لا يختلف اثنان على أن الرئيس فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين زعيم استثنائي على مستوى العالم، فهو اليوم يقود روسيا في ظروف عالميّة صعبة، معيدًا إليها مجدًا ظنّ العالم أنّه فارقها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. ولعلّه اللاعب الأوحد على الساحة الدولية الذي يحضر بفاعلية حيث يكون الأميركي. فما إن تقوم السياسة الأميركية بتدخّل سافر في شؤون دول أخرى، حتى ترمي روسيا فيتو كما حصل أخيرا في فنزويلا وتتحدّى الأميركيين لتخبرهم بأنّهم ليسوا وحدهم على الساحة الدولية وبأنّ روسيا حاضرة في كلّ السّاحات، لا بل إنها تفوقت عليها في ساحات عديدة.لقد عمل الرئيس بوتين بجدّ على استعادة أمجاد الإمبراطورية الروسية من جديد، عبر انتهاجه استراتيجيات براغماتية مستندة إلى ثوابت مهمّة هي: عدم المواجهة مع الولايات المتحدة الأميركية مباشرة، من خلال تكتيكات لم يسبق لها مثيل في السياسة العالمية حتى أصبح من البديهي إطلاق تسمية «العقد البوتيني» على هذه الفترة من الزمن. الثابتة الثانية، النهوض بالاقتصاد القائم بالدرجة الأولى على الاحتياط الضخم من مادة الغاز، السعي إلى عالم متعدّد الأقطاب وإقامة تحالفات إقليمية ودولية ذات طابع أمني (منظمة شانغهاي) واقتصادي (مجموعة البريكس).
مما لا شك فيه أن هذا «العقد البوتيني» بدأ بالولادة الفعلية خلال الحرب السوريّة، حيث تظهّرت بشكل لافت عودة روسيا، لاعبًا فاعلًا، على خريطة الشرق الأوسط، ولعلّ سبب ذلك عائد إلى حاجة روسيا إلى إقامة شبكة من العلاقات مع دول هذه المنطقة، ودول العالمين الإسلامي والعربي وتحديدًا (إيران- تركيا - سوريا...) بغية تقليص حجم التهديدات على حدودها الجنوبية. والسبب الثاني أن روسيا وريثة الاتحاد السوفياتي حملت جينات هذه الإمبراطورية من حيث محاربتها للهيمنة والسيطرة الغربية وخاصة الأميركية على ثروات الشرق الأوسط بسبب ما تختزنه هذه المنطقة من مادة الغاز الطبيعي والبترول، إذ إنّها بمثابة خزّان عالمي لهذه المواد اللازمة لتسيير الماكينة الحضاريّة في العصر الحديث.
هكذا، فإنّه بعد التدخّل الروسي في الأزمة السورية، لم تعد هذه الأزمة داخليّة تخصّ سوريا وحدها، أو حتى منطقة الشرق الأوسط، بل باتت أزمة دوليّة بامتياز، وقد تظهّر ذلك على وجه التحديد بعد البروز العسكري للاعب الروسي على خطّ المواجهة، ونجاحه في تغيير المعادلات على الأرض، بالرّغم من الحضور الأميركي الذي برز من خلال الضربات العسكرية التي هدف الأميركي من خلالها إلى إعادة إحياء دوره، لكن دون جدوى.
وسط كلّ ذلك، لا بدّ من طرح بعض الأسئلة المشروعة في هذا الإطار، كيف ستكون خريطة المنطقة في ظل صراع الجبابرة؟ وما هو مصير هذا التدخّل الروسي لدى انتهاء ولاية بوتين في روسيا؟ وهل بات لبنان منطقة جذب محتملة لروسيا، وخصوصًا مع اكتشاف حقول الغاز قبالة شواطئه؟ 

النهوض من الإمبراطورية إلى الاتحادية
فاز بوتين بالانتخابات الرئاسيّة الروسية عام 2000، وكان هذا الفوز بمثابة انطلاقة مختلفة في تحديد مسار علاقة روسيا بالغرب، علاقة وفق نمط جديد أساسه إقامة التوازن بين الإرادة والاستطاعة، بمعنى آخر بين ما يطمح إليه بوتين من تغييرات تعيد لروسيا موقعها الريادي على مستوى العالم، وإمكانات ينبغي العمل ضمنها. وبطبيعة الحال، فإنّ تلك التغييرات لم تلق ترحيبًا من الولايات المتحدة، وقد عبّرت عن عدم الترحيب ذاك مستشارة الأمن القومي الأميركي كوندوليزا رايس، معتبرة أنّ روسيا تقوم بتسريب تقنية أسلحتها إلى دول تعتبرها أميركا معادية لها كإيران وكوريا الشماليّة، وبالتالي فإنّ التعامل مع روسيا من وجهة نظرها يُعتبر أمرًا ساذجًا ولا ينبغي له أن يحصل.
انتُخب بوتين لولاية ثانية عام 2004، وكان الاقتصاد الروسي يواجه أزمة «النظاميّة» فانطلقت جهود بوتين نحو إخراج البلاد من هذه الأزمة، عبر تعزيز الاعتماد على الطاقة التي باتت بفضل الرؤية الاقتصادية لبوتين حصنًا منيعًا يحمي الاقتصاد الروسي، ويملأ الخزينة بالاحتياط الأجنبي وليصنّف الاقتصاد الروسي في المرتبة السابعة ضمن أقوى اقتصادات العالم.
قدّم بوتين نموذجًا سياسيًّا فريدًا، فقد اعتمد مع العرب سياسة اليد الممدودة التي لا تردّ يدًا تمتدّ نحوها


في الرابع من أيّار 2012، عاد بوتين إلى سدّة الرئاسة في روسيا، بعدما كان قد تحيّد عنها بين عامي 2008 و2012، وبعودته تلك ركّز جلّ جهده على إحداث علاقة توازن بين أجهزة الدولة، وعلى حماية حقوق المواطنين الروس، سواء كانوا داخل البلاد أو خارجها، مع التأكيد على المبادئ السابقة كالوضوح والبراغماتية وحماية المصالح القومية، من دون الانزلاق إلى نزاعات أو مواجهات، وخصوصًا مع شركاء روسيا.
على المستوى الداخلي الروسي، استطاع بوتين أن يدغدغ الحلم الإمبراطوري الروسي من جديد مستندًا إلى ثلاث ركائز تعتبر محرّكات روسيا على خرائط العالم، وهذه الركائز هي: القومية السلافية، الثقافة الأرثوذكسية والوطنية الروسية حسب الاقتصادي الأميركي جوزيف ستيغليتز.
كذلك، فإنّ بوتين لم يعمد إلى هدم أي من مكاسب روسيا الماضية، حتّى الشيوعية منها، ولطالما وصف نفسه بأنّه شيوعي قلبًا ورأسمالي قالبًا. ولعلّ في هذه النقطة بالتحديد، يكمن سبب نجاحه في تعزيز الدولة وأجهزتها. لكنّه لم يقف من الماضي موقف المتفرّج، بل قام بعمل دؤوب وواسع يهدف إلى «تصحيح الأخطاء الأساسية للسياسات الاقتصادية الارتجالية التي وقعت فيها روسيا نهاية التسعينيات»، تلك الأخطاء المتمثّلة بالتركيز على الخصخصة وإهمال عامل المنافسة، وبإعادة هيكلة المشروعات القائمة بدلًا من خلق مشروعات ووظائف جديدة.

مع العرب المتحالفين مع الغرب المتراجع
على مستوى التعامل مع العرب، قدّم بوتين نموذجًا سياسيًّا فريدًا، فقد اعتمد معهم سياسة اليد الممدودة التي لا تردّ يدًا تمتدّ نحوها، مبديًا تجاوبًا مع كلّ من أراد أن يتعامل معه منهم، وافيًا بوعوده للحلفاء، فكان بذلك النّموذج النقيض للأميركي، الذي يعلم القاصي والداني أن لا حليف حقيقيًّا له في المنطقة إلّا إسرائيل، فكان الخذلان والإذلال نصيب من حالفها منهم. وقد أثبتت التجارب للعرب أنّهم بتحالفهم مع أميركا إنّما يراكمون الخسائر، ولو أنّهم أنفقوا المليارات في استثمارات مع بوتين لما كانت حالهم كما هي عليه اليوم، لكنّهم ركبوا الثور الأميركي الذي سبقتهم الصهيونية إلى ترويضه، فرماهم عن ظهره.
ولكي لا نظلم العرب كثيرًا، فإنّه لا بدّ من الإشارة هنا الى أنّهم في الواقع لا يملكون خياراتهم، فغالبًا ما يفرض عليهم الأميركي خياراته، وبالتّالي فنحن لا نعرف، لو قدّر لهم أن يختاروا بحرية، إلى أيّ جهة كانوا سينحازون.
إنّ التجارب التي جمعت العرب في تحالفات مع الغرب الأميركي والأوروبي منذ ستينيات القرن المنصرم علّمتهم أنّ تحالفاتهم مع الغرب لم تقدّم لهم سوى الخسارة تلو الخسارة في مختلف قضاياهم المحقّة. هكذا انكفأت القضيّة الفلسطينيّة عن الساحة الدوليّة لتتحوّل من قضيّة شعب هُجّر من أرضه وينبغي للعالم أن يجد الحلول ليعود إليها، إلى مجرّد قضية أمنية مشتّتة الأهداف والهويات، وانهارت دول كانت متحالفة مع الغرب حاضنة لمصالحه، كما حصل في ليبيا، كذلك خسروا سوريا الّتي دُمّرت من دون أن يسقط النظام فيها كما كانوا يريدون، ولم تنفعهم كلّ الوعود الّتي أغدقتها عليهم ثمانون دولة (أصدقاء سوريا)، على رأسها الولايات المتّحدة، بهزيمة الرّئيس بشّار الأسد وحلفائه في سوريا. وقبل ذلك، كان العراق ولبنان: أمّا غرقهم في الوحول اليمنيّة، فحدّث عنه ولا حرج.
لقد قدّم الغرب في العراق وليبيا وسوريا نموذجًا صارخًا للمستعمر القاسي الذي لا يرحم ولا يبالي بمقدار الدم العربي الذي يسيل في سبيل تحقيق مصالحه، لكنّ العرب تصرّفوا دائمًا مع الغرب تصرّف الهرّ الذي يلعق السّكين، فيحصل على غذائه من دمائه، ولولا بوتين لما نجت بقعة عربية من مخطّطات الغرب الدامية.
والآن، ها هو الأميركي يعلن بشكل صريح عن قراره الانسحاب التدريجي من سوريا ومن الشرق الأوسط كلّه، ورغم أنّ هذا القرار يبدو للوهلة الأولى من بنات أفكار ترامب، إلا أنّ الحقيقة هي أنّ هذا القرار كان قد بُدئ بتطبيقه في عهد باراك أوباما.
بالنسبة الى الأوروبيّين فهم يعيشون مرحلة حرجة من تاريخهم وتاريخ قارّتهم العجوز التي ما عاد لهم ثقل خارجها، ووسط ما يواجهونه من تهديد بتفكّك اتّحادهم وتصدع القوة الاقتصادية التي يمثلها، فبات همّهم اليوم منحصرًا بالحفاظ على ما تبقّى من هذا الاتحاد وعلى ما يرتبط به من مصالح اقتصاديّة وأمنيّة، وليكن بعد ذلك الطوفان.
في سوريا، يبدو نجاح بوتين لا غبار عليه. فقد وعد بالقضاء على الفوضويين والإرهاب المتطرف واستعادة الدولة المركزية، لذا فقد عمل لمنع سقوط نظام بشّار الأسد كدعامة للدّولة المركزيّة التي لا يقبل بوتين المساومة عليها.
لم يفعل بوتين بالعرب ما فعله الغرب بهم. ذلك الغرب الذي وعد بفوضى خلّاقة فكانت، وكان لها على الأرض العربيّة ضحايا توزعوا بين مشرّدين ومهجّرين ومقتولين بطرق همجيّة. أمّا بوتين، فقد عمد إلى محاولة مدّ جسور الصداقة بين روسيا وبينهم بعد عقود من التنافر مع البعض ممّن وصف بالاعتدال منهم. من هنا، فإنّه كان لزامًا على العرب أن يفتحوا طريقًا بينهم وبين بوتين سيّما وهم يرون بأمّ العين كيف أنّ ترامب لا يرى فيهم إلا مصدرًا للمليارات، ومجالاً لتحقيق الأرباح وخلق الوظائف للشعب الأميركي وهو لا يخجل من التصريح بذلك كلما أتيحت له الفرصة، في المجالس الخاصة وفي المؤتمرات الصحافيّة، وفي خطاباته أمام جمهوره وعلى تويتر. وفوق كلّ ما يعانيه العرب، تذرّ صفقة القرن قرنيها، وتبدو ماضية دون مبالاة بمواقف العرب منها رفضًا أو قبولًا، فهل يكون للعامل البوتيني دور في الحدّ من أضرارها. أليس من الأفضل للعرب أن يفاوضوا على الصفقة وظهرهم محميٌ بحليف مثل بوتين، بعدما فقد الأميركي دوره كوسيط بسبب انحيازه التام لإسرائيل؟
هذا هو بوتين، الرجل الذي قاد روسيا منذ عام 2000 وأعاد لها حضورها في العالم ليثبتها دولة فاعلة تعيد رسم الخرائط في الشرق الأوسط وفي سواه، ولينَصّب نفسه رئيسًا ندر أمثاله في التاريخ، فكان بحقّ الرابح الأكبر في العالم في هذه الحقبة من التاريخ المعاصر، والأهم أنه وضع حدّاً للهيمنة والأحادية العالمية الأميركية التي جرّت الويلات على العالم أجمع.
* محلل سياسي مختص بالشؤون الروسية