في مؤتمر بوتسدام (تموز 1945)، اتفق ونستون تشرشل وهاري ترومان على إخبار جوزف ستالين بتوصّل واشنطن إلى امتلاك القنبلة الذرية. انتحى الرئيس الأميركي جانب الغرفة مع الزعيم السوفياتي، فيما راقب رئيس الوزراء البريطاني رد فعل ستالين. لم يبد الأخير رد فعل ظاهراً على الحدث، بعد هزيمة الألمان والهزيمة المرتقبة لليابانيين، كان سيكرّس تفوق استراتيجي للولايات المتحدة على الاتحاد السوفياتي في عالم ما بعد الحرب. وصلت موسكو للقنبلة الذرية عام 1949 وتكرّست الثنائية القطبية للعالم بين واشنطن وموسكو التي استندت الى «توازن مبني على إمكانية الإفناء المتبادل». لذلك انبنت الحرب الباردة (1947 ــــ 1989) بينهما على الحروب بالوكالة عنهما من دون الصدام المباشر (حرب الهند الصينية 1964 ــــ 1975) أو على إطفاء الأزمات، بحيث لا تتجاوز حدوداً تؤدي الى الصدام المباشر بينهما (الأزمة الكوبية 1962 ــــ أزمة حرب تشرين 1973) مع اتفاقيات ثنائية بين واشنطن وموسكو لتنظيم الأسلحة النووية وتحديدها (اتفاقيتا سالت 1 عام 1972وسالت 2 عام 1979).كان رأي اليمين الأميركي الجديد مع الرئيس المنتخب عام 1980رونالد ريغان أن هناك ميلاً لتوازن القوى العالمي لمصلحة السوفيات بعد الهزيمة الفييتنامية ومحطات أنغولا وإثيوبيا وأفغانستان ونيكاراغوا، وأن كارتر في (سالت 2) قد أقر بالتعادل النووي الاستراتيجي مع بريجنيف. في آذار 1983، قدّم ريغان «مبادرة الدفاع الاستراتيجية: حرب النجوم» التي قدّمت امكانية تقنية لإبطال مفعول الصواريخ الاستراتيجية العابرة للقارات عبر الأقمار الصناعية، وهو ما دلّ على إمكانية لكسر التعادل النووي بين العملاقين الأميركي والسوفياتي، وبالتالي كسر إمكانية «الإفناء المتبادل» التي انبنت عليها الثنائية القطبية للعالم بين واشنطن وموسكو. كان الوضع الاقتصادي السوفياتي لا يسمح بالدخول في سباق تسلّح جديد كهذا، لذلك كانت السياسة السوفياتية في فترة 1983 ــــ 1987 مبنية على المطالبة بتخلّي واشنطن عن مشروع «حرب النجوم» مقابل تفكيك موسكو صواريخ «س س» المصوّبة نحو العواصم الأوروبية. في مؤتمر واشنطن بالشهر الأخير من عام 1987، تخلّى غورباتشوف أمام ريغان عن ربط «س س» بـ «حرب النجوم» وهو ما عنى بدء انكسار الثنائية القطبية للعالم، الشيء الذي ترجم لاحقاً في انهيار حلف وارسو عام 1989، ما كان إعلاناً عن انتصار واشنطن على موسكو في الحرب الباردة وبداية القطب الأميركي الواحد للعالم. ترجمت الهزيمة العالمية للكرملين (1987) ثم الانحسار الإقليمي للنفوذ السوفياتي (1989) في تفكك الداخل السوفياتي عام 1991.
ظهرت الأحادية القطبية الأميركية للعالم في أزمة وحرب الكويت 1990 ــــ 1991 وفي حرب كوسوفو 1999وفي غزو العراق واحتلاله 2003. كان التفوق الاقتصادي الأميركي والعلمي والتكنولوجي والعسكري مترافقاً مع حالة الأحادية القطبية. ظهرت مقاومات فرنسية ــــ ألمانية ــــ روسية عام 2003 منعت جورج بوش الابن من أخذ تفويض من مجلس الأمن الدولي بعمليته العراقية، ولكن سرعان ما استدار الفرنسيون في العام التالي للاتفاق مع واشنطن تجاه الشرق الأوسط، وهو ما أنتج القرار 1559 تجاه لبنان. لم تصوّت روسيا والصين ضد القرار 1559 الذي عنى محاولة أميركية لترجمة المكاسب الأميركية ببغداد في بيروت ودمشق مع ركوب الفرنسيين الباص الأميركي. في قرارات مجلس الأمن الدولي الخاصة بفرض العقوبات على إيران 2006 ــــ 2010، بسبب استئنافها برنامج تخصيب اليورانيوم في آب 2005 وهو ما عنى انتهاء التلاقي الأميركي ــــ الإيراني الذي كان في العراق المغزو والمحتلّ، لم تكن روسيا والصين عائقاً أمام واشنطن.
الأزمة السورية أتاحت لموسكو وبكين مجالاً لتحدّي الأحادية الأميركية للعالم


هنا، كان أول استيقاظ روسي في حرب جيورجيا ــــ آب 2008 وهو ما ترافق في الشهر التالي مع الأزمة المالية ــــ الاقتصادية في نيويورك. استُكمل الاستيقاظ الروسي من خلال إعادة النفوذ في أوكرانيا 2010 ــــ 2014 عبر انتخاب رئيس أوكراني موال للكرملين وانتهاء مفرزات «ثورة 2004 البرتقالية»، ثم استكملت عملية إعادة نفوذ الكرملين في قرغيزيا وتم تقليص الحضور الأميركي في أوزبكستان وتركمانستان وأذربيجان لمصلحة موسكو، وجرى تعزيز العلاقات الروسية مع كازاكستان وطاجكستان وبيلاروسيا وأرمينيا ومولدافيا. ظلت جيورجيا وجمهوريات البلطيق الثلاث في المدار الغربي، ثم كييف ما بعد شباط 2014. حاولت روسيا من خلال إنشاء مجموعة دول «البريكس» عام 2009، مع الصين والهند والبرازيل، ثم جنوب فريقيا في العام التالي، إنشاء تكتّل دولي يتحدّى الأحادية القطبية ويكرّس فتح طريق جديد نحو عالم متعدد الأقطاب. لم تنجح «البريكس» في ذلك، لكن الأزمة السورية أتاحت لموسكو وبكين مجالاً لتحدي الأحادية الأميركية للعالم في نيويورك من خلال بدء سلسلة الفيتو المزدوج الروسي ــــ الصيني في مجلس الأمن الدولي منذ 4 تشرين الأول 2011 ضد مشروع قرار تدعمه واشنطن.
في الأزمة السورية، ومن خلالها استطاعت موسكو فرض ثنائية روسية ــــ أميركية في معالجة أزمة هي أكبر أزمة داخلية شهدها العالم منذ الأزمة الإسبانية 1936 ــــ 1939 التي أيضاً أصبحت أزمة بطوابق عدة: داخلية ــــ إقليمية ــــ دولية زائد التدخلات فيها من منظمات مسلحة عابرة للحدود. كانت القرارات الدولية 2118 و2254 وطريقة حل «أزمة الكيماوي السوري» تكريساً لهذه الثنائية الروسية ــــ الأميركية واعترافاً من واشنطن بالامتداد الروسي نحو منطقة بالغة الأهمية العالمية مثل الشرق الأوسط، وإلا ما كنّا لنرى السكوت الأميركي على عقود الغاز والنفط الذي أخذتها الشركات الروسية في سوريا ولبنان وإسرائيل ومصر وقبرص. ليس بعيداً أن يكون الصمت الأميركي هذا على الامتداد الروسي لشرق المتوسط محاولة لإغراء روسيا بالابتعاد عن الصين، التي يراها الأميركيون من خلال عملقتها الاقتصادية المتنامية بوصفها الخطر الجدّي الوحيد المهدّد لوضعية القطب الواحد للعالم، حيث هناك رأي في واشنطن منذ عهد باراك أوباما، وهناك تردد حياله في إدارة دونالد ترامب، بالانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط والانزياح شرقاً للتركيز على الشرق الأقصى، حيث بدأت في القرن الواحد والعشرين ملامح انزياح الثقل الاقتصادي العالمي إلى هناك، وبدء انتهاء الزعامة الاقتصادية العالمية لمنطقة الأطلسي البادئة منذ القرن السادس عشر.
في هذا الصدد، ليس بعيداً عن الواقع القول إن التركيز الأميركي في عهد ترامب ضد طهران هو ناتج من إدراك بأن ايران هي بوابة الصين إلى الشرق الأوسط عبر الممر الباكستاني، حيث تبقى إسلام آباد في حالة تحالف مع الصين بحكم حالة العداء الهندي ــــ الصيني. كان تفكير أوباما يتلخص بكسب إيران عبر الاتفاق النووي لتشكيل سد يمنع الحركة الصينية غرباً، ولا مانع عنده من أن تأخذ طهران مقابل ذلك التفكيك لبرنامجها النووي مكاسب في الإقليم الشرق أوسطي، وهو أمر على ما يبدو ترى عكسه إدارة ترامب، باتجاه تحجيم إيران إقليمياً من أجل السيطرة عليها داخلياً، في حركة أميركية شبيهة بما جرى مع السوفيات بين عامي 1989 و1991.
واشنطن ما زالت هي القطب الواحد للعالم بعد ثلاثين عاماً من بدء ذلك، لكن إدارتها للعالم أصبحت أضعف من فترة 1989 ــــ 2003، لذلك قدمت تنازلات للإيرانيين في 2015 وللروس في فترة 2013 ــــ 2019 في سوريا. ما زال هناك تفكير في واشنطن بأن الصين هي الخطر الرئيس على القطب الأميركي الواحد للعالم، وليس الروس. لم تنجح محاولات إنشاء تكتل عالمي يكسر الأحادية القطبية. هناك تفكير انعزالي أميركي جديد مع ترامب يدعو إلى انكفائية عسكرية لا تدخلية في العالم والاكتفاء بالتحكم بالمسرح العالمي عبر «الجنرال الأميركي الأقوى»، الدولار.
*كاتب سوري