«المعرفة قوّة» بالمعنى الفعلي المباشر، وليس المجازي فقط. الكثير من النشاط البشري والتبادلات والتراتبيات الاجتماعية يقوم على الفارق في المعرفة بين فردٍ وآخر. قرأت مرّةً أنّه، في عالم البيع والتسوّق، فإنّ الميزة الأساس التي يمتلكها المتجر في التفاوض مع الزبائن هو أنّه يعلم ما لا يعلمون: سعر القطعة الأصلي وكلفتها الحقيقية وقيمتها في متاجر أخرى. من هنا، يقوم فنّ البيع منذ القدم على استغلال هذا «الفارق في المعرفة»، فيضع المتجر لافتةً يراها كلّ من يمرّ في الشارع، يزعم فيها بأنّه يقدّم «حسماً استثنائياً»، مثلاً، و«ليومٍ واحد»، حتّى يحفّزك على الدخول و«اقتناص الفرصة» والشراء. هذا النّوع من التسويق ممكنٌ فقط لأنّ البائع يعرف أنك لا تعرف سعر السّلعة ذاتها في متجرٍ على بعد شارعين، أو أنّها ستكون أرخص غداً ممّا هي عليه اليوم؛ فحين يخبرك البائع بأنّه يقدّم لك «حسماً استثنائياً» و«لفترةٍ محدودة»، فأنت ستميل إلى التصديق (لهذا السّبب، في السنوات الماضية، كانت الانترنت وبالاً على أرباح المتاجر التقليديّة، تحديداً لأن هذا التفاوت في المعرفة بين البائع والشاري يتقلّص مع التسوّق الإلكتروني، فالزبون يقدر على مراقبة الأسعار في كلّ مكانٍ ومقارنتها قبل أن يقرّر الشراء، ولا يعود التاجر قادراً على استغلال «غلالة الجهل» عند الإنسان العادي للحصول على ربحٍ أعلى). أجهزة المخابرات يخافها الكلّ ويهابها لا لأنها تملك سلطاتٍ واسعة أو جحافلَ من العسكر، بل لأنها تعرف أكثر من الجميع (وعن الجميع).الكثير من المناورات والأكاذيب والنفاق السياسي الذي يجري حالياً في لبنان وسيتزايد خلال الفترة المقبلة، وتُسخّر له الحلبة السياسية والإعلام ويدخل في نقاشات الناس ومخاوفهم، يهدف إلى تسويق خطّةٍ اقتصاديّة «تقشّفيّة» معروفة سلفاً، وتقديمها على أنها «الاحتمال الأفضل». وهذا «العرض» الذي يجري أمامنا (وعلينا) يقوم بالكامل على استغلال «الفارق في المعرفة» بين المواطنين والسلطة، بين مالك المصرف ودافع الضرائب البسيط، ورهان الأقوياء في لبنان هو أنّ السياسات المالية هي موضوعٌ بعيدٌ عن اهتمام الإنسان العادي (وإن كانت ستقرّر شكل حياته ومستقبل أولاده)، وأنّهم قادرون، عبر سطوتهم في السياسة والمجتمع والإعلام، على تضليل المواطن وتشويشه وتخويفه حتّى لا يسائل «الحلول» التي سوف تُفرض - في نهاية الأمر - من فوق.

الخديعة
إن كنت شاباً لبنانياً في مقتبل الحياة، يجب أن تعرف أنّه لم يكن هناك يوماً سببٌ أفضل للهجرة من الآن، وهذا لا علاقة له بحسابات النجاح والسعادة (فهذه، على المدى البعيد، لا يمكن لأحد أن يتنبّأ بها)، بل بسبب عنصر الإهانة والإذلال في المصير الذي يحضرونه لك: حتّى نبسّط، سوف يكون عليك أن تعمل وتكدح لعشرين عاماً قادمة، في ظروفٍ اقتصاديّة بائسة، حتّى يذهب قسطٌ كبير من جناك وجهدك لهدفٍ وحيد، هو دفع الدّين العام وفوائده إلى المصارف ومُقرضي الدّولة. المسألة أصبحت واضحة؛ التصريحات والتأكيدات والإشارات التي تصدر منذ شهورٍ تقول بوضوح إنّ المدينين سوف يعزلون عن عملية «التقشّف» وإن الدين العام سوف يُدفع كاملاً، وإننا أيضاً لسنا بصدد إصلاح ضريبي حقيقي، يبحث عن العائدات لدى الفئات الثريّة التي صُمّم نظامنا الضريبي على قياسها، وتخفيض العملة غير مطروحٍ إلّا كخيارٍ أخير (لا لمصلحة المواطن، بل أساساً لأن هبوط قيمة الليرة يؤثّر سلباً على استثمارات كبار المودعين ومديني الدّولة، وعلى قيمة السوق العقاري).
هذا، منطقياً، لا يترك سوى سبيلٍ واحد لـ«إصلاح» مالية الدولة: خفض الإنفاق على الرواتب وما تبقى من خدماتٍ عامّة، ورفع الضرائب والرسوم التي تُجبى من عموم المواطنين. بكلمات أخرى، سوف يُحكم عليك (إن كنت من محدودي الدخل ولا تتقاضى «راتباً أجنبياً» في البلد أو تملك موقعاً محظياً) أن تدفع - إلى ما شاء الله - نسبةً كبيرةً من دخلك، تستنزف راتبك ومستوى حياتك، وهذه أموالٌ لن ترجع إليك (على شكل خدماتٍ وتعليم واستثمار وبنى تحتيّة)، بل هي تذهب أساساً لدفع الدّين المتراكم وفوائده أو، بتعابير أدقّ، في محاولة لاستدامة هذا النظام لأطول وقتٍ ممكن. أكثر من ذلك، هذا كلّه سيجري في سياقٍ محكومٌ عليه بالجمود الاقتصادي، فلا إنفاق عاماً فيه ولا استثمار ولكن، حتّى وأنت تعاني من البطالة، فلسوف تسدّد حصتك من الدين مع كل استهلاكٍ للوقود أو الهاتف، أو حتى سيجارة «التنفيس» عن حياةٍ صعبةٍ وقاهرة. إن كنت من الذين «يعمل النظام لصالحهم» وليس العكس، فالحياة في لبنان جميلة ولكن، إن كنت من الأغلبية التي ستدفع الفاتورة، فالسيناريو أعلاه لا يبدو مغرياً لمن يبني مستقبله (والمسألة قبل أن تكون مادّة وحسابات هي مسألة مبدأ، قد لا تكون عندي مشكلة في أن يصيبني الفقر لو شاء القدر، ولكن لا أحد يحبّ أن يكون «الحمار» في المعادلة).
هذه هي الصفقة التي تُعرض على اللبنانيين، والتي يتم التفاوض عليها حالياً مع «الجهات المانحة» والمؤسسات الدوليّة، مهما حاولوا تجميلها وتسويقها وتقديمها على أنها «الخيار الوحيد»، مع تخويفنا من أيّ بديل. بعض الفئات المستهدَفة قد تحتجّ أو تفاوض، وقد يحاول الموظفون أو العسكريون أو غيرهم المطالبة بحماية ما من هذه الإجراءات، وسيتمّ وضع الموظفين في وجه دافعي الضرائب، ولكن الخطوط العامة لما يُرسم معروفة سلفاً. خطاب «التقشّف» فيه تضليلٌ هنا، فليس لدى الدولة إنفاق استثماري حقيقي يمكن خفضه، أو أملاك يمكن بيعها، والدّعم (الذي كان مقداره بسيطاً) على أغلب المواد قد تمّ رفعه على مرّ السنوات الماضية. يوجد دعم الكهرباء، وقد حُسم أنّ فاتورة بقيمة تقارب الألف مليار سنوياً ستنتقل إلى عاهل المواطنين، والاتصالات والإنترنت هي أصلاً وسيلةٌ لجباية الضرائب، ولن تكسب الدولة من تخصيصها وبيعها. ما يجري هو ليس «إصلاحاً» أو تقشّفاً، بل تجذير للنهج الحالي الذي أفلس البلد وأفقر المجتمع: استقالة الدولة من الاستثمار في المجتمع وجعل لبنان، بمواطنيه وعمّاله ونظامه السياسي، رهينةً وخادماً لدى من يملك سندات الدّين العام.

الدَّين والحرية
يقول المؤرّخ الأميركي دونالد ليفينغستون إنّ مفهوم الديمقراطية عند توماس جيفرسون كان يقوم على الحدّ من تسلّط الحكومة المركزيّة، والسبيل عنده للحدّ من سطوة الدّولة هو في كبح قدرتها على الإنفاق، وبالأخصّ على الاستدانة. وجد جيفرسون نفسه في مجتمعٍ أميركي يشبه لبنان اليوم إلى حدٍّ ما: طبقة مالية فاسدة، سياسيّون من السّهل التأثير عليهم، وتختلط مصالحهم الخاصّة بنظرتهم إلى إدارة البلد. في سياقٍ كهذا، فكّر جيفرسون، فإنّ الحلّ الوحيد هو ليس في أن تجرّب أن تخرج بدولةٍ كفوءةٍ وفاضلة من وسط قطيعٍ من الضّباع، بل هو في أن تحدّ من نفوذ هؤلاء وقدرتهم على إنفاق الثروة الوطنية والتحكّم بمستقبل الأجيال القادمة. من هنا، كانت «الدّولة الجفرسونية» (التي استمرّت حتى استبدلتها «الديمقراطية اللينكولنية»، الأكثر دولتيةً ومركزية) نظاماً فيه دولة فيديرالية ضعيفة للغاية، ميزانيتها بعشرات ملايين الدولارات، وأغلب القوانين والضرائب تجري على المستوى المحلّي. كان المواطن، تقريباً، لا يدفع أيّ ضرائب، ولا واجبات حقيقية عليه تجاه «الدّولة»، وأكثر الضرائب التي تُفرض تكون محليّة ومؤقّتة ولهدفٍ محدّد، ويتم التصويت عليها. مع ذلك كلّه، كان المواطن يحصل أيضاً على تمثيلٍ فعليّ في العاصمة، واشنطن، بمعدّل ممثلٍ لكلّ 30 ألف مواطن (النسبة اليوم هي أقرب إلى ممثّلٍ لكلّ 800 ألف). هذا المواطن «الجفرسوني»، بحسب ليفينغستون، كان «أكثر المواطنين حريّةً حتّى ذلك الوقت، ومنذ ذلك الوقت» (خذوا بعين الاعتبار أن ليفينغستون يعتبر مؤرّخاً «نيو-كونفدرالياً»، يتعاطف مع الجنوب في الحرب الأهلية. ولكن، لو دقّقتم، سوف يدهشكم عدد المؤرّخين الأميركيين المرموقين الذين ينحازون، بدرجةٍِ أو بأخرى، إلى موقف الجنوب وملّاكي العبيد).
من أهمّ وصايا جيفرسون، يروي ليفينغستون، هو أن لا يُسمح للحكومة بالإفراط في الاستدانة، ونادى بإيجاد آليّاتٍ حتّى لا يُجبر جيلٌ من الأميركيين على دفع ثمن الإسراف والفساد الذي مارسه الجيل الذي سبقه. هذه الحالة، تحديداً، هي التي يواجهها من يدخل اليوم إلى سوق العمل في لبنان. لن نقدم هنا مرافعة في الاقتصاد ولمحمد زبيب سلسلتان من المقالات، واحدة نُشرت في تشرين الأول 2018 والثانية في كانون الثاني من العام الحالي، تشرح بإسهابٍ تكوّن الدّين العام والنّظام المالي الذي يحكمنا منذ الحرب، وتعرض الحلول الكثيرة الممكنة لمشكلة الدّين العام والتي لا يتمّ طرقها. مع ذلك، هناك - حين نتحدّث عن الدين العام والمسؤولية عنه - رقمٌ واحدٌ يجب أن تبقوه في ذاكرتكم: 7%. سبعة بالمئة هي نسبة الإنفاق على إعمار البلد بعد الحرب (بنى تحتية، تنمية، إلخ) من مجمل إنفاق الدولة اللبنانية خلال ما يقارب الربع قرنٍ تلت الحرب الأهلية (والرقم من مقالة زبيب، «الإعمار الزائف ومشروعه العقاري»، 22 تشرين الأول 2018). سوف يتمّ رهن مستقبلنا، حرفياً، لدفع ديونٍ لم تُنفق علينا، راكمتها نخبةٌ فاسدة، متواطئة، واستخدمتها لبناء نظامٍ ماليّ غير منتج، يسهّل الاستيراد ويبني اقتصاداً كاملاً حول تدوير الدين.
ما نريد قوله هنا هو أنّ سؤال الدين العام والتقشّف هو سؤالٌ سياسيٌّ في الجّوهر، قبل أن يكون مسألةً اقتصادية وماليّة. حين يصل تحالف الدّين والمصارف إلى الشّكل الأخطبوطي الذي اتّخذه في لبنان، فإنّ ما يوضع على المحكّ هو ليس سياستنا الماليّة، بل حرّيتنا السياسيّة وأي مفهومٍ للإرادة الشعبية أو السيادة. توجد ألف وسيلةٍ لتخفيض الدّين وإلغائه (من التوقّف ببساطة عن الدّفع إلى وسائل «قانونية»، مثل إصدار قانونٍ بتحويل الدين إلى سندات بلا فائدة، أو إقرار ضريبة بقيمة 90% على فوائد السندات، إلخ) ولكن هذه كلّها لن يجري طرحها لأسباب «سياسية» فحسب، وليس لحسابات الاقتصاد والصالح العام. أن تتمّ حماية أرباح المضاربين وأصولهم هو المفهوم الذي يتمّ ترويجه اليوم عن «الخيار الأفضل»، وكل ما عدا ذلك - عندهم - هو «الكارثة».

خاتمة
لم ينجح الجانب السياسي من «مشروع الحريري» بالكامل في تحويل لبنان إلى دولةٍ أخرى في حلقة «الاعتدال العربي»، وذلك ببساطة بسبب وجود الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة؛ ولكنّ الجانب المالي من مشروع استتباع لبنان قد مرّ من دون مقاومة. من أقوى الأسلحة التي تمتلكها السلطة ضدّك هو بعدك عن شؤون الدّولة وتفاصيل الحكم، وإمكانية التقرير عنك حتّى في قضايا تسير، مباشرةً، ضدّ مصلحتك. إن كنّا سنترك إدارة هذه القضايا للنخب و«الخبراء» الذين أداروها طوال العقود الماضية، فنحن نحكم على غالبية الشعب بأن يسحقها نظام التراتبية والمصالح الذي تم إرساؤه بعد الحرب الأهلية. هذا يعني أن تغوص الفئات الفقيرة أكثر في الفقر والجهل، وأن يصبح الفساد (بأشكاله) هو الوسيلة الوحيدة للارتقاء، وأن نقبل بدور الخدم الأزليين لمن أقرض الخزينة - منذ ثلاثة أو أربعة عقود - مالاً استردّه أضعافاً، وهو يريد المزيد. حتّى انتظار الخراب والانهيار هنا (وهو احتمالٌ جدّي) على أمل بناء نظامٍ أفضل على أنقاض القديم هو ليس حلّاً، فإن أنت لم تأخذ زمام أمرك، سيكون النظام جاهزاً على الدوام لإعادة تشكيل نفسه، وسيكون هناك دائماً «حريري» جديد.