عبد الرحمن جاسم *«هناك حربٌ ستخاض بعد سنين طويلة من الآن؛ لا يستفيق منها البشر، أبداً. لن تستعمل فيها أسلحةٌ معروفة، أسلحتها تلك، لا تقتل إلا بعد حينٍ طويل».
(دانتي أليغري ــ كاتب وشاعر إيطالي)


في البداية ملاحظة مهمة: إن في الغرب مراكز دراساتٍ كثيرة عملها الوحيد هو قراءة المتغيرات السياسية ــ الاجتماعية ــ البيئية التي تحدث في كل الكوكب، فتضع جميع الاحتمالات لكل شيء. وقبول أو رفض مثقفي الأنظمة ومنظّري «اليمين» أو «اليسار» بالأمر لا يعني كونه أكثر من أن تضع يدك أمام الشمس وتقول: لا أرى ضوءاً، أين الضوء الذي يتحدثون عنه؟
هي فكرة أن «الغربي» توقف وسأل نفسه: ماذا سيأتي غداً؟ نحن اليوم أقوى قوى عسكرية معروفة، والشعوب على ضفاف المتوسط ضعيفة ويسهل التلاعب بها، لكن ماذا لو حصل ما يغيّر هذا؟ ماذا لو حدثت قوى ناشئة (العراق إبان حكم صدام حسين، إيران حالياً) وحاولت تغيير المعادلة؟ هل تنفع الخطط القديمة (الطائفية، الدينية، العرقية)؟ ماذا لو نشأت دول ذات عرقية معينة ولكنها تحوي قوةً بشرية كبيرة وإمكانات اقتصادية متميزة (كردستان وتركيا)؟ هل الروسي هو سيد الموقف القادم أم الصين؟ ماذا عن القوى خارج المباشر (دول البريكس مثلاً)؟
أثناء ذلك، يعيش المواطن العربي يومه بيومه. تلك أهم خطوة دأبت الأنظمة الحاكمة وقنواتها (بشكلٍ مباشر أو غير مباشرٍ) على القيام بها. أن ينشغل العربي بقوت يومه، وحياته، ومشاكل أطفاله، أن يبتعد عن التفكير بالعام، بالسياسة، بكل ما له قيمة بعيدة عن اليومية البحتة. «أنت لا تحتاج للتفكير أبعد من أنفك» هو عنوان حياتنا كعرب منذ أكثر مئة عام. باختصار، هي حرب ناعمة تجري الآن، والمواطن في بلادنا لا يعرف عنها شيئاً ودرعه الافتراضية الأخيرة هي مثقفوه الذين لا يقومون بأكثر من أمرين لمواجهة القادم: الهزء بفكرة «المؤامرة» التي تحاك، باعتبار أن التفكير في ما يضمره لنا الغربي هو أمر غبي وغير منطقي. ثانيهما هو «التسليك» و«التشبيك»، والتعبيران هما عماد كل مثقفي العالم العربي خلال آخر خمسة أو ستة عقود تقريباً. التسليك هو أن تجد لك منفذاً ضمن «النخبة»/ «الإنتلجنسيا»، وهو أمر صعب للغاية، لذلك فإن طريق أي مثقف «ناشئ» للدخول هو محاولته «التسليك»، أي كتابة ما يريده «الكبار» وممالأتهم، الكتابة لأجلهم، تصويرهم «كباراً» وأفكارهم «كبيرة» كي يقبلوه ضمنهم وضمن وسطهم. «التشبيك» هو التفصيل الآخر، «التشبيك» هو أن تقيم شبكة من «المطبلين» حولك، مجموعة من «الهمج الرعاع، ينعقون مع كل ناعق، يميلون مع كل ريح» يخيفون أعداءك، ينشرون أفكارك، وفوق كل هذا هم مستعدون «لضرب» الجميع (فعلياً) في حال شتمك أو هاجمك أحدهم.
بعد كل هذا التشاؤم، ماذا سيأتي؟ هل سنجلس مكاننا ونبكي على حالنا؟ كلا! الأمر ليس كذلك البتة، ما دمنا نمتلك قدرةً من أي نوع نستطيع من خلالها «المقاومة»، فالمقاومة أصلاً ليست فعلاً جماعياً كما يعتقد البعض، هي فعلٌ فردي يتحول جماعياً كفكرة «المطر». المطر ينزل قطرة قطرة، ومع هذا فإنه يغطي رقعة واسعة من الأرض تماماً. باختصار، يستطيع الكل أن يقاوم بطريقته، لكن من أوليات المقاومة أن تستوعب وجود أشياء تحدث حولك مقصودة. راقبوا معي مثلاً:
ـــ برامج تلفزيونية سطحية للغاية هدفها ليس تسلوياً، بل بلا أي معنى من أي نوع، مثلاً «برامج الكوميديا ذات المعاني الإباحية والجنسية: بسمات وطن، الجوكرز، شي أن أن. ما هو الهدف من هذه البرامج إن لم يكن تغييبياً؟ أي ضع عقلك في مكانٍ آخر، وفكر جنسياً، ذلك أسهل لك وأفضل، وبالتأكيد أكثر إراحةً!
ــ نشرات أخبار تهدف فحسب إلى إثارة المشاعر والنوازع الدفينة، فالمذيع ــ المراسل هدفه الوحيد هو أن يسحب تعاطفك ومشاعرك ناحيته، فحين مجابهة حدثٍ «جلل» (تفجير مثلاً أو جريمة بشعة) يهرع المراسل ويدفع بكاميرته في فم الضحايا لإخراج حزنهم لاستثمارها في هدفٍ واحد هو جمع «التعاطف» الذي بدوره يتحول لنسبة مشاهدة مرتفعة، التي بدورها تتحول إعلانات وأموالاً. ويدخل في الإطار نفسه التركيز على «مصائب» المجتمع، وعاهاته (امرأة تزوجت عشر مرات، رجل قتل عائلته، حالة إنسانية معقدة) كل ذلك ضمن برامج لا تهدف للحل بمقدار ما تهدف لإثارة الضجة حول نفسها وشخصيات مقدميها لا أكثر ولا أقل (للنشر، أحمر بالخط العريض...).
ــ محللون سياسيون يفتقرون إلى المقدرة الحقة، وبعيدون كل البعد عن الصدقية. تزخر شاشات التلفزة كما أغلب وسائل الإعلام (المرئية/ المكتوبة/ المسموعة) بهذه الأنواع، ومن المفهوم بالطبع لِمَ هم موجودون، البعض منهم لأنه «بوق» فحسب، البعض الآخر «لأنه لا مكان آخر له»، أما البعض الآخر فهو موجود لأنه ليس هناك غيره (سواء من حيث الاتجاه أو الانتماء!). مثلاً ما هي قيمة خديجة بنت قنة الإعلامية مثلاً؟ أو فيصل القاسم؟ أو شريف شحادة؟ ما هي القيمة الحقيقية لهؤلاء كي تستضيفهم الفضائيات بشكلٍ شبه يومي، أو كي تنتشر كلماتهم على مواقع التواصل الاجتماعي باعتبارها ذات قيمة؟ هل دقق أحدٌ في ما يقولونه مثلاً؟ أو عرف فعلاً مدى صحة «معلوماتهم» و«تحليلاتهم»؟ الشعار هنا: ما دمت على الشاشة فأنت «تفهم»!
ــ مسلسلات/ أفلام لا تحكي ولا تحاكي الواقع أبداً. من خلال انتشار المسلسلات «التركية» السطحية والسخيفة إلى درجة الموت السريري. فمسلسلٌ يحتاج مشهدٌ واحد فيه إلى ربع حلقة (قرابة عشر دقائق) يؤكد أن البنية العقلية التي يراد للعربي أن يمتلكها هي «هذه السرعة»، في حين أن معدّل سرعة المشاهد في أي مسلسل «أميركي» مشابه هو «السبعة أضعاف إلى عشرة». هل هذا أمرٌ غير مقصود برأيكم؟ قارنوا مثلاً مسلسل وادي الذئاب – التركي الشديد الشهرة – مع مسلسل أميركي مشابه هو «لعبة العروش» (Game of Thrones) كي تفهموا ما أتحدث عنه. الأمر مقصود وبشدة.
ــ السيطرة شبه التامة على عالم الثقافة الروايات/ الكتب/ القصص. فمن خلال مجموعة محدد بدقة من «الكتّاب» الذين لا يسمح لغيرهم بالولوج إلى عالمهم (راقبوا معي مثلاً كتّاب الصحف والجرائد المحلية والعربية، فهم لم يجرِ تغييرهم منذ عشرات السنين، أليس في الأمر ما يستحق التساؤل؟ في حين أن دماء شابة تدخل بشكلٍ شهري إلى الصحف الغربية/ العالمية).
ــ عبادة المشاهير. وهو أمرٌ يحدث، حتى ولو تعللنا باختلاف الأمر عن الغرب. بالتأكيد في بلادنا يختلف، وهو يأخذ أشكالاً متعددة. حيث لا يوجد من تلتجئ إليه سوى هؤلاء! فبحكم أن المجتمع لا يمتلك أي شخصياتٍ «قاعدية» «قيادية» حقيقية، يلجأ الناس لتأليه هؤلاء، فمن مجنونات ومجانين الفنانين، إلى متابعي برامج المشعوذين/ الحظ/ الأبراج/ التبصير/ المنجمين، الذي ينال بعضهم أرقاماً بستة أو سبعة أصفار لمجرد الظهور التلفازي الواحد (ميشال حايك مثلاً). هي فكرة أن خلاصك لا يكون إلا «بالوهم»/ بالغيبيات، بأشياء لا يمكن السيطرة عليها، وبالتالي لا يمكن تغييرها بالجهد/ العمل أبداً.
ـــ تدمير منظومات القيم الأساسية. السارق لا يحسب سارقاً إلّا إذا ألقي القبض عليه. من يسرق من الدولة هو «عظيم» و«حربوق» و«ذكي»، لكن إذا ما قبض عليه كان «غبياً» لأنه لم يعرف كيفية تغطية الأمر. واللافت أنّ الشعب لا ينظر إليه على أنه «مجرم»، بل بالعكس قد يتحول بعضهم أبطالاً لأنهم مدعومون سياسياً أو من جهات اجتماعية/ دينية/ طائفية معينة.
ــ تدمير منظومات القيم الشخصية. أنت لا تحتاج إلى الجهد والجد في عملك، أنت بحاجة «لواسطة». أنت لست بحاجة لأن تكون «صادقاً» أو «مخلصاً»، يجب أن تكون «مطيعاً» و«شخصيتك ممسوحة» أمام القائد/ صاحب المنصب والنفوذ. كل هذا يدفع المواطن العادي إلى اللجوء للطرق الأسهل والأكثر نجاعة في النجاح الشخصي: الواسطة، الكذب، المداهنة والممالأة! هي أمورٌ تحتاجُ إلى كثيرٍ من التفكّر والرؤية والإدراك، والمشكلة الأكبر فيها إذا ما جرى تجاهلها والتعامل معها على أساس أنه لا يمكن الفرد الواحد القيام بشيءٍ ضدها، وهو ما يتقصده الغرب أصلاً: أن يجعلك تشعر بالعجز، بالضعف، بقلة الحيلة، وأن ما عليك هو تمثيل دور «الشاة» المعدة للذبح، أن تستهلك وتستهلك، أن تكون فقط آلة معدة للدفع، أن تكون شخصاً همه الوحيد أن يكون «عايش لراسي» (كما بالعامية)، لا يعنيه شيء، لا تهمه أمته وشعبه وأناسه بأي شيء. ساعتها نكون أسوأ أمةٍ أخرجت للناس، نأمر بالمنكر وننهى عن المعروف، ونخالف شرع الله وكلامه فينا، ونصبح بحق – ما يتمناه الغربيون منا – خرافاً تنتظر أكلها.
* كاتب فلسطيني

المراجع:
1ــ الإعلام ليس تواصلاً، دومينيك وولتون، دار الفارابي، 2012.
2ــ البيئة الإعلامية الجديدة، أندريا بريس وبروس ويليمز، ترجمة: شويكار زكي، دار الفجر للنشر والتوزيع، 2012.
3ــ تفتيت الشرق الأوسط، د. جيرمي سولت، ترجمة: د. نبيل صبحي الطويل. 2008.
4ــ الخطاب العربي المعاصر: دراسة تحليلية نقدية، د. محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، 1994.
5ــ قضايا في الفكر المعاصر، د. محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، 1997.
6ــ الدول المارقة، نعوم تشومسكي، ترجمة: أسامة إسبر. مكتبة العبيكان، 2004.
7ــ اختلال العالم: حضارتنا المتهافتة، أمين معلوف، دار الفارابي، 2009.
8ــ السلطة والسلطة المضادة في عصر العولمة، أولريش بيك، ترجمة: د. جورج كتورة، و د. إلهام الشعراني. المكتبة الشرقية، 2010.
9ــ الميديا: مجموعة مقالات، فرانسيس بال، ترجمة: د. فؤاد شاهين. دار الكتاب الجديد المتحدة. 2004.
10ــ تشريح الثورة، كرين برنتين، ترجمة: سمير عبد الرحيم الجلبي، دار الفارابي، 2009.
11ــ خيانة المثقفين، إدوارد سعيد، ترجمة: أسعد الحسين، دار نينوى، 2011.