«ثمة شبح يحوم حول أوروبا». هو ليس شبح الشيوعية كما قال ماركس وأنجلز في مقدمة البيان الشيوعي عام 1848، وإن كان يحمل بطاقة انتساب إلى الحزب الشيوعي، كذلك إنه يأتي من خارج القارة، ويسمونه خطر التمدّد الصيني. ليس هنالك من هو مهتّم بنشر الشيوعية في أوروبا، ولم يكن لهذه الأيديولوجيا الأوروبية المنشأ أن تتحقّق في السلطة السياسية في أيٍّ من دول أوروبا الغربية، حيث كان الشيوعيون في أفضل أيامهم، باستثناء ألمانيا، بعيدين كل البعد عن السلطة السياسية. ولكن الصين الشعبية اليوم تعود لتظهر في الخطاب الرسمي والأكاديمي الأوروبي ليس فقط كخطر اقتصادي، إنما كخطر أيديولوجي أيضاً. خلال مؤتمر عن الأمن في القارة الأوروبية عُقد في شباط/ فبراير 2018، قال وزير الخارجية الألمانية السابق زيغمار غابرييل: «إن مبادرة طريق الحرير الصينية هي ليست كما يعتقد البعض في ألمانيا، ذكرى عاطفية عن ماركو بولو، وإنما هي محاولة طبع العالم بنظام شامل مؤسّس وقائم على المصالح الصينية، ولم يعد يتعلّق الأمر منذ زمن بالاقتصاد فقط، ولكن الصين تؤسّس لنظام شامل بديل للغرب، النموذج الصيني لا يشبه قيمنا القائمة على الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان الفردية». النظام الشامل البديل الذي يتحدث عنه زيغمار، يبدأ بالتغلغل في النظام القديم كخطوة أولى، عن طريق السعي إلى المزيد من النفوذ في المنظمات الدولية القائمة، ثم ينتقل إلى تأسيس منظمات معادلة للمنظمات التقليدية ذات النفوذ العالمي. إنّ تطويع المنظمات الدولية وبناء أخرى، بما يتوافق مع مصالح ورؤية الصين الأيديولوجية، هو استراتيجية أسّس لها ماو تسي تونغ، بحسب جان بيير كابستان أستاذ العلوم السياسية في الجامعة المعمدانية في هونغ كونغ. أنشأت الصين عام 2012 في أوروبا ما يدعى قمة «16+1»، وهي مبادرة للتعاون في مجال الاستثمارات والنقل والتكنولوجيا والتمويل، قامت بعقد مؤتمرات عدة حتى الآن. في هذه المنظمة الصين هي الواحد، إضافة إلى 11 بلداً من وسط وشرق أوروبا هي أعضاء أساساً في الاتحاد الأوروبي، وخمسة بلدان ليست أعضاء فيه، وبالتالي، حسب مدير البرنامج الصيني الآسيوي فرانكوس غودمنت، تكون أقلّ مناعة لقوة الجذب الصينية، وتصبح أوروبا أكثر عرضة للتقسيم والاختراق من قبل الصين. هذا مثال عن سياسة الصين في مجال المنظمات الإقليمية والدولية، أكثر ما يقلق الأوروبيين فيها أنها في عقر دارهم. بالطبع يضاف هذا إلى شراء الشركات الصينية لشركات أوروبية عريقة، ولموانئ استراتيجية ومهمة، مثل ميناء بيريوس اليوناني، وجزء من ميناء تولوز الفرنسي، بالإضافة إلى أمثلة عديدة أخرى.
وجهة نظر أخرى: الواقعية البراغماتية
قد لا يصحّ القول إن أصحاب هذه النظرة يشكلون تياراً وازناً في أوروبا، لكنه يتألف من أفراد وازنين في الوسط الأكاديمي والصحافي. الأثر الأميركي في أوروبا حقيقةً هو الأعلى صوتاً، وهو أثر تعبوي بالدرجة الأولى، ويهدف إلى حشد الحلفاء وتجنيدهم للمعركة المقبلة. مع ذلك، يقرّ أصحاب النظرة الواقعية بأننا بتنا بالفعل في عالم متعدّد الأقطاب، بل ويتوقعون أن الصين هي التي ستكون القطب الأبرز. سيتبع ذلك طبعاً نتائج حاسمة على صعيد العلاقات الدولية، أهمها ضمور مركزية الحلف الاستراتيجي الأوروبي الأميركي القديم. وهنا يجب على أوروبا البحث عن مكان لها، بعيداً عن التموضع الاستراتيجي مع أحد الأطراف، في عالم متعدّد الأقطاب.
لا يرى زيرين لدى الأميركيين القدرة على كبح الريادة الصينية


يعتبر فرانك زيرين، ممثلاً لهذا الاتجاه، أحد أهم الباحثين المتخصّصين في الشؤون الصينية في ألمانيا. في آخر كتاب منشور له هذا العام، يجيب زيرين على هذه القضية من خلال عنوان الكتاب، الذي هو عبارة عن سؤال يتبعه الجواب مباشرة: «المستقبل؟ الصين». يقول: «الصين ستحلّ بكل تأكيد مكان الولايات المتحدة الأميركية. ففي بعض المجالات، مثل معدل القوة الشرائية، الاقتصاد الصيني هو الأكبر حجماً، بالرغم من أن متوسط دخل الفرد في الصين يقارب مثيله في بلغاريا. للمرة الأولى منذ 500 عام تتجه السيادة الغربية على العالم إلى نهايتها. منذ أن اكتشف كريستوف كولومبوس قارة أميركا عن طريق الخطأ، كنا نحن من نحدد قواعد اللعبة في العالم. نحن القوة التقنية الرائدة، بالرغم من كوننا أقلية في العالم، إذ لا يشكّل الغرب أكثر من 15 في المئة من مجموع سكان العالم، بينما الصين 18%. وهنا تتم إعادة الاعتبار لنوع من التوازن، حيث إن الأغلبية في العالم لا بدّ أن تأخذ مكانها. والسؤال الأساسي هنا ليس إن كان بإمكاننا إيقاف هذا الصعود أم لا، أو إن كان سيحدث أم لا، فهو آت يقيناً. السؤال ما هي تصوراتنا وردة فعلنا حول هذا الصعود». لا يرى زيرين لدى الأميركيين القدرة على كبح هذه الريادة، فالصينيون لا يملكون تقريباً ديوناً خارجية مؤثرة. ميزان التبادل التجاري يميل لصالحهم. معدل الدخل الفردي في الصين منخفض نسبياً، هذا يعني أنه عندما يتم الاستثمار في الصين، فإن فرصة الحصول على عائدات أرباح أكبر أعلى منها في بلدان مثل أميركا أو اليابان، حيث الكثير من القطاعات مكتملة وناجزة منذ زمن، وحيث وضعية الاقتصاد تحتّم المزيد من الاعتماد على الديون. معدل امتلاك السيارات في أميركا مثلاً هو حوالى 800 مالك لكل 1000 شخص، بينما في الصين لا يتجاوز 200، لهذا مبيعات السيارات الكهربائية في الصين هي الأعلى عالمياً، وهو قطاع مرشّح لأن يكون قاطرة الاقتصاد العالمي في السنوات المقبلة. إلى جانب الديون الخارجية الصينية المنخفضة نسبياً، فإنّ معدل الادّخار فيها يقارب 30%، بينما لا يتجاوز في أميركا 6%. طبعاً، وحسب زيرين، لا تكون المديونية بالضرورة سيئة، إذا كان صاحب الدين ليس طرفاً خارجياً ذا قدرة على ممارسة الضغوط، وبالتالي تتعزّز درجة الثقة بالاقتصاد عامة، وقدرة الاحتمال الإجمالية. بعض المعلقين الألمان يفنّدون هذه الصورة الوردية، ويتحدثون عن نهاية المعجزة الصينية، بعد أن سجل الاقتصاد الصيني هذه السنة أرقام نمو تقارب 6.6%، وهي أقل من النسب المسجلة في الأعوام السابقة. يجيب زيرين بأن هذا طبيعي ومحتمل، إذ إن آخر مرة سجل فيها الاقتصاد الأميركي نسبة نمو قاربت 6,5% كانت في عام 1965، ثم أصبح حجم الاقتصاد أكبر من السابق، ولم يعد من الممكن تحقيق نسب نمو مماثلة. لذلك فإنّ هبوط نسب النمو بفارق نقطتين أو أكثر لا يعدّ مؤشراً على تراجع الاقتصاد. أهم العوامل التي يمكن أن تكون مقررة في الاقتصاد اليوم هي مقدار احتياطات النقد الأجنبية، وهي بالنسبة إلى الصين ضخمة جداً. وقبل أن تبدأ هذه الاحتياطات بالذوبان بشكل درامي، لا يمكننا أن نتحدث عن تراجع في الاقتصاد. على أرضية الارتفاع الجنوني لأسعار العقارات في المناطق الحضرية الصينية، يراهن البعض على أن أزمة مماثلة لأزمة عام 2008 تطل برأسها هناك، وأنها قد تنسف الاستقرار المالي للدولة. هنا يفرّق زيرين بين أزمة العقارات ذات التأثير المستمر (الثابتة) الموجودة في أميركا، وبين أزمة العقارات غير الثابتة، أو غير البنيوية الموجودة في الصين. بكلام آخر، تملك الدولة الصينية جميع الوسائل للسيطرة عليها والحد من تأثيرها. مثل: تشريع قانون لا يسمح فيه للعائلة الواحدة سوى امتلاك شقة واحدة. تصعيب شروط الإقراض. زيادة المتطلبات على متعهدي البناء، مثل أن يتم ضمان بيع الشقة قبل اكتمال بنائها، كما أن هذه الإجراءات تم اعتماد بعضها من قبل ونجحت.

نقد الاتجاه الواقعي البراغماتي
مشكلة هذا الاتجاه، أنه حتى عندما يتحدث عن الفروق البنيوية بين الاقتصاد الصيني والاقتصادات الغربية، يبقى تحليله مقتصراً على الجانب الكمي، كما على العمليات الإجرائية، من دون النظر (عمداً) إلى طبيعة الاقتصاد العميقة في الحالتين. لا شكل الملكية الخاصة وتخريجاتها القانونية، ولا طبيعة الاستثمارات، سواء داخل الصين أو خارجها، تسمح لنا بوصف الاقتصاد الصيني كاقتصاد رأسمالي مركزي صرف، يعيش ويزدهر على التفاوت العالمي في الموقع التجاري والثروة. كما أن الطبقة المسيطرة وتعبيراتها السياسية (الحزب الشيوعي الصيني)، تؤكدان هذا الفرق. إن تسليع الأرض الشامل، بالمعنى القانوني، هو الأساس الذي يجب تفحصه عندما نصنف بلداً كرأسمالي أو اشتراكي أو كانتقالي ذي ملامح خاصة. هنا تمنعنا الخصوصية الصينية، كما يقول سمير أمين، بنتائجها البالغة الأهمية، من توصيف الصين المعاصرة ببساطة بأنها رأسمالية. إن ما جرى ويجري في الغرب من انخراط كثيف للبنوك الخاصة في المضاربات المالية، وتحويل القطاع العقاري إلى مصدر لِجني أرباح أكبر بكثير من القيمة الحقيقية لهذا القطاع بمجمله، يحمل معه دوماً خطر تكرار أزمة عام 2008. هذا الجوهر غير موجود في الصين. دور الدولة هناك هو المقرّر، ويملك تحديد وتوجيه التدفقات المالية على القطاعات المختلفة. يرتبط شكل وجوهر هذا الدور ــ وهذا ما لن يقره زيرين ولا غيره في أوروبا ــ بطبيعة الطبقة الحاكمة في الصين، وشكل الملكية القانوني، المستند إلى المفهوم الاشتراكي حسب الخصائص الصينية كما يسمى هناك. إن مفهوم ونتائج قانون الملكية الصيني للأرض يختلف عن الشكل الرأسمالي الكلاسيكي، كما وعن تطوره النيوليبرالي الحالي، الذي يجعل الأرض بكليتها موضوعاً للمضاربة وخلق المال الوهمي.
لا يتحدث ممثلو هذه النظرة خارج منطق التراتبية ضمن نطاق التنافس الرأسمالي للقوى المسيطرة، أي ضمن قواعد اللعبة ذاتها، تلك التي رسمها الغرب منذ عصر الرأسمالية التجارية. نادي دول المركز الرأسمالي هو نادٍ مغلق، يشبه طبقة النبلاء في عصر الإقطاع، وهنالك شك في قدرة هذا النادي على احتمال وافد جديد بحجم الصين، التي بالرغم من تأقلمها مع النظام العالمي الجديد منذ الثمانينيات، حافظت على استقلالها وعناصر قوتها. إن نجاح الصين في ريادة الاقتصاد العالمي، وتغيير شروط التجارة وتدفق البضائع، بل وحتى تغيير مركز العالم، قد لا يكون ممكناً ضمن منطق النظام الرأسمالي ذاته. بكلام آخر، أن يتسع المثلث (الثالوث)، كما يسميه سمير أمين، وهو نادي الدول الإمبريالية المؤلفة من أميركا وأوروبا واليابان، ليصبح مربعاً بإضافة الصين، يخالف منطق سير الاقتصاد العالمي الممركز بالكامل. أحياناً القشة تكسر ظهر البعير إذا ما بلغت حمولته أقصى حد من الاستطاعة. هنا أريد أن أدعي أن البعير أمام مهمة حمل أكياس كبيرة عدة من القش، وعليه المشي تحت المطر.
* باحث سوري