قبل نيل الدول العربية استقلالها الرمزي عن الانتدابين الفرنسي والبريطاني لم يكن ثمّة تقسيم اجتماعي فعلي للعمل. فالثروة في معظمها كانت بيد الاحتلال، وكانت إدارتها تخضع لإشراف مباشر منه عبر وكلائه المتمثّلين بطبقة الإقطاع السياسي. وهذه الأخيرة كانت تحظى بسبب تبعيتها له بتمثيل سياسي كبير في العملية الانتدابية، حيث كانت الوظيفة الفعليّة لهذه العملية هي فصل نمط التمثيل عن الإنتاج، وبالتالي منع ليس فقط تصحيح التمثيل السياسي، بل أيضاً تشكُّل الطبقات الاجتماعية تبعاً لانخراطها في العملية الإنتاجية. حينها، وبسبب هذا الحجر الكولونيالي لتطوُّر المجتمع، لم يكن ثمّة طبقات بالمعنى الفعلي للكلمة، بل كان المجتمع ينقسم على نحو «بدائيّ» إلى: أقلية «سياسية» تدير عملية النهب لمصلحة الاحتلال وتحظى بسبب ذلك بتمثيل سياسي كبير، وأكثرية اجتماعية منهوبة، وغير مسموح لها ليس فقط بالتمثيل سياسياً بل أيضاً بتنظيم نفسها في أطر اجتماعية وسياسية (حتى لا نقول في أحزاب) للحفاظ على مصالحها في مواجهة الأقلية التي تنهبها لمصلحة الاحتلال.
العيش في «القرون الوسطى»
هذا الانقسام السياسي كانت له انعكاسات مباشرة على الواقع الاجتماعي الذي كانت تعيشه هذه الأكثرية. فهي بحكم وجودها جغرافياً في المناطق التي تنتج الثروة في معظم دولنا العربية لم تكن قادرة حتى على بيع قوّة عملها لناهبيها كما تفعل الفئات التي تخضع عادةً للاستغلال في النظم الرأسمالية. النمط الكولونيالي الذي كان قائماً في سوريا ومصر والعراق وليبيا والجزائر و... إلخ بين الحربين العالميتين لم يكن يسمح بمجرّد حصول عملية استغلال أو نهب تقليديتين للقوى التي تخضع له، بل كان يحرمها حتّى من الفتات الذي يُفتَرض أن تحصل عليه لقاءَ استغلالها ونهبها. العملية هنا تشبه إلى حدٍّ كبير واقع الاحتلال الاستيطاني، ولكن من دون وجود مستوطنين، وبالاعتماد بدلاً منهم على متعاونين لا ينتمون إلى هذه البيئات، ولا يشعرون بالحرج ليس فقط من نهبها لمصلحة الاحتلال، بل أيضاً من تركها تعيش في واقع هو أقرب إلى نمط «العصور الوسطى» منه إلى الحياة في دول خاضعة لتنظيم اجتماعي متطوِّر (وفقاً لمعايير ذلك الزمن) مثل سوريا أو العراق أو مصر. الفلّاحون في هذه البيئات، وعلى امتداد العالم العربي لم يكونوا يشعرون بأنهم يقومون بعمل منتج، لأنّ ما يحصلون عليه لقاءَ عملهم الصعب والمضني لم يكن يكفي لمجرّد البقاء على قيد الحياة. هذه الحياة التي تبدأ قبل شروق الشمس وتنتهي قبل غيابها كانت تُشعرِهم بأن الكدّ الذي يقومون به لمصلحة آخرين هو مصدر ليس فقط تعاستهم بل أيضاً الثراء الفاحش للأقلّية التي تنهبهم لمصلحة الاحتلال. الشعور بالنقمة العارمة هو الحالة الطبيعية في ظلّ واقعٍ تنعدم فيه الخدمات بأبسط أشكالها (شبكات المياه والصرف الصحي، الكهرباء، المواصلات، الطرق ...إلخ) ويحصل فيه تمييزٌ كبير بين البيئات والفئات الاجتماعية وفقاً لتصوُّر كولونيالي يضع الريف في قعر العملية الانتدابية - بعد أن يكون قد جُرِّد من أبسط أشكال التنظيم والمقاومة - والمدينة على رأسها. يبدو النهب هنا وكأنه يحصل لمصلحة المدن التي قام الاحتلال بتحديثها وإدخالها في المنظومة الكولونيالية بعد فصلها عن الريف، لكن الاستفادة الفعلية غالباً ما تكون لمصلحة الفئة اللصيقة بالانتداب فحسب، والتي خرجت بعد إبرام معاهدات الاستقلال بخروجه، أو لنقُل إنها لم تعد حاضرة بالقدر نفسه بعد هذا الخروج. وهو ما أبقى هذه المراكز المدينية عند درجة معينة من التطوُّر الاجتماعي، حيث لم يكن يُسمَح بوجود الاحتلال بحصول تنمية تشمل الطبقات التي عادة ما تقود عملية التحديث الفعلية، بعد استعادة الثروة، وحصول تقسيم اجتماعي للعمل في ضوئها.

صعود الطبقات الوسطى العربية
الثورات التي أعقبت الاستقلالات بسنوات، والتي استُهلِّت بثورة يوليو في مصر أتت لتصحيح هذا الخلل، عبر ربط التمثيل السياسي بحصول تنمية واسعة لا تستثني فئة من فئات المجتمع أو طبقاته. الفئات التي أُنصِفت هنا لم تكن خلافاً لما يُعتقَد محصورة بطبقة الفلاحين، بل حصل التطوُّر في العملية الثورية على مراحل، بحيث شملت المرحلة الأولى الأرياف فور تطبيق قانون الإصلاح الزراعي، قبل أن تنتقل لاحقاً بعد الانتهاء من طبقة الإقطاع إلى العمّال مع بداية وضع الخطط الخمسية ومعاودة الربط بين الريف والمدينة تنموياً (في هذه المرحلة نشأت فكرة المناطق الصناعية التي رفعت نسب النموّ في هذه الدول إلى مستويات تضاهي نظيراتها في شرق آسيا)، لتصل أخيراً إلى المدن الكبرى مع صدور قوانين التأميم وامتلاك الدولة للمؤسّسات كافة، مع ما يقتضيه ذلك من نشوءٍ للبيروقراطية الحكومية التي تُعدّ القاعدة الأساسية لنشوء الطبقة الوسطى وتمدُّدها. مصر كانت السبّاقة كالعادة إلى قيادة هذا الشكل من التحوُّل الاجتماعي، قبل أن يلتحق بها بسبب قوّة النموذج وقدرته على التأثير في قطاعات كبيرة وواسعة من الفئات الاجتماعية العربية كلٌّ من العراق وسوريا واليمن وليبيا.
في الحقبة التي تلت تطبيق قوانين الإصلاح الزراعي والتأميم كانت الثورات قد أمسكت بكلّ مفاصل عملية التنمية

في معظم هذه الدول لم يكن التحديث الكولونيالي يسمح بصراع اجتماعي فعلي، ولم يكن بالإضافة إلى ذلك ثمّة تصوُّر لكيفية حصول تنمية بعد خروج الاحتلالات، ومعاودة الإمساك بالثروة الوطنية. الأحزاب التي كانت تمثّل امتداداً لحقبة الانتداب لم تكن فقط تفتقر لهذا التصوُّر، بل كانت تصوُّراتها القديمة والمرتبطة بالمرحلة السابقة بمثابة عقبة في طريق حدوث تطوُّر اجتماعي لمصلحة أكثرية الفئات الاجتماعية العربية، ولذلك هُمِّشت وخرجت تماماً من طور التحوُّل الطبقي الذي قادته الثورات الاشتراكية العربية. ولم يكن أيضاً من قبيل المصادفة أن تنشأ الطبقات الوسطى العربية وتتوسّع في عهد أفول هذه الأحزاب واندثارها، على الرغم من ادعائِها تمثيل المدن، واتهامها الثورات التي قامت في الخمسينيات من القرن الماضي بتهميش الفئات الممثِّلة لها لمصلحة الأرياف. والحال أنّ التمثيل السياسي للمدن، حتى تلك الكبرى منها، في حقبة الانتداب لم يكن بالقدر الذي قدَّمته القراءة النيوليبرالية لهذه المرحلة، وهو بالإضافة إلى ذلك لم يكن يعكس واقع الحجر على تطوُّر هذه الفئات في تلك المرحلة. فهي في معظمها لم تكن تنتمي إلى النسيج الانتدابي أو حتى الإقطاعي، وكان تطوُّرها مرتبطاً غالباً بحصول تنمية فعلية في الريف تخرجه من حلقة النهب التي يعيشها في ظلّ الاحتلال ومن بعده الإقطاع. ولذلك بَدَت أقرب اجتماعياً وطبقياً وحتى سياسياً، ليس للثورات بحدّ ذاتها, بل لحصول تنمية بقيادة الدولة العربية المستقلة حديثاً عن الانتداب، تكون مقدّمة لتطوّرها هي نفسها، إلى الحدّ الذي تصبح فيه بعد اكتمال عملية التحديث عمادَ هذه الدولة وقاعدتها الاجتماعية الفعلية. هو أمر لا يقتصر على دولنا العربية، ولا حتى على دول العالم الثالث وحدها، حيث يتعذَّر القيام بعملية إصلاح حقيقية تعيد توزيع الثروة والدخل ما لم تَخرُج هذه الدول من التبعية الاقتصادية للغرب بعد استقلالها عنه سياسيا وعسكرياً، وما لم تحصل عملية الإصلاح الثورية بقيادة الدولة نفسها، بعد أن تكون قد وضعت المدماك الأول في عملية التنمية عبر تغيير نمط ملكية الأرض، ونقلِها من ناهب الثروة إلى منتجها وصاحبها الأصلي. بعد القيام بهذه المهمّة، يصبح ممكناً التطلُّع إلى توزيعٍ للدخل يعيد تقسيم الثروة بالتساوي بين المواطنين وفقاً لمساهمة كلّ فئة في الإنتاج. وهو المدخل الرئيسي لاحقاً ليس للتنمية الشاملة فحسب، بل أيضاً لتوسّع الطبقات الاجتماعية أفقياً، بحيث يصبح نموّها المطّرد متناسباً مع حجم مساهمتها في عملية الإنتاج التي تقودها الدولة، والتي يمثّل- في الحقبة الاشتراكية من التحوُّل- الفلاحون والعمال محورها الأساسي. ولهذا السبب أيضاً، رُفعت نسبة تمثيل هاتين الفئتين في المؤسّسات التمثيلية التي أنتجتها الثورات الاشتراكية العربية إلى خمسين في المئة، بحيث تتناسب مع حجم مساهمتهما في الدخل القومي، ولا تكون في الوقت ذاته على حساب باقي الفئات المشاركة في التنمية.

الطبقات الوسطى كبديل اجتماعي وسياسي
أبرز مظاهر هذه الحقبة على مستوى المدن كان توسُّع البيروقراطية الحكومية بشكل كبير، وتحوُّلُها بفضل الإصلاحات التي قادتها الدولة إلى «طبقة محظية» لدى هذه النظم، بحيث يصبح الانتساب إليها مدخلاً للصعود الطبقي في مجتمعات كانت قد نسيت بسبب السيطرة الكولونيالية أنّ ثمة تقسيماً اجتماعياً للعمل.
التقسيم هنا يسمح للطبقات الاجتماعية بالتموضع وفقاً لخريطة التوازنات الجديدة التي أنتجتها الثورات، ولا يقترن هذا الصعود بمعيار الولاء للسلطة الجديدة فحسب، بل يحصل كذلك تبعاً لمساهمة هذه الطبقات في عملية التنمية التي تقودها الدولة. وفي هذه المرحلة بالتحديد، أي في الحقبة التي تلت تطبيق قوانين الإصلاح الزراعي والتأميم، كانت الثورات قد أمسكت بكلّ مفاصل عملية التنمية، بعد إنجاز المرحلة الأولى الخاصّة بتغيير قوانين الملكية، والتي بفضلها أصبح ممكناً التركيز أكثر على إنشاء صناعات متقدّمة تكون مدخلاً لمباشرة هذه الدول حقبة التصنيع.
هكذا، وبالإضافة إلى توسُّع الطبقة العمالية بشكل كبير نتيجةً لوضع الخطط الخمسية وربط التنمية بها، نشأت الحاجة إلى تكوين إدارات تكون بمثابة بنية فوقية للعملية التنموية التي يقودها من تحت العمّال والفلاحون. فتعزّزت بسبب ذلك مكانة الطبقة الوسطى التي كان أفرادها قد استفادوا من الإصلاحات الخاصّة بالتعليم (فرض إلزاميته ومجانيته كبنود في الدستور)، والتي سمحت لهم فور تخرّجهم بالحصول على فرص عمل في هذه الإدارات. هذا التوسُّع الأفقي للطبقة الوسطى بفعل الإصلاحات الإدارية الواسعة النطاق لم يقتصر على المدن فحسب، بل شمل الأرياف التي كان قد تعزَّز فيها الواقع الخدمي كثيراً، وبالتالي أصبحت جاهزة للانتقال إلى المرحلة التالية من تثويرها عبر تعليم أبنائها في مدارس الدولة وجامعاتها، لكي يرفدوا الإدارات الجديدة بطاقاتهم، ويصبح بإمكانهم تحسين واقع عائلاتهم أكثر، من خلال جعلها جزءاً من حراك الطبقة الوسطى في الريف. التحوُّل هنا كان كبيراً بكلّ المقاييس، وقد ساعد بفضل عامل الهجرة الداخلية في تعزيز عملية التنمية الخاصّة بربط الريف بالمدن، وفتَحَ المجال ليس فقط لصعود نخب جديدة داخل إدارات الدولة وأجهزتها، بل أيضاً لحدوث التغيُّر داخل المدن نفسها، بحيث أصبحت سواءً في القاهرة أو في دمشق وبغداد تجسيداً فعلياً لمعنى الديمقراطية الاجتماعية. ويمكن القول أيضاً إنّ هذا النموذج التعدّدي قد أصبح في ظلّ حكم الحزب الواحد هو البديل عن غياب الأحزاب، مستفيداً من الطفرة الكبيرة التي أحدثها نموّ الطبقة الوسطى في هذه المرحلة، بما تمثّله من إمكانيات للتسوية والتقاطعات سواءً في السياسة أو في الاقتصاد والاجتماع والثقافة.
* كاتب سوري