رافق الغموض إلى يومنا هذا الفينيقيين على الرغم من أنهم نشروا أعظم نتاج حضاري انعكس على اليونان وروما حينها وأعني الكتابة الألفبائية. يقول الباحث يوسف الحوراني في كتابه «مجاهل تاريخ الفينيقيين» إنه «لم يصلنا أثر مكتوب كامل مختص بالفينيقيين كنعانيي لبنان على الرغم من أنهم مبتكرو الحرف ومعلمو الناس الكتابة». ويوافقه المؤرخ توينبي في «تاريخ البشرية» أن سوريا عام 1250 ق. م «بدأت تُظهر قدراتها الوطنية وتخطو خطواتها الأولى لاختراع حروف الهجاء التي أصبحت بأشكالها المختلفة كتابة العالم باستثناء آسيا الصغرى». هذا الأثر الحضاري العظيم أوصله المؤرخ اللبناني يوسف السودا إلى حدود أرادها هو أبعد من الاختراع والانتشار جاعلاً إياه أساساً و«ديناً على اليونان بحضارتهم للفينيقيين وأن ما لتلك الحضارة والعلوم من فضل على البشرية يرجع أصله إلى فينيقيا». هذه النظرة الأخيرة تختلف في موجباتها عن رأيي الحوراني وتوينبي وغيرهما. إذ ينطلق السودا في تاريخ لبنان الحضاري إلى تعميمات فضفاضة دون أن يرجعها إلى بحث علمي منهجي. فيجيب عن سؤال أصل الفينيقيين بالقول «إن لبنان كان آهلاً بالسكان من عشرات ألوف السنين كما أثبتت الحفريات في جبيل وانطلياس»، ويضيف «إن هذه البقعة التي اسمها لبنان قامت قبل التاريخ المدون وما تزال». ولعلّ الإشارة اليتيمة التي لم يستطع السودا أن يتجاهلها لكنه اقتضب فيها، القول بهجرة «قوم من الجنوب (الجزيرة العربية) عرفوا فيما بعد بالفينيقيين». هذا المقال ليس دراسة عرقية ولا درساً يحدّد من هم أهل لبنان الأصليون ومن بقي منهم، بل هو محاولة لإقناع البعض أن البحث التاريخي إن أرجع أصل الفينيقيين إلى الجزيرة العربية، فإن الأمر لا ينتقص من حضارة هؤلاء وإشعاعهم العالمي. فلا يجب لصق الصفات بهذا الشعب لتبرير حضارته. فلا يمكن عزل الفينيقيين عن عالمهم بالقول إنهم شعب مسالم تفرّغ للعلم والتجارة. هذا الأمر غير صحيح وفي غير السياق التاريخي الطبيعي. فحروب هنيبعل التي انطلقت لتضرب عميقاً في الإمبراطورية الرومانية لم تكن فعلاً تجارياً ولم تجر سوى بالسيوف والمقتلات العظيمة. كذلك لا يمكن انتقاء أجزاء من التاريخ لخلق تاريخ آخر يهدف لربط بلد ما في جغرافيته الحديثة بحضارة كانت نفسها لا حدود لها، تكبر وتصغر بحسب الظروف العسكرية السائدة. فقدوم الفينيقيين من الجزيرة العربية لا ينتقص من حضارتهم في الهلال الخصيب، إلا إذا كان ثمة من يرى العروبة انتقاصاً أو يضع الإسلام والعروبة في بوتقة واحدة منتقصاً منهما أيضاً. وعن هذا يكتب حسان الحلاق أن «دراسة تاريخ لبنان الحديث والمعاصر دعت كل فريق لبناني لأن يؤرخ للبنان حسب منظوره الطائفي والإقليمي والسياسي. وأصبح كل فريق يدّعي لنفسه أنه مؤسس لبنان وأساس كيانه وأنه حفيد الفينيقيين الأوائل، يوم لم تكن هناك دراسات تثبت أن الفينيقيين عرب. وما أن انتشرت الدراسات التاريخية والحفريات الأثرية وبينت أن الفينيقيين عرب حتى راح ذاك الفريق يبتعد عن الفينيقية». ولعل الباحث قد يختلف مع الحلاق في كون الفينيقيين عرباً أم لا، إلا أنه لا يمكن بعد اليوم إنكار موطنهم الأول في الجزيرة العربية وساميتهم والتقائهم بالعنصر العربي في لغتهم وطقوسهم الدينية. ولعل ما رد عليه الحلاق مباشرة نستطيع استقاءه من كتابات هنري لامنس أيضاً الذي يجزم «أن لبنان كان قفراً مقفراً لا تأوي إليه إلا كواسر الطيور» مستغرباً كيف أن الكتبة «لا يذكرون شيئاً عن قرى لبنان بل يقصرون الحديث عن المدن الفينيقية على ساحل البحر» وهذا ما يتعارض مع كلام السودا. وقد لا يروق لكثيرين ما نقله لامنس أيضاً في كتابه «تسريح الأبصار في ما يحتويه لبنان من الآثار» (المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين في بيروت 1914) من أن الرومان لما فتحوا الشام «وجدوا لبنان في حوزة قوم من الغزاة في جباله الساحلية من طرابلس إلى جبيل وهم الأيطوريون من القبائل العربية أو الآرامية». ولعل هذا مما قلّ ذكره لدى المؤرخين لغايات قد تكون الإسقاط المقصود أو غيره. غير أن ذكر العنصر العربي أشار إليه أيضاً الشاعر والمؤرخ زكريا محمد في دراسته للوح من الكتابة المقطعية اكتُشف في جبيل ما بين عامي 1928 و1932، فيشرح «إن النقوش هي لغة تعود لما قبل الانشقاق بين اللغات السامية الغربية إلى شمالية-غربية وجنوبية، أي بين اللغة الفينيقية - الآرامية ولغات شبه الجزيرة العربية» ويضيف «إن مقطعية جبيل تجد أصلها في شمال الجزيرة العربية» وهي ترقى إلى نحو 1700 ق. م.، ومن المعلوم أن الألفباء الفينيقية اختُرعت في القرن الحادي عشر قبل الميلاد وأخذها الإغريق نحو عام 750 ق.م عن الفينيقيين.
البحث التاريخي إن أرجع أصل الفينيقيين إلى الجزيرة العربية فإن الأمر لا ينتقص من حضارة هؤلاء


وإذ ربط زكريا محمد مقطعية جبيل بعربية الشمال، فإن فيليب حتي أكد تأثير الكتابة السينائية على الفينيقيين وهذه الكتابة السينائية هي نفسها التي يقول باحثون إنها أصل لغة عرب الجنوب. كما يحلل حتي النقوش التي تصور الأسرى الكنعانيين في مصر وتظهرهم مع لباس الرأس البدوي.
ولعل ما يبقي الأمور القلقة بشأن الفينيقيين معلّقة، عدم قبول البعض بحقيقتهم. فتظهر في كتاب شارل قرم «الفن الفينيقي» هذه اللمحة المدافعة عن فينيقيا المتفردة، إلا أنه لا شك أكثر ذكاء من السودا. فهو يقبل حركة التأثر والتأثير بين الفينيقيين وغيرهم من الشعوب. فيشير إلى «أن كل البلدان تتلاقح، فالفينيقيون يخمرون الأفكار ويتاجرون ويبدعون بخلق الموارد ويتأثرون شيئاً فشيئاً ويهضمون التأثيرات». فالفن الفينيقي بالنسبة له مشابه للفن الفرنسي الذي أخذ من كل الحضارات وعدّل وجمّل وأصبح عالمياً. وكدلالة على التأثر والتأثير في العالم يأتي تحذير باحثين من تأخر الحفريات الأثرية في لبنان مما يساعد مصر واليونان في طمس التأثيرات الفينيقية في حضارتيهما لنوازع غير حيادية، وهذا يدل على عدم وجود حضارة صافية في العالم، وبالتالي سقوط مقولة الاستمرارية الحضارية والشعبية منذ «عشرات ألوف السنوات» كما كتب.
ومن مصاديق التأثيرات الحضارية للفينيقيين أو على الفنييقيين يشير الحوراني إلى البعد السياسي المتطور الذي شهدته قرطاج ابنة مدينة صور والتي قيل ألا أثر يضاهيها في بقية الدساتير، كما أن مدن فينيقيا اعتنت بالعلم وأثّرت في اليونان وكانت لها فلسفتها وديانتها ورياضيوها وملّاحوها وصنّاعها، إلا أنّ هذا بالتأكيد لم يكن حراكاً في اتجاه واحد. هذا الاتجاه كان يتّخذ في مواقع تاريخية عدة شكلاً مختلفاً عن السجال الفلسفي والسياسي ويتخطّى الأمر إلى الحروب الكبيرة، وقد كانت أصعب المراحل على الفينيقية انتشار المسيحية حيث اضطُهد الفينيقيون وأُحرقت كتبهم وقد وصف إحراق تراث العالم الصوري فرفوريوس بالمأساة عام 448 للميلاد.
يُرجع فيليب حتي في «تاريخ سوريا وفلسطين ولبنان» الهجرة السامية الثانية من الجزيرة العربية باتجاه سورية الشمالية إلى عام 2500 ق.م، ويقول «إن الشعب الذي احتل فيما بعد السهل الساحلي سمى نفسه بالكنعانيين وأطلق عليه اليونان فينيقية». وينتسب الأموريون والفينيقيون بحسب حتّي إلى موجة الهجرة نفسها ويصف الكنعانيين (الفينيقيين) بأنهم «ثاني جماعة سامية لعبت دوراً هاماً في تاريخ سوريا بعد الأموريين». وفيما تأثر الأموريون بالسومريين على خط التجارة من بلاد ما بين النهرين إلى الغرب، فإن الفينيقيين كانوا إلى جنوب مناطق الأموريين وقد اتّجهوا في تجارتهم إلى مصر وبعد إلى البحر المتوسط، وهذا ما يبرّر الاختلاف الحضاري الذي نشأ في فترة لاحقة ما بين أبناء الهجرة السامية الواحدة من الجزيرة العربية. ويلتقي توينبي مجدداً مع حتي وبالصراحة نفسها في إرجاع الكنعانيين إلى الجزيرة العربية، فيذكر أنهم أقدم من استوطن سوريا مع الموجات السامية التي شملت الأموريين والعبرانيين والآراميين والعرب.
كمحصلة لهذه الآراء نرى أن طمس هوية الفينيقيين وأصلهم السامي ولغتهم السامية العظيمة لا يفيد في بثّ بُعد حضاري مختلف لمن ادّعى الانتماء إليهم في وقت متأخر من تاريخ سوريا ولبنان. ومن باب آخر فإن فرادة الفينيقيين أيضاً لا يمكن نفيها أو ربطها بأصولهم العرقية فقط. فهذه الفرادة إن لم تتجلَّ سوى في الألفباء لكفّت ووفّت، كيف وهي أعطت نشاطاً فلسفياً ودينياً وعلمياً وأدبياً حالت الظروف العسكرية دون وصوله إلينا، ودلّت كتابات الشعوب الأخرى على مظاهره الأصيلة. هذه المظاهر كانت تعكس في جانب منها ديانتهم السامية وطقوسها ولغتهم السامية التي حملوها معهم وطوروها.
إذن يمكن التوفيق بين رأي عزل الفينيقيين عن أصولهم العرقية السامية قبل استيطانهم سواحل المتوسط، وبين من يعزو البعد الحضاري الفينيقي إلى أصولهم السامية. هذا من خلال الاعتراف بالحقائق التاريخية التي تقول إن هذا الشعب قدم من الجزيرة العربية حاملاً أصول لغته السامية فاستفاد من سوريا ليطور نفسه ويشعّ على الآخرين.
ولعل لكلام شكيب أرسلان صدى في يومنا هذا حين قال: «من نصارى المشرق من يرجع أصلهم إلى الفينيقيين وهو فخر لهم... ولكن من هم الفينيقيون؟ الجواب معلوم وهو أن الفينيقيين هم من الكنعانيين الذي أصلهم من السواحل العربية أي من الشجرة العربية ولغتهم مشابهة للعربية كسائر اللغات السامية».
*صحافي لبناني