تعرّضْتُ لنقدٍ واسع بسبب المقالتين اللتين كتبتهما حول أحداث قطاع غزة، التي تمثلت في اندلاع تظاهرة أو أكثر تم تفريقها بالقوة. وهذا النقد كنت أتوقع ما هو أشدّ منه وأوسع، لأنني أعرف أن ثمة خلافاً جوهرياً حول توصيف الوضع في القطاع، وأن هنالك من لا يعطي الأهمية الكافية لحالة قاعدة المقاومة المسلحة ومدى أهميتها. وقد وصل الأمر بالبعض إلى حدّ رفض الاعتراف بوجود مقاومة. هؤلاء لم تهتزّ شعرة من أبدانهم، بينما كانت تلك القاعدة تتعرّض لثلاث حروب ومئات الغارات، أو لانطلاق مسيرات العودة الكبرى، وما انطلق معها من طائرات ورقية وبالونات أحرقت آلاف الدونمات في المستوطنات المحيطة بالقطاع، فقال بعضهم: لا مقاومة في غزة.أما السبب الثاني وراء توقع هذا النقد، وأكثر منه، فيرجع إلى أنني أعرف كم هنالك من توجهات ضدّ «حماس» من قريبين ومن بعيدين. وهؤلاء ينتظرونها عند كلّ منحنى، ويتربّصون بها حتى عند كلّ هفوة. فكيف إذا كان الأمر يتعلق بتفريق تظاهرة بالقوة، أو ما عُدّ مساساً بحقوق الإنسان أو الديموقراطية، أو بأي شبهة تمسّ الشفافية أو العدالة الاجتماعية، أو العدالة في توزيع الثروة؟ فهنا ستشهد الحملات الشعواء، وتصبح الحبة قبة، والويل ثم الويل لمن لا يشارك في الحملة الكبرى التي تنطلق دفاعاً عن حق التظاهر، وعن الكرامة، وعن الوقوف الحازم ضد الفساد والاستبداد. وتلكم خطيئة المقالتين.
لنقف الآن عند نقطة الاختلاف الأساسية التي تشكل سبب النقد الذي وُجّه للمقالتين، وذلك بالرغم من أن بعض المختلفين أو الناقدين يرون أن نقطة الاختلاف هي حول حق التظاهر ورفض القمع والبطش، ولكن حتى هذا البعض الثاني ثمة خلاف معه حول مستوى الأهمية، وحول الأولوية التي تُعطى لقاعدة المقاومة المسلحة في غزة. إذ لا يكفي أن تقول أنا مع تلك القاعدة، ولكنك لا تتعامل معها أو لا تضعها في موقع الأولوية والأهمية التي تستحقها. وهذا هو سبب اهتزاز موقفك منها حين تعرّضت لتظاهرة ضدها، وتستهدف القضاء عليها، ما دامت تستهدف عمودها الفقري وقيادتها (حماس والجهاد). فهذه التظاهرة لا تمزح، وفيها من يعرف ما يريد. فالمسألة ليست «مسألة بدنا نعيش» (يا للشعار الذي لا علاقة له بحالة الجوع والتضييق والمعاناة التي يسبّبها الحصار، فهذا الشعار شعار مَن قطعت سلطة رام الله رواتبهم بعد بحبوحة، وليس شعار جائعين أو مرضى أو مستضعفين). إن المسألة مسألة ما هو قائم من انقسام.
الكل يعرف أن الانقسام الفلسطيني حدث أوّلَ ما حدث في قطاع غزة، وهو انقسام شمل الشعب والعائلات والجهويات، قبل أن يصبح انقساماً بين سلطتين أو بين قطاع غزة وضفة غربية. وهو في أساسه انقسام سياسي بين سياستين واستراتيجيتين معروفتين. ولهذا، لا يستطيع أحد أن يدّعي أن الانقسام في غزة هو انقسام بين سلطة وشعب، وإنما هو انقسام عميق وكبير في ما بين الشعب نفسه وفي ما بين النخب، وهو ما تؤكده الحشود التي يمكن لكلّ طرف في الانقسام أن يجمعها. وهذا ما لا يَسمح بأن تُصوَّر التظاهرات في قطاع غزة بأنها تظاهرات شعب ضد سلطة، فضلاً عن علاقة تلك السلطة بالمقاومة.
نعود إلى موضع الخلاف الأساسي حول مستوى الأهمية وحول الأولوية التي تُعطى لقاعدة المقاومة المسلحة في غزة. وهنا، يجب أن نفرّق بين مَن يرى أن قاعدة المقاومة المسلحة في القطاع تمثل المستوى الأرقى الذي وصل إليه الكفاح المسلح على أرض فلسطين في تاريخه المعاصر، ولْنَقُل منذ 1/1/1965. فقد أصبحت لدى الشعب الفلسطيني، وعلى أرض فلسطين، قاعدة مقاومة عسكرية تتشكّل من مئات الكيلومترات من الأنفاق، وعشرات الآلاف من المقاتلين، وعشرات آلاف الصواريخ وقذائف المدفعية، ومن مسيرات عودة تضمّ مئات الألوف، وتشكل أروع وحدة وطنية، واستمرت سنة، أسبوعياً حتى الآن، وذلك برغم الحصار الخانق على مدى اثنتي عشرة سنة.
هذا يعني أن ما بين أيدينا، كشعب فلسطيني وقوى مقاومة وممانعة وكأمة عربية وإسلامية، ما يجب أن نحافظ عليه في الصراع ضد العدو الصهيوني، كما يحافظ الإنسان على قلبه وعقله وبؤبؤ عينيه، وعلى أعزّ ما يملك. هذا مكسب لا يجوز أن نفرّط به أو نعرّضه للخطر. وهو مكسب للشعب الفلسطيني وللمقاومة الفلسطينية ككلّ، ولا يجوز أن يُختصر بأنه «حماس» أو بأنه مقصورٌ على قطاع غزة، بل لا يجب أن يُعامل كمجرد مكسب لا يجوز أن نفرّط به أو نعرّضه لخطر فقط، فهذا أضعف الإيمان وأضعف الوطنية، إنما يجب أن ندعمه ونعزّزه ونقوّيه.
هذا هو السبب الرئيس في الموقف الذي اتخذته المقالتان المذكورتان، ولِمَن يريد أن ينتقدهما فليبدأ بموقفه، أولاً، من قاعدة المقاومة المسلحة بغض النظر عمّن يقودها، ومَن عمودها الفقري، أهو «حماس» و«الجهاد»، أم «الشعبية»، أم «فتح»، أم من يكون؟ فما دامت قاعدة مقاومة مسلحة مُوجّهة ضد الكيان الصهيوني (والدليل ثلاث حروب وليس ثلاثة مهرجانات خطابية، والدليل عشرات الغارات والقذائف المتبادلة حتى اليوم) فليس المعيار مَن يقودها، لأنها هي بحدّ ذاتها المعيار، ولأن مقاتلة العدو هي المعيار، ولا معيار آخر في ظرفنا الفلسطيني الراهن يمكن أن نُغلّبه عليها، لا تظاهرة «بدنا نعيش» المُوجّهة ضدها عملياً وموضوعياً حتى لو لم يقصد ذلك مَن شارك فيها، ولا موقف ضد «القمع»، ولا موقف يدافع عن «حقوق الإنسان» أو عن «العدالة» في توزيع الموازنة أو المساعدات.
طبعاً، في ظروف أخرى غير ظرف قاعدة المقاومة المسلحة، المهدَّدة في كل لحظة بالحرب من قِبَل العدو، وبالتآمر من داخل ومن خارج، وفي ظروف غير ظروف الحصار الخانق، فَلْيدافَع عن حق التظاهر، ويُدان من يقاومه حتى بالورود، علماً بأن التناقضات الداخلية في وضع كوضع غزة لا تُعالج بالتظاهر المؤدي الى الصدام لا محالة، وإنما بأساليب أدنى وتحت سقف الحوار والوحدة والصمود ضد الحصار.
ولكن، بالمناسبة، حتى في ظروف بلادنا العربية، كان لا بدّ من التمييز بين نظام مع المقاومة وفي صراع مع العدو الصهيوني وأميركا، وبين نظام اعترف بالعدو الصهيوني أو طبّع أو كان في محور «الاعتدال العربي» مع أميركا. ثم، لِيَتذكر هذا كلُّ من رفض أن يغلّب حق التظاهر أو سواه من «الحقوق» على ما يتطلّبه حق الممانعة والمقاومة والبلد تحت الحصار والاستهداف، فجعل هذا الحق يعلو على أي حق آخر.
طبعاً، قد يقول البعض نحن مع حق التظاهر وضد القمع، ونحن في الآن نفسه مع المقاومة بعامة، أو نحن مع قاعدة المقاومة المسلحة. ولكن أن تكون مع المقاومة بعامة لا يعني تلقائياً أنك مع قاعدة المقاومة المسلحة في قطاع غزة. وهنا خلاف جوهري بين خطين. ثم أن تكون مع قاعدة المقاومة المسلحة في القطاع، وأن تكون في آن واحد مع حق التظاهر ضدها، وأنت لا تعلم ماذا يريد التظاهر وراء شعار «بدنا نعيش»، وإلى أين يريد أن يذهب؟ ثم تتخذ موقفاً في دعمه وشجب تفريقه، فثمة إشكال في موقفك.
أما من يريد كلّ الحقوق مجتمعة ودفعة واحدة، فلن يملك إعطاءنا مثلاً واقعياً كيف حدث هذا وأين حدث؟ يريد الحق في تحرير فلسطين وحق ممارسته، ويريد المقاومة المسلحة، وصولاً إلى قاعدة المقاومة المسلحة في غزة، وفي الوقت نفسه يريد ديموقراطية مثل ديموقراطية «ويست منستر» (المزعومة)، ويريد كرامة إنسانية في أعلى مستوى، ويريد صيانة حقوق الإنسان حتى الأقصى، ويريد حق التظاهر السلمي حتى إطاحة السلطة القائمة. كيف يجتمع كل هذا، وأين اجتمع؟
ثم إن من يريد مقاومة الإمبريالية والصهيونية ودعم المقاومة والممانعة، ولكن يريد نظاماً ديموقراطياً بلا حدود (إياك أن تضع حدوداً)، ويريد حقوق إنسان وحريات وكرامة بلا حدود، ويريد عدالة اجتماعية ولا يريد فساداً ولا أي نوع من الطغيان، فليبحث عن دولة يؤيدها خارج الكرة الأرضية. للأسف طبعاً، ولا حول ولا قوة إلّا بالله.
بلا مواربة، لا يستطيع أحد أن يحمل بطيختين بيد، فكيف بأربع بطيخات؟ إذ لا مفرّ له من أن يُغلّب بعضاً من الحقوق على بعض آخر، ويُغلّب سياسات محددة على قضايا من المؤلم ألّا يقدمها. ولكن لا مفرّ له من عدم رفعها إلى موضع الأولوية، وإلا خرج من اللعبة بل من الحياة، وأفضل ما يفعل عندئذ أن يذهب إلى صومعة.
أما بعد، فخيرٌ لليبراليين من جهة أخرى أن لا نُذكّرهم بما يغضّون الطرف عنه من جرائم الإمبريالية عامة، أو أميركا والكيان الصهيوني، أو ما عليه أصحابهم الحكام الأثرياء من فساد واستبداد وهرولة، وهم يرفعون رايات حقوق الإنسان والديموقراطية ضد قادة المقاومة المسلحة في قطاع غزة، وفي غيره.
ثم، هذا الرد غير موّجه إلى الذين «نقدوا» وهم يقفون مع اتفاق أوسلو ويؤيدون التنسيق الأمني، لأن «نقدهم» لم يأتِ من خطأ في تقدير الموقف، وإنما من خطيئة أساسية هي أمّ الخطايا.
* مفكّر فلسطيني