والشعارات والمواقف المعتمدة في الصراع الدائر في هذا البلد أو ذاك، أو في المنطقة العربية عموماً. نستعيد مع بعض هذه التعليقات شعارات وعناوين مراحل سابقة من نوع: «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة».
نستعيد أيضاً من سبعينيات القرن الماضي أولويات مطلقة من نوع الحفاظ على الأنظمة «التقدمية» على حساب كل شيء ولحساب الحفاظ على السلطة فقط، كما اكتشفنا متأخرين! نستعيد اندفاعات عفوية عاطفية وغير واعية، غالباً، حين كان على الجماهير أن تكتفي بالهتاف للقادة، فيما فعلها ودورها معطلان خارج فروض الولاء والطاعة والصمت الذي كان دائماً من ذهب يقي احتمالات القمع والسجون وكل أشكال الاتهامات، التي في مقدمتها الخيانة وخدمة العدو وتعريض الأمن الوطني والقومي لأفدح
المخاطر.
لنبدأ بالقول إنّنا لا نجادل في أولوية المعركة ضد كل ما ومن يستهدف مصالحنا الوطنية والقومية: في أرضنا وثرواتنا وسيادتنا وحرياتنا وحقوقنا الضائعة أو المهددة. ولنبدأ أيضاً بالتأكيد أن الصراع الذي ينبغي أن نخوضه في مواجهة هذا الاستهداف، إنما هو صراع مصيري بكل ما في هذه الكلمة من معان سياسية واقتصادية وأمنية واجتماعية وحضارية وأمنية...
ولأنه كذلك، وبسب «نكساتنا» السابقة ومراراتنا وخيباتنا المتواصلة، فإنه لا بد لنا من أن نعتمد من المواقف والسياسات والتوجهات والاستراتيجيات ما ينطوي على خلاصات إخفاقاتنا المتواصلة، وبالتالي على محاولة تأمين أفضل شروط المواجهة في جميع حقولها المذكورة: السياسية والإعلامية والعسكرية، الرسمية والشعبية، المباشرة وبعيدة المدى.
لا ينطوي تاريخنا الكفاحي وهو حافل بالتضحيات، ولكن بالأخطاء أيضاً، على محطات مراجعة يعتدّ بها. تجربة القائد الخالد جمال عبد الناصر لم تكتمل. وهي، حتى في طور تفحصها لبعض أسباب «النكسة» الكبيرة عام 1967، ظلت أسيرة للكثير من الفردية والاستئثار والنزوع الى المنع والقمع والعسكرة. هي لم تتحوّل الى مراجعة شاملة تنخرط فيها وتتأثر بها قوى اجتماعية وسياسية ومؤسسات الدولة والسلطة. وبسبب ذلك، فقد كان سهلاً على أنور السادات أن ينفذ انقلاباً كاملاً على «الناصرية» وعلى سياسات جمال عبد الناصر، بأقل قدر من الجهد وبأكبر قدر من الارتداد الذي تجسد في معاهدة كامب ديفيد التي أخرجت سلطات مصر من دورها الوطني والقومي حتى يومنا هذا.
وفيما عدا التجربة الناصرية، لا توجد تجارب يُعتدّ بها لدى القوى السياسية التحررية الرئيسية، كما أشرنا (وخصوصاً منها من مارس السلطة)، في حقل المراجعة ودراسة نتائج التجارب بحلوها ومرّها.
ينطبق ذلك أيضاً، لولا بعض اللمعات، على كل قوى التغيير والتحرر والتقدم العربية. ولقد لاحظ كثيرون أنّ عبارة «لقد أثبتت الأحداث صحة خطتنا وتوجهاتنا ومواقفنا ...» هي ما يستهل به فريق من قوى التغيير تقاريره وبياناته واستنتاجاته. وفي مجرى ذلك، بل في أساس ذلك، كان يتكرس نهج التمسك بالسلطة أو بالموقع، بأي ثمن وبكل طريقة، وعلى حساب كل أولوية. وليس من «شيم» من يعتبر التمسك بالسلطة أولوية مطلقة أن يمارس المراجعة أو النقد الذاتي أو إعادة تقويم مسار نشاطه ونتائج سياساته وتحالفاته وبرامجه ومواقفه، وما يمكن أن يستتبع ذلك من تغيير أو مساءلة أو
نقد...
على العكس من ذلك، نرى أنّ القوى التي بلغت مستوى متطوراً، ولو نسبياً، من العمل المؤسساتي، أو التي تنطوي آليات انبثاق السلطة فيها على حدٍ، ولو قليل، من إمكانية الاختيار والانتخاب ومن فرص المساءلة والمحاسبة، نرى هذه القوى تدرج المراجعة وإعادة التقويم في صلب بناها ومعالجاتها.
ألم تنشأ «لجنة «بيكر ــ هاملتون» في ذروة تنفيذ العدوان الأميركي على العراق واحتلاله، لكشف أسباب الإخفاقات والخسائر الأميركية هناك؟ ألم يشكّل الصهاينة بعد كل عدوان على بلداننا، لجاناً لتحديد المسؤوليات والنظر في الأخطاء السياسية والعسكرية؟
إن الإقرار بأولوية هدف تحرري أو تحريري، ينبغي أن يكون جدياً بما يكفي بحيث ينبغي أن يُستتبع بإعداد الخطط والبرامج والتكتيكات والأساليب الخادمة لهذا الهدف بمنتهى الإخلاص والإصرار والاستعداد للعمل والتضحية والإبداع والمشاركة... ليس الأمر على هذا النحو في الغالب من معاركنا. ولا يندر أننا غالباً ما نستخدم الشعارات والأولويات الصحيحة من أجل أغراض وأهداف فئوية. نعلن أمراً ونضمر عكسه. وفي تجربة السلطة وممارستها من قبل من رفعوا شعارات قومية واشتراكية وثورية، باتت السلطة والحفاظ عليها هي الهدف الذي لا يدانيه أي هدف آخر. الحفاظ على السلطة هدف مشروع بمقدار ما يمكن من إنجاز أهداف أكبر وأخطر لمصلحة شعب ووطن وأمة، لا حين تصبح السلطة هدفاً قائماً بذاته يترافق تحقيقه والحفاظ عليه أحياناً مع استخدام أبشع الأساليب وأكثرها توسعاً في مجال المنع والقمع...
غريب أن يتخلى البعض، ممن عاشوا خيبات الماضي وأخطاءه، عن واجبهم في لفت النظر الى خلاصات تجارب الماضي مطبقة على تجارب الحاضر. وغريب أكثر أنّ يستعير بعض هؤلاء سواطير الأنظمة وأدوات القمع والإلغاء من ترسانتها للتعامل مع الاختلاف، حتى لو انطلق مع مواقع الحرص على الأولوية المتفق عليها.
لقد أدخلت النظرية اللينينية مسألة النقد في صلب الهيكل التنظيمي للجماعة الثورية الجديدة. أي أنّها جعلت تقويم النشاط ملازماً للنشاط نفسه، ودفعت هذا الأمر إلى مداه الأقصى حين اشترطت، أيضاً، أن يقترن واجب نقد الآخرين بنقد الذات أيضاً: إسهاماً في تصويب المسار والاتجاهات وللتخلص من الأخطاء والأنانيات. ولقد انقلب ستالين على كل ذلك وأسّس لأخطر النتائج، ومنها انهيار التجربة الاشتراكية نفسها!
قديماً قيل: «الساكت عن الحق شيطان أخرس». ولخّص نزار قباني تخلّي المثقف عن دوره على طريقته:
إذا ما أصبح المثقف بوقا يستوي الفكر عندها والحذاء!
ثمة اليوم أسئلة كبرى حول اقتران بعض الشعارات التحررية بممارسة القمع والاستبداد. وماذا عن التعبئة الطائفية والمذهبية، التي إذا استخدمت مرة فلا يجوز أن تستخدم كل مرة؟ أوليس الأعداء يستخدمون هذه الأخطاء بشكل كامل؟ ألا يستدعي خوض المعارك المصيرية توفير المناخات الضرورية لتأمين أوسع مشاركة شعبية فيها طالما أنها مصيرية؟!
* كاتب وسياسي لبناني