معين الرفاعي (أبو عماد)
ارتفعت، في الأيام القليلة الماضية، احتمالات التوصّل إلى اتفاق للتهدئة بين غزة والكيان الإسرائيلي. ومن شأن هذه التفاهمات أن تؤدي، بصورة مباشرة، إلى تخفيف المعاناة الإنسانية لأهلنا في قطاع غزة. ومع ذلك، تبقى هذه التفاهمات سياسية في الدرجة الأولى. لدى حركة حماس والكيان الإسرائيلي مصلحة متبادلة في التوصل إلى «هدنة» طويلة الأمد، تحت مسمى التهدئة، ولكل منهما منطلقاته وأهدافه الخاصة به. لكن، لو افترضنا أن قطاع غزة تحوّل إلى سنغافورة، وأن غزّة استطاعت امتلاك أسلحة نوعية متطورة خلال فترة التهدئة، فسيبقى السؤال: أي قيمة تبقى لغزة القوية والمزدهرة إن أصبحت خارج المعادلة الفلسطينية الكاملة؟!
يشير عدد من تصريحات المسؤولين في حماس والحكومة الإسرائيلية والمنسّق الدولي للشرق الأوسط، نيكولاي ميلادينوف، إلى أن ثمّة فرصة جدّية هذه المرة تتيح التوصل إلى اتفاق لتثبيت التهدئة بين غزة والكيان، قد تكون طويلة. فرئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، كشف عن تسلّمه جداول زمنية من الجانب الإسرائيلي، عبر الجانب المصري، تتضمن تخفيف الحصار على قطاع غزة، ومن بينها توسيع مساحة الصيد البحري، وتسهيل دخول الشاحنات إلى القطاع، وإزالة المنع عن 40% من المواد التي يصنفها الجانب الإسرائيلي على أنها «مزدوجة الاستخدام»، إضافة إلى قضايا أخرى، مثل إعادة الإعمار، وحلّ مشكلة الكهرباء. وجاءت تصريحات رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو لتؤكّد وجود الجداول، ومشيراً إلى أنّ التنفيذ سيتم على مرحلتين، قبل الانتخابات وبعدها. في وقت تشير فيه معلومات إلى وجود مفاوضات غير مباشرة حول صفقة جديدة لتبادل الأسرى.
تدرك حركة حماس، وقوى المقاومة في غزة، أنّ اللحظة السياسية الراهنة تتيح إمكانية ممارسة الضغط على الجانب الإسرائيلي وعلى الإدارة الأميركية من أجل تخفيف الحصار على قطاع غزة. عانى أهالي القطاع طويلاً، على مدى ما يزيد على اثني عشر عاماً، من حصار مشدّد وظالم، حرمهم من أبسط مقومات الحياة الإنسانية، من ماء وكهرباء وغذاء ودواء، فشلت جميع قوافل التضامن مع غزة، والتي انطلقت من موانئ أوروبية وآسيوية وأفريقية في فكّه. ومن الطبيعي أن تحرص قوى المقاومة على تخفيف الحصار عن أهلها وشعبها وأبنائها، وأن تلتقط الفرصة المناسبة لذلك.
وإضافة إلى ذلك، من المأمول أن يسهم تخفيف الحصار عن غزة في توفير بيئة أكثر ملاءمة لتطوير قوة المقاومة وقدراتها، وفق معادلة بسيطة: إن قوى المقاومة التي استطاعت تطوير قدراتها في فترة الحصار، ستوفر لها فترة التهدئة وتخفيف الحصار ظروفاً أكثر ملاءمة لتطوير قدراتها.
في المقابل، يسعى الطرف الإسرائيلي إلى الاستفادة من اللحظة السياسية الحالية لفكّ الارتباط بين قطاع غزة وباقي القضية الفلسطينية، وليس الوطن الفلسطيني فحسب. بعض الأطراف الإسرائيلية يرى أن التوصل إلى اتفاق تهدئة لسنوات طويلة مع حماس من شأنه أن يُخرج سلاح المقاومة من معادلة الصراع، ولو لفترة محدودة، تكون كافية لتنفيذ أجندة السيطرة على القدس الشريف وما تبقى من الضفة الغربية. وقد عبّر نتنياهو بوضوح تام عن هذا الهدف، حين صرح في مقابلة مع صحيفة «إسرائيل اليوم» الصهيونية قائلاً: «لقد قُطعت العلاقة بين غزة وبين يهودا والسامرة (الضفة الغربية). هذان كيانان منفصلان، وأعتقد أنه على المدى البعيد، هذا ليس أمراً سيئاً بالنسبة إلى دولة إسرائيل».
وفي الاتجاه ذاته، تحتاج خطة الإدارة الأميركية لتصفية القضية الفلسطينية، المعروفة باسم «صفقة القرن»، إلى تحييد غزة ومنع قوى المقاومة من التأثير على مسار الخطة. ولا مشكلة لدى هذه الإدارة في إغداق الأموال على قطاع غزة، وتحسين الأوضاع المعيشية لأهله، ثمناً لتمرير الصفقة. ليس المطلوب أن تكون حماس جزءاً من الصفقة، بل أن تحصل على مغريات تمنعها من التفكير في عرقلتها.
بهذا المعنى، ورغم حرص قادة حماس والكيان الإسرائيلي على وصف المحادثات بالإنسانية، إلا أن الجوهر يبقى سياسياً. إخراج قوى المقاومة في غزة من معادلة الصراع على أرض فلسطين، وتقزيم وظيفة المقاومة، وما راكمته من أسلحة وتقنيات وخبرات، إلى وظيفة وحيدة: الدفاع عن غزة ضد أي عدوان إسرائيلي. وبالتالي، لن تكون لدى غزة، عملياً، القدرة على استخدام سلاحها في معارك تتعلق بالقدس، والاستيطان، والأسرى، والعودة، وغيرها. وهذه نتيجة تُسعد الطرف الإسرائيلي، ولا سيما بعد فشله في تدمير المقاومة في ثلاث حروب كبرى، وبعد تآكل قدرات الردع لديه. لم تكن غزة يوماً جزءاً من المشروع الصهيوني الكبير، ولطالما تمنى الزعماء الإسرائيليون أن يبتلعها البحر.
في الطرف الفلسطيني المقابل، يدرك رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أن التفاهمات تصبّ في اتجاه الفصل النهائي، سياسياً وجغرافياً، بين الضفة وغزة، وهو لا يكفّ عن اتّهام حماس بأنها جزء في صفقة القرن. وهو اتّهام متبادل على أية حال. ذلك أن الرئيس عباس نفسه قد ساهم، من حيث يرغب أو لا يرغب، في دفع القطاع إلى أحضان هذه التفاهمات، بعد سلسلة من الإجراءات العقابية التي اتخذها، نتج عنها عكس ما كان يأمله، على ما يبدو.
يراهن العدو الإسرائيلي على عامل الوقت، وهو يظنّ أنّه يسير لصالحه لا سيّما بعد موجة الاختراق لبعض الأنظمة العربية، الخليجية منها على وجه التحديد؛ وما يطمح إليه العدو حالياً هو الحصول على مصادقة عربية على خطة ترامب لتصفية القضية الفلسطينية، ما يمكّنه من فرض مزيد من العزلة السياسية على القوى الفلسطينية. ولهذا الغرض بالذات، يبدو أن الكيان الإسرائيلي والإدارة الأميركية معنيّان بتحييد سلاح المقاومة إلى حين تمرير الصفقة، وهو ما يجب الحذر منه وتداركه.
لا يختلف عاقلان على أن مواجهة مشروع تصفية القضية الفلسطينية تحتاج إلى الكل الفلسطيني، وإلى تحقيق الوحدة الوطنية وإعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني وإصلاح منظمة التحرير الفلسطينية، وتكاتف جميع القوى وتوافقها على برنامج عمل مشترك. غير أن إمكانية تحقيق ذلك تبدو الآن أبعد من أي وقت مضى، وهي مستمرة في التباعد أكثر.
ولا شك أن أنظمة الصواريخ وامتلاك قدرات ردعية من شأنها ردع العدو عن أي عدوان، ولكن لا شك أيضاً في أنّ السلاح بذاته هو وسيلة لتحقيق هدف، لا هدفاً بذاته. ولا يجب السماح للعدو الصهيوني أن يضعنا أمام معادلة فلسطين مقابل الحفاظ على السلاح.
الحل الوحيد المبتقي، حالياً، للشعب الفلسطيني هو خيار العودة إلى المواجهات الميدانية الفدائية. يجب عدم التخلّي عن الضفة الغربية والقدس وأي شبر من أرضنا المحتلة في عام 1948. لطالما قاتل شعبنا الفلسطيني على طريقة حرب العصابات والعمليات الفدائية الشجاعة، وهو نموذج مستمر ومتجذّر في أبناء شعبنا، بدليل استمرار العمليات المنفردة. يجب عدم السماح للعدو الإسرائيلي بتحييد قوى المقاومة عن القضية الفلسطينية ولا عن باقي الوطن. والطريق إلى ذلك هو في إعادة الاعتبار إلى العمليات الفردية في قلب الضفة والقدس وكل فلسطين.
* سياسي فلسطيني